في إدراك ووعي بقيمة الفن، ورسائل المسرح سريعة التفاعل مع الجمهور، وكدأب المخرج الكبير (عصام السيد)، ورؤيته للرسائل الفنية الواضحة، التي يؤمن بها، ضمْن اختياراته واقتناعاته، تلك التي تشتبك اشتباكًا حقيقيًّا مع قضايا المجتمع المصري المؤرِّقة؛ يقدِّم أحدَثَ مسرحياته؛ “مش روميو وجولييت” على المسرح القومي المصري العريق.
وتُعد مسرحية “مش روميو وجولييت” عرضًا غنائيًّا موسيقيًّا استعراضيًّا، بعد غياب هذا اللون المسرحي لعقود عن المسارح المصرية، وهو – في الحقيقة – تحدٍّ فنيٌّ، نادرًا ما تتحمله مجموعة العمل المسرحي، وخاصة في لحظتنا الراهنة، لِما يتضمنه هذا الاختيار من صعوبات فنية مركبة، حيث ضرورة توافُر النَّص الشعري جيِّد الصياغة، المعبِّر عن الصراع، والقادر على التعبير عن قصة العمل بطريقة متماسكة، مشدودة المحاور، بعيدة عن ترهُّل بعض الضرورات الشعرية.
ويقدَّم هذا ضمْن التوافق والاندماج الشعري والموسيقي والاستعراضي، في منظومة فنية متسقة ومتناغمة، يتبادل فيها الشخوص الحوار المغنَّى الموسيقي، وتنصهر جميع عناصرها؛ لتبرِز جميعُها طبيعة الصراع في العمل المسرحي بالكلمة والموسيقى والحركة، في وحدة هارمونية متفاعلة وحقيقية، لقضية حيوية يعاني من آثارها المجتمع بالفعل.
هذا عدا البحث عن العناصر التمثيلية، التي تمتلك الصوت الجميل، متسِع الطبقات، ومتنوِّع التعبير عن المشاعر والأحاسيس؛ ليتمكن من تجسيد الصراع بتوتراته وتحولاته المختلفة، وهو ما يجسده النجم الكبير (على الحجار) ببراعة فائقة، في شخصية يوسف، وأيضًا ما قدَّمته (تريزا) وجسدته مطربة الأوبرا (أميرة أحمد) صاحبة الصوت العذب القوي، والأداء التمثيلي المميز. بالإضافة إلى تدريبات الأداء الصوتي الفائقة، التي أتوقع أن باقي مجموعة العمل من الممثلين قد تمرَّسوا عليها، وعلى رأسهم (رانيا فريد شوقي)، التى يُبرزها هذا العمل أكثر طبيعية وسلاسة ونضجًا فنيًّا، والممثل الموهوب (محمد عادل)، وتجسيده لمستويات الصراع وتحولاته، حيث يتضمن العمل قصةً أُمّ، إطارًا، بداخلها قصة أخرى، يتدرب فيها طلبة مدرسة “الوحدة” على تمثيل مسرحية “روميو وجولييت”، لشكسبير شاعر الكلاسيكيات العظيم، فكل ما استنكره ورفَضه الطالب مع أستاذَيه، يقع فيه دون أن يقصد، وهو ما يتطلب تغيرات حائرة ومربكة، يجسدها محمد عادل بمهارة؛ فيصدِّقها المتلقي، وتبدو الممثلة الواعدة (دنيا النشار) كفراشة محلِّقة على المسرح، سواء في أدائها التمثيلي أو حركاتها الاستعراضية المتقَنة، كما بدت شخصية الناظر – التي قام بها الممثل (عزت زين) – صاحبة رؤية وخيال؛ حيث رأى الفنَّ والتمثيل الجماعي حَلًّا للخروج من هذا الاحتقان، الذي حدَث في المدرسة، بين الطلبة المسلمين والمسيحيين، ولذا اختار تدريبهم على مسرحية “روميو وجولييت”؛ لترسيخ الوعي بقيمة الحب، وتغليبه على التناحر، بعد اشتراكهم جميعًا في تمثيل عمل واحد يضمهم، ولن ينجح إلا بتكاملهم. كما تميَّز – في أداء أدوار الطلبة – الممثلون (طه خليفة) و(آسر علي) و(طارق راغب).
وفي معالجة شعرية تتفاوت بين اللهجة العامية واللغة العربية الفصحى يبدع الشاعر (أيمن حداد) نَصًّا ببريق وعبق مغاير، ينوِّع فيه مستويات اللغة؛ لتبرُز لغة الشباب ومصطلحاتهم ومفرداتهم، وطريقتهم في صياغة الجُمل المختزَلة المكثَّفة، كما يتم تجسيد الفصحى على لسان الطالب المتطرِّف، ويشتبك الشاعر مع المعاني والأفكار المحورية، التي تعني الوطن، فيعالِج النَّص الصراعَ والاحتقاناتِ، التي برزت في المجتمع المصري بين طرفي نسيج الأمة المصرية منذ سبعينيات القرن العشرين، فيما سُمي وقتها بالفتنة الطائفية، واستمرار هذه الخلافات كلَّما أيقظتها بعض الخلافات، أو قصة حُب بين مسيحي ومسلمة، أو مسيحية ومسلم، فالسِّر وراء اشتعال الخلاