فن وثقافة

التحدي الفني في مسرحية "مش روميو وجولييت"‏

تكتب د. أماني فؤاد

في إدراك ووعي بقيمة الفن، ورسائل المسرح سريعة التفاعل مع الجمهور، وكدأب ‏المخرج الكبير (عصام السيد)، ورؤيته للرسائل الفنية الواضحة، التي يؤمن بها، ‏ضمْن اختياراته واقتناعاته، تلك التي تشتبك اشتباكًا حقيقيًّا مع قضايا المجتمع ‏المصري المؤرِّقة؛ يقدِّم أحدَثَ مسرحياته؛ “مش روميو وجولييت” على المسرح ‏القومي المصري العريق.‏

وتُعد مسرحية “مش روميو وجولييت” عرضًا غنائيًّا موسيقيًّا استعراضيًّا، بعد ‏غياب هذا اللون المسرحي لعقود عن المسارح المصرية، وهو – في الحقيقة – ‏تحدٍّ فنيٌّ، نادرًا ما تتحمله مجموعة العمل المسرحي، وخاصة في لحظتنا الراهنة، ‏لِما يتضمنه هذا الاختيار من صعوبات فنية مركبة، حيث ضرورة توافُر النَّص ‏الشعري جيِّد الصياغة، المعبِّر عن الصراع، والقادر على التعبير عن قصة العمل ‏بطريقة متماسكة، مشدودة المحاور، بعيدة عن ترهُّل بعض الضرورات الشعرية. ‏
ويقدَّم هذا ضمْن التوافق والاندماج الشعري والموسيقي والاستعراضي، في منظومة ‏فنية متسقة ومتناغمة، يتبادل فيها الشخوص الحوار المغنَّى الموسيقي، وتنصهر ‏جميع عناصرها؛ لتبرِز جميعُها طبيعة الصراع في العمل المسرحي بالكلمة ‏والموسيقى والحركة، في وحدة هارمونية متفاعلة وحقيقية، لقضية حيوية يعاني ‏من آثارها المجتمع بالفعل. ‏
هذا عدا البحث عن العناصر التمثيلية، التي تمتلك الصوت الجميل، متسِع ‏الطبقات، ومتنوِّع التعبير عن المشاعر والأحاسيس؛ ليتمكن من تجسيد الصراع ‏بتوتراته وتحولاته المختلفة، وهو ما يجسده النجم الكبير (على الحجار) ببراعة ‏فائقة، في شخصية يوسف، وأيضًا ما قدَّمته (تريزا) وجسدته مطربة الأوبرا (أميرة ‏أحمد) صاحبة الصوت العذب القوي، والأداء التمثيلي المميز. بالإضافة إلى ‏تدريبات الأداء الصوتي الفائقة، التي أتوقع أن باقي مجموعة العمل من الممثلين ‏قد تمرَّسوا عليها، وعلى رأسهم (رانيا فريد شوقي)، التى يُبرزها هذا العمل أكثر ‏طبيعية وسلاسة ونضجًا فنيًّا، والممثل الموهوب (محمد عادل)، وتجسيده ‏لمستويات الصراع وتحولاته، حيث يتضمن العمل قصةً أُمّ، إطارًا، بداخلها قصة ‏أخرى، يتدرب فيها طلبة مدرسة “الوحدة” على تمثيل مسرحية “روميو وجولييت”، ‏لشكسبير شاعر الكلاسيكيات العظيم، فكل ما استنكره ورفَضه الطالب مع ‏أستاذَيه، يقع فيه دون أن يقصد، وهو ما يتطلب تغيرات حائرة ومربكة، يجسدها ‏محمد عادل بمهارة؛ فيصدِّقها المتلقي، وتبدو الممثلة الواعدة (دنيا النشار) كفراشة ‏محلِّقة على المسرح، سواء في أدائها التمثيلي أو حركاتها الاستعراضية المتقَنة، ‏كما بدت شخصية الناظر – التي قام بها الممثل (عزت زين) – صاحبة رؤية ‏وخيال؛ حيث رأى الفنَّ والتمثيل الجماعي حَلًّا للخروج من هذا الاحتقان، الذي ‏حدَث في المدرسة، بين الطلبة المسلمين والمسيحيين، ولذا اختار تدريبهم على ‏مسرحية “روميو وجولييت”؛ لترسيخ الوعي بقيمة الحب، وتغليبه على التناحر، ‏بعد اشتراكهم جميعًا في تمثيل عمل واحد يضمهم، ولن ينجح إلا بتكاملهم. كما ‏تميَّز – في أداء أدوار الطلبة – الممثلون (طه خليفة) و(آسر علي) و(طارق ‏راغب).‏
