أحمد الله وأشكره، أن مد في عمري، حتى زرت مركز القيادة الاستراتيجي، في “الأوكتاجون”، لأرى ذلك الصرح العسكري المصري، المضاهي لأعتى مراكز القيادة الاستراتيجية في العالم، والتي زرت منها الكثير. ورغم ما سمعته عنه، إلا أن زيارتي إلى المركز، في العاصمة الإدارية، زادني انبهاراً بقدرة مصر على تحويل الحلم إلى حقيقة وواقع، فضلاً عن شرف مقابلة الفريق بحري أحمد خالد، قائد مركز القيادة الاستراتيجي، وهو شخصية عسكرية من طراز فريد، استحق أن يكون قائداً لذلك الصرح العظيم.
يقع مركز القيادة الاستراتيجي، بالمبنى الجديد لوزارة الدفاع المصرية، التي يُطلق عليها “الأوكتاجون”، لتكونها من ثمانية مبانٍ، بأضلاع خارجية “متداخلة”، مثمنة الشكل، يتوسطهم مبنيين آخرين، في المركز، مع إمكانية إضافة مبنيين آخرين، داخل هذا المحور، في المستقبل، وفقاً للمخطط الهندسي. تتشابه فلسفة بناء “الأوكتاجون”، مع فكرة مبنى وزارة الدفاع الأميركية “البنتاجون”، خُماسي الأضلاع، في الجمع بين كافة المنشآت، والإدارات المركزية، للجيش في منطقة واحدة، بهدف تيسير وتنسيق العمل والمهام فيما بينها، بدلاً من الوضع القائم، الذي تتوزع فيه تلك المنشآت بين عدد من المناطق، داخل القاهرة، بما يخلق صعوبة في إدارة العمل اليومي، والتنسيق السريع بين الإدارات والهيئات. وهنا تذكرت زياراتي الرسمية، المتكررة، للولايات المتحدة الأمريكية، ضمن وفود مصر العسكرية، عندما كنا ندخل، في الصباح، لمبنى البنتاجون، فلا نخرج منه إلا في نهاية اليوم، لأن جميع القيادات موجودة بداخله، فما كان علينا إلا التحرك من دور لآخر، وفقاً للارتباطات بإدارات أو هيئات متخصصة.
يرجع، توزيع، وتمركز منشآت الجيش المصري، حالياً، إلى أزمنة مختلفة، فتجد بعض تلك المنشآت عبارة عن بقايا معسكرات ومبان الجيش الإنجليزي، التي كانت موجودة بمنطقة العباسية. فضلاً عن أن بناء منشآت ومعسكرات الجيش، كان يعتمد، في الماضي، على التوجه للصحراء، بعيداً عن قلب القاهرة، خارج منطقة العباسية، في ذلك الوقت، ومع الزحف العمراني لتلك المناطق، صار من الضروري إخلائها من المنشآت العسكرية، وجمعها في منطقة واحد، وهي الفرصة التي تهيأت مع العاصمة الإدارية الجديدة، لتواكب القوات المسلحة المصرية الفكر العالمي، بإنشاء مركز القيادة الاستراتيجي، الذي يجمع كافة الإدارات المركزية، والهيئات التابعة لوزارة الدفاع، في مكان واحد، وهو “الأوكتاجون” في العاصمة الإدارية.
خرج التصميم المعماري لمبنى الأوكتاجون، ليمزج بين الحضارتين، المصرية القديمة، والإسلامية، فالواجهة الخارجية للمبنى تشبه معبد حتشبسوت، بينما الشكل المثمن للمبنى مستلهم من النجمة الإسلامية. تم إقامة المبنى على مساحة 189 ألف كيلومتر مربع، ويتكون من خمسة طوابق، ويشمل ستة مراكز؛ الأول مركز البيانات الاستراتيجية، الذي تجتمع فيه كل بيانات أجهزة ومؤسسات الدولة، والثاني هو مركز تحكم الشبكة الاستراتيجية، أما الثالث فهو مركز إدارة وتشغيل مرافق الدولة، والرابع هو مركز الاتصالات، والخامس هو مركز الطوارئ، وأخيراً، السادس، وهو مركز التنبؤات الجوية. كما يوجد مبنيين مركزيين آخرين، أحدهما يمثل المركز الرئيسي للقيادة العامة للقوات المسلحة لإدارة شئون التخطيط والعمليات، والمبنى الآخر للمركز الاستراتيجي المعني بإدارة الأزمات على مستوى الدولة، ومهمته جمع، وتحليل، وحفظ، المعلومات الخاصة بمؤسسات وأجهزة الدولة، وهو ما لم يكن معمولاً به من قبل، في مصر، بهذا النمط المركزي المتميز.
يتماشى ذلك التصميم الجديد لوزارة الدفاع المصرية مع المنظومة العالمية للجيوش المتقدمة، التي تعتمد على التقنيات الحديثة، في ظل عولمة نظام المعلومات واستغلال الفضاء السيبراني، والذكاء الاصطناعي. ولقد تم إنشاء وتجهيز ذلك المقر بأحدث أنظمة العصر من الحاسبات الآلية، ونظم ميكنة وأتمتة المعلومات الحديثة، Automation، بما يضفي مزيداً من الكفاءة في عمليات إدارة القيادات العسكرية. فضلاً عما يحققه من أقصى درجات التأمين الكامل، سواء للأفراد، أو المعلومات، أو المنشآت، باستخدام الوسائط الأوتوماتيكية، للحماية ضد مخاطر الاختراق من الأجهزة المعادية، مع التأكيد على القدرة للعودة للنظام الورقي القديم، حال حدوث أي تهديد أمني، وهو ما اهتمت به القيادة العامة للقوات المسلحة، المسؤولة عن تنفيذ هذا المركز الاستراتيجي. يضاف لكل ما سبق أن مراكز المقر ستضم أماكن إقامة للعاملين، وأسرهم، ومخازن استراتيجية، ومناطق رياضية وترفيهية.
كما يشمل الأوكتاجون مركزاً لإدارة الأزمات، على أعلى مستوى، يعد تطويراً للمركز الذي أنشأته القوات المسلحة، منذ أكثر من 20 عام، ويعتمد على قاعدة عريضة من المعلومات والبيانات الخاصة بكافة اتجاهات الدولة الاستراتيجية، والتي تم استخلاصها من جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها، مع وضع سيناريوهات الحلول، والبدائل المتاحة، لتنفيذها عند حدوث أي أزمة تؤثر على الأمن القومي المصري. يتصل هذا المركز بباقي المراكز إدارة الأزمات، في كافة محافظات ووزارات وأجهزة ومؤسسات الدولة المصرية، بما يحقق لكل قادة القوات المسلحة الاستفادة منها عند الحاجة. وهكذا أدخلت القوات المسلحة المصرية هذا التطوير الجديد، بما يتماشى مع تطورات العصر الحديث، وبما يتيح لقياداتها الاطلاع على كل ما هو جديد ومتطور عالمياً.
تضم القيادة الاستراتيجية، كذلك، الأكاديمية العسكرية للدراسات الاستراتيجية العليا، التي تجمع كلية الحرب العليا، وكلية الدفاع الوطني، وكلية القادة والأركان المصرية، كما تضم داخل المنظومة، الكليات العسكرية المصرية؛ مثل الكلية الحربية، وكلية الدفاع الجوي، بينما ستبقى الكلية الجوية في بلبيس، والكلية البحرية في الإسكندرية، نظراً لطبيعتهما الخاصة. وهكذا تدخل القوات المسلحة المصرية عصراً جديداً في مفهوم القيادة والسيطرة.