يبحثُ الرجل ُبكل ِما أُوتيَ من أملٍ، وقد قررَ قضاءَ ما تبقى من عمره مستمراً في التنقيب.
يُمسك بأدواتِ الحفرِ مؤمناً أنّه سيصلُ إلى هدفه حتمًا، لكنه يشعرُ بأنّ الوقتَ قد حان ليجلسَ قليلاً ليلتقطَ الأنفاس.
شعَرَ بالحزن بعد قضاء كل هذا الوقت في الحفر دون الوصولِ إلى شيء، سمِعَ أصواتَ انهياراتٍ قريبةٍ لكنها لم تمنعْه من إكمال حلمه.
وافق الرجل على الجلوس للاستراحة، رغم أن شغفَه لاستكمال التنقيبِ كان يتضاعف.
وفيما كان يحفرُ ويبحث ُوينقبُ، خارت قواه، فرفع بصرَه إلى السماء، وتضرعَ أن ينتهي البحثُ في أسرعِ وقتٍ ممكن.
كانت تلك طريقةً مؤسفة حقًا لينتهيَ بها حُلْمُه …
بمجرّد أن حضرتْ عدساتُ القنواتِ الفضائيةِ، وامتلأ المكانُ بالحركة، سُمع دَويُّ انفجارٍ تلاه آخر، جاء المذيعُ ليلقيَ نظرةً على موقعِ التنقيب. وقبل أن يبدأَ البثُ، سأل الرجلَ عن سببِ وجودِه بين هذه الأطلالِ.
أجابَ موجهاً حديثَه إلى السماء :
“هذا بيتي، لم يبقَ منه إلا الذكرى، ذهب كلُّ شيء، يطارد الهلع راحة البال، أبحث عن أي سبب منطقي لرائحة الدماء التي احتلت كل موضع، ولا مكان مطلقًا للابتسامة المفقودة، ثماني سنواتٍ من العمل في أوربا، والآن أبحث عن أولادي الأربعة تحت أحجارِ بيتي، أولادي الأربعة سبقوني إلى الجنة يا الله، يا حبيبي يا الله، أولادي الأربعة؟!”
غمرت الدهشةُ المذيعَ يناجي روحَه “يا لها من صدمة لهذا الرجل، ليته توقعها طوال سنوات غربته، لبذل جهدًا في إقناع نفسه بالبقاء هناك، لكن هيهاتْ”.
نظر إلى المذيع وفي نبرة تحدٍ انطلق لسانُه:
“سوف نبني غيره وننجب عشرة أولاد، ولسوف أعود يا أرضي.”
في تلك الأثناء تلقّى المذيعُ اتصالاً هاتفياً من زملائِه، فقدَ النطق للحظات، ترك الرجلُ أدواتِ البحث، هرع إليه، احتضنَهُ بين يديه يواسيه؛ إذ علم بفقدانِ زوجِه وولدِه وابنتِه وحفيدتِه ولا يزالُ البحثُ جاريًا عن أحباب تحت التراب!
رجفت نفس المذيع، الذي فُجع بفقد أهله، وتزلزلت في صدره، ربّت الرجل على كتفه، فنظر إليه مرتعشا وقال :
-“أصبحت يتيم الأرض، الثكل ثكلي، اغتصبوا بيتي الذي عشت فيه، واستندت إليه، وتنفست روحي هواه”.
غمره الرجل في حضنه يشاطره الأسى ويخفف عنه، وفي تلك اللحظة، سمع صوتا ينبعث من بين الأحجار، تقافز قلبه في صدره، وانطلق المذيع يسابقه صوب الصوت متناسياً كل ما داهمه من حسرة وألم.
هزّ الرجلان الحجر الضخم وحركاه حركة شديدة، يتحديان الزمن للوصول إلى مصدر الصوت، وبعد مشقة وتعب وصلا إلى الطفلة الصغيرة ذات العشر سنوات أسفل لوح خشبي، أزال الأب عن وجهها التراب أخذها وجذبها بسرعة في حضنه، وظل يقبلها ويلهج قلبه بكلمات الثناء والحمد، فسمعها تقول:
-“ماء”.
اندفع الأب في كل اتجاه، يُسرع في مشيته، ثم جرى هنا وهناك حتى أعياه اليأس!
كانت الابنة قاب قوسين أو أدنى من الهلاك لو لم تجُد السماء بماء منهمر؛ إذ أغاث السحاب السماء؛ فكان غوثا ونجدة.
التقط المذيع الكاميرا، ووجهها صوب الطفلة الصغيرة التي قالت:
-“أخيرًا ارتويت! لا أحد في العالم يحس بنا، فقط السماء تحنّ علينا، لماذا نحن بالذات؟! ما سبب كل هذا القهر؟!”
كلمات الطفلة الكبيرة التي تسكن هذا الجسد الصغير أبكت المذيع الذي تذكر ابنته التي انهدم البيت فوق رأسها قبل دقائق.
انطلق صوب بيته؛ ليبحث هو الآخر عن أهله الذين يحتضنهم التراب. ابتسم في وجه الرجل ابتسامة تسليم، وقلبه الذي يغلي ثورة وغيظا ينغمس في الصبر، وهمّ بالانصراف على عجل إلا أن الرجل أبى أن يتركه يمشي وحيدا وسط بِرك الدماء والأنقاض المتراكمة فوق بقايا المدينة المتهدمة؛ رافقه إلى منزله لعله يمد له يد العون في البحث؛ فينتزع -هو الآخر- من بقيَ من أحبابه من بين أظفار الموت.