وفي معالجة شعرية تتفاوت بين اللهجة العامية واللغة العربية الفصحى يبدع ‏الشاعر (أيمن حداد) نَصًّا ببريق وعبق مغاير، ينوِّع فيه مستويات اللغة؛ لتبرُز ‏لغة الشباب ومصطلحاتهم ومفرداتهم، وطريقتهم في صياغة الجُمل المختزَلة ‏المكثَّفة، كما يتم تجسيد الفصحى على لسان الطالب المتطرِّف، ويشتبك الشاعر ‏مع المعاني والأفكار المحورية، التي تعني الوطن، فيعالِج النَّص الصراعَ ‏والاحتقاناتِ، التي برزت في المجتمع المصري بين طرفي نسيج الأمة المصرية ‏منذ سبعينيات القرن العشرين، فيما سُمي وقتها بالفتنة الطائفية، واستمرار هذه ‏الخلافات كلَّما أيقظتها بعض الخلافات، أو قصة حُب بين مسيحي ومسلمة، أو ‏مسيحية ومسلم، فالسِّر وراء اشتعال الخلاف – في المدرسة – شعور الطلبة ‏بقصة الحب بين زهرة؛ المدرسة المسلمة “رانيا”، ويوسف؛ المدرس المسيحي ‏‏”الحجار”، في حين أنهما يعرفان حدودهما؛ فحوَّلا العلاقة بينهما لصداقة نشأت ‏منذ طفولتهما في حي شبرا، الذي طالما شهِد أجمل تعايُش بين المصريين، بالرغم ‏من اختلاف أديانهم وطوائفهم، كما يبرز النَّص النوستالجيا؛ حيث الحنين لِما ‏كانت عليه سماحة العلاقات بين المصريين، وانعكاس المحبة على البيئة من ‏حولهم.‏
‏ وفي حِس اجتماعي، يرصد الشاعر المسرحي والمخرِجُ الكثيرَ من العيوب ‏الاجتماعية، التي يعاني منها المجتمع المصري منذ عقود، مثل الوصاية على ‏الآخَرين، وشيوع حالة من التوجُّس، وشيطنة الآخَر ومراقبته المستمرة؛ فتكرِّر ‏المجاميع كل حين بين مشاهد العرض: “إحنا ملايين العينين، موجودين عَ ‏الناحيتين، بنراقبهم مهْما عملوا، مهْما راحوا فين”‏
تحوِّل الحيلة الذكية – التي اقترحها الناظر، بإشراك الطلبة من الطرفين في تمثيل ‏مسرحية “روميو وجولييت” – حالةَ الاحتقان إلى حالة من القبول والتعايش بين ‏الطرفين، بل ويخلق الفن – الذي يجسد المحبة – ولادة قصة حُب أخرى، تنمو ‏بين الطالبين؛ علي (محمد عادل) وميرنا (دنيا النشار)، المسلم والمسيحية، ‏فتناجي ميرنا السيدة العذراءَ؛ لتخلِّصها من هذا المأزق، وهنا يطرح النَّص حَلًّا، ‏يتغنى به الأستاذ يوسف (على الحجار)؛ لينصح ميرنا بأن يحوِّل الإنسان، الذي ‏تنتابه عاطفة الحب لشخص مختلف الديانة، إلى صداقة؛ لأن الحب لا يستمر إذا ‏تسبب في جرْح مشاعر الأهل والناس، الذين نعيش معهم، وأحسب نزوع هذا ‏الحل للمثالية، فمن باستطاعته القدرة على هذا التحكم؟ وقد يرى البعض هذا الحل ‏ليس واقعيًّا، ولا ينتصر لحرية الإنسان ومشاعره الطبيعية، التي تتسم بالتلقائية؛ ‏فالحب يقع لأنها مشاعر إنسانية، تحدُث رغم اختلاف الديانات، وهو ما جعَل ‏بعض المجتمعات توجِد ما يسمَّى الآن بالزواج المدني، وهنا قد نلحظ تناوُلًا ‏مسرحيًّا يغلف الواقع بفكر مثالي، يصعب تحقُّقه. ‏
لكن أود الإشارة إلى إنه قد راقتني فكرة أن الفنون كثيرًا ما تقدِّم حلولًا تتسرب ‏عميقا في النفوس البشرية، وتشذِّب عنْفها؛ حيث أنها مادتها، وما تطرَح من أفكار ‏ومُتع تحفّز الإنسان على التفكير في واقعه، وتخرِجه من تابوهاته، الفنون أيضًا ‏لا توضع في مناطق القداسة، التي تغمُر نصوص الأديان، وما ينشأ حولها من ‏سلطة النصوص؛ ففي المجتمعات المحافِظة، تتضخم غُدة الأديان، ويدخل كل ما ‏يتعلق بالدين – من قريب أو بعيد – في منطقة المقدَّس، التي – حفاظًا على ‏قدسيتها – تتصرف الجموع بنزوع نحو التطرف والعنف. ‏
ويزيد من بهاء النَّص وكلماته موسيقى (أحمد شعتوت)، التي انسابت مواكِبة ‏لتوترات الأحداث، ومعبِّرة عن أطراف الصراع ومراحل تحولاتهم. كما ساهمت ‏ببراعة (شيرين حجازي) مصممة الرقصات والاستعراضات بحوار جسدي تعبيري ‏رفيع، عبْر التابلوهات الراقصة، التي توالت تحكي وتجسد صراع العمل بين ‏الأبطال، وتضافَر معها اختيار عُلا جودة ومي كمال للملابس التي تناسِب بيئة ‏العمل الحاضنة، حيث المدرسة بزِيها الرسمي، كما لم يلحَظ المتلقي أيَّ مبالغات ‏في ملابس الممثلين، حيث جاءت لتناسب طبيعة المهنة، والمكان التعليمي، ‏وقداسة المعرفة، والشريحة الاجتماعية أيضًا، كما عبَّرت الملابس السوداء – التي ‏تشبه الغربان، والتي تظهَر في بعض مشاهد المسرحية – عن فِكر الإرهاب ‏الكاره، الذي يحارِب أيَّ ضوء، ويمارس وصايته على الناس، هذا بالإضافة إلى ‏أن المخرج كان موفقا في تكنيك حركة الطلبة من الطرفين على خشبة المسرح، ‏والمدرسين المنقسمين إلى فريقين؛ ليعبِّر عن الخلاف والفُرقة في بداية العمل، ثم ‏يتحولون للاندماج معًا بعد تجسيدهم لمسرحية روميو وجولييت، وتميَّز أيضا ‏ديكور (محمد الغرباوي) بنقل أجواء المدرسة، التي تُعد معادلًا موضوعيًّا للمجتمع ‏كله.‏
كما أضاف عرْض بعض صور أعلام التنوير في مصر منذ عصر نهضتها؛ طه ‏حسين، والعقاد، وسميرة موسى، ونجيب محفوظ، على جدران خشبة المسرح، ‏الحنين إلى نماذج مصر التنويرية، التي حمَلت نهضتها، وعبْر شاشات عرض ‏سينمائية، يسترجع العرض ويوثق للزمن الجميل، حيث الانفتاح على الآخَر في ‏الوعي المصري الأصيل، وقبول الاختلاف بتسامح ونضج، يدرك قيمة التنوع ‏وثراءَه، كما تنقل الشاشات – على جدران خشبة العرض – جمال الشوارع ‏المصرية أول القرن العشرين، وأناقة مواطنيها ورُقيهم في السلوك والمظهر العام، ‏كما تجسد حالة من التصالح مع الحياة لا التناحر فيها.‏
وأود الإشارة إلى الدور المهم الذي يقوم به المخرج الكبير عصام السيد في تقديم ‏أجيال مختلفة من الممثلين في كل مسرحية، حيث الاستفادة بخبرات ونجومية ‏الراسخين الناضجين من الممثلين، وتقديمهم بسلاسة في أدوار متجددة، وإبراز ‏جيل جديد أيضًا، يحمل الشعلة المسرحية، ويستكمل دور الكبار في مسعًى ‏استمراريٍّ تراكمي رفيع. هذا عدا إعداده وإشرافه على العديد من وِرَش العمل؛ ‏لتدريب الممثلين الشباب، ومساعدتهم في وضْع أقدامهم على الطريق الصحيح.‏
في الخِتام، كلَّما حضرتُ إحدى عروض المسرح القومي المصري العريق؛ ‏عاودت تذكُّر القاهرة، التي عُدَّت – في النصف الأول من القرن العشرين – ‏أجمل المدن العربية والعالمية، وأكثرها نظافة وجَمالًا، القاهرة الكوزموبوليتانية، ‏التي يتعايش فيها الجميع، ويُعرض على خشبة مسرحها الرسمي النصوص ‏المسرحية المصرية والمترجمة، ففوق خشبة هذا المسرح تألق أساطين وأعلام فن ‏التمثيل والمسرح المصري في أوج ازدهاره.‏
ما أجمل شعور الإنسان في مصر بحركة التتابع والتراكم الثقافي والفني، ما أجمل ‏شعورنا بأن كل ما ينتج الآن على أرضه الطبيعية، وهو وليد لتاريخ ممتد من ‏العطاءات والإبداعات الفنية، نحن نستكمل مسيرة ممتدة من التاريخ المسرحي ‏المصري، نبني على ما بنينا منذ مئات السنين، نملك الكوادر المبدعة في كافة ‏الفنون، وحين تصدق النوايا نفعل، ونناقش قضايانا التي لا نخشى مواجهتها، بكل ‏تقنيات الفنون المتكاملة. ‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى