أحمد النجدي يكتب.. التفاهة وأختها
مثلما دفعت ثورتا الاتصالات والمعلومات بالبشرية أشواطًا عديدة للأمام مقارنة مع ما كان يعيشه الإنسان قبل قرن تقريبا، صنعت تلك الثورات نظاما صار متعاظمًا ومنتشرا في الأوساط العربية وربما تسيد الواقع الآن. إنه نظام التفاهة، نعم لقد قرأت الكلمة بشكل صحيح! وفي الواقع لن أكون أول من تكلم عن ذلك، حيث سبقني أناس مشهورون مثل الفيلسوف الكَندي “آلان دونو” مؤلف كتاب “نظام التفاهة” ولن أكون آخرهم (أثق في هذا)، لكنني أتفق مع هذا الفيلسوف في تعريف ذلك النظام.
نظام التفاهة هذا يُعرَف على أنه “النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على معظم مناحي الحياة، ويتم فيه مكافأة الرداءة والوضاعة والتفاهة بدلا عن الجدية والمثابرة والجودة في العمل”.
لم يعد ذلك النظام “نظاما عشوائيا”، بل بدأ التنظيم يناله، فهناك مشاهير وتطبيقات وبرامج تحث الناس على إتباع نظام التفاهة أملا في الثراء والرقي السريعين وأصبحوا بمثابة مصانع للتفاهة. هناك مصانع للتفاهات السياسية وغيرها للثقافية وأخرى للرياضية وهكذا دواليك.
في ذلك النظام، المال هو العامل الأول ويكاد يكون الوحيد؛ ولكي تحصل عليه يجب أن يرتفع شأنك في ذلك النظام، فتقدم أتفه محتوى وتهتم بعدد الإعجابات (اللايكات) والمشاركات (الشيرز أو الشيرات) والتفاعلات، وكذلك من الذين وصل إليهم ذلك المحتوى أو الريتش. ويجب أن تتفوق على غيرك؛ فهناك الآلاف يدخلون ذلك المجال يوميا وهم مستعدون ليس فقط لاقتناء أحدث المعدات من موبايلات بكاميرات عالية الجودة أو معدات إضاءة وتصوير ومونتاج، بل ومستعدون أيضا لابتكار أفكار جديدة متفوقة في مجال التفاهة. كلما جمعت أكثر، زاد ترتيبك وزادت الأموال التي تجنيها ومعها مكانتك في المجتمع وتصبح أحد المؤثرين فيه. وقد تنتقل معه من العيش في أماكن الفقر المدقع إلى أماكن فارهة ومترفة، وتستضاف في الداخل والخارج، وقد تحصل على تكريمات من مؤسسات مرموقة لا يحصل عليها أفضل العلماء والمفكرين، وقد تستطيع شراء جنسيات أخرى تتفاخر بها أو تُهدى إليك. ولا مانع من الحصول على درجات علمية حقيقية أو فخرية في الطريق. حقا إنه شيء عجيب، كيف يمكن للتفاهة أن تتنافس مع الإبداع والعلم والذكاء وتتفوق عليهم أحيانا؟
دخولك عالم التفاهة، لا يأتي من باب واحد فهناك أبواب متعددة وكثيرة. فقط اختر المجال الذي ترغب فيه واختر أي مصنع شئت لتنتج تفاهة تتناسب مع رغباتك وإمكانياتك وقدراتك. لا تقلق حول المؤهلات، فلا مؤهلات مطلوبة مثل المستوى الدراسي أو اللغات أو الواسطة أو غيرهم. لا تقلق حول الشكل، فالطويل والقصير والنحيف والبدين جميعهم لهم أماكنهم في ذلك النظام. لا تقلق حول المحتوى، فقط اصنع نسختك الخاصة من التفاهة. لا تقلق كثيرا حول كيفية الترويج، فقط تكون محظوظا وينتشر في المجتمع من تلقاء نفسه انتشار النار في الهشيم. لا تقلق حول المشاهدين، فالمشاهدون التافهون والفارغون كثيرون. وسواء حدث ذلك الانتشار أم لم يحدث، فالاستمرار في تقديم التفاهة مطلوب وبشدة حتى لا تكون خارج الأضواء، وذلك لحين تجميع المبلغ المناسب لآمالك وأحلامك. لا تقلق حول التكاليف، فالنجاح شبه مضمون وما تنفقه اليوم سيرد إليك أضعافا مضاعفة. فقط كن متأكدا من أن التفاهة ليست سهلة أو بسيطة بل هي فن ومنهج مؤسس وله قوانينه ونظرياته، بمعنى أدق هي أسلوب حياة، يجب أن تعتنقه وتؤمن به وتعيشه في كل مناحي حياتك اليومية. تأكد من أن لديك الاستعداد والقدرة على تعلم كل ما هو تافه في ذلك العالم.
هذه الظاهرة لا تقتصر على الجنس الناعم كما تتخيل أو تتوقع، بل يشارك فيه الذكور بشكل مميز، ففي ظل مجتمعات عانت من الفقر والتهميش والجهل وانعدام الثقافة وانتشار الفردية والذاتية والفروق الطبقية المستفزة وارتفاع الأسعار بشكل متزايد، وجد المراهقون والشباب ذكورا وإناثا أن السبيل الأسرع والأضمن للخروج من ذلك الوضع هو الانضمام إلى نظام التفاهة. ذلك أفضل من التعب لسنين طويلة في الدراسة قبل التخرج والبحث عن وظيفة بمرتب مناسب بعد التخرج.
آسف. نسيت أن أعرفكم على التفاهة وشقيقتها الهيافة. التفاهة فاعل من تَفِهَ وتعني الحَقَارَةُ، الدَّنَاءةُ وقد تعني أيضا التحقير والتصغير من الشيء أو قيمته. جمعها: تافهون وتوافِه، ومؤنثها: تافهة، وجمع للمؤنث: تافهات وتوافِه. (معجم المعاني). أما شقيقتها الهيافة، فهي من “هَيْفٌ” ومصدرها هَافَ أو هَيِفَ. والهيف هو: رِيحٌ حَارَّةٌ تَأْتِي عَلَى الْمَاءِ وَالنَّبَاتِ وَتَتْرُكُ الْحَيَوَانَاتِ فِي عَطَشٍ شَدِيدٍ. (المعجم الغني). أي أن التفاهة والهيافة تصيب العقل وتخرب الحياة. التفاهة وأختها مرض يسببان الدهشة والصدمة لدى الأخرين، وتخفض المستوى الفكري والثقافي والعلمي للفرد والمجتمع، هي فيروس ينتشر بسرعة ويدمر كل ما يصادفه في طريقه.
إذن، ما الحل مع هؤلاء المنتمين لذلك النظام؟ الحل جدا سهل وبسيط: التخلص منهم، إهمالهم وتجاهلهم. نحن من نصنعهم رغم أنهم لا يقدمون أي شيء إيجابي. دعهم في عالمهم التافه، سيملون من التجاهل وسيموتون عندما تنعدم المشاهدات واللايكات والمتابعات. ودعم مقدمي المحتوى المحترمين والعلماء والمفكرين؛ فالأمم تنهض بهم وليس بمنتمي نظام التفاهة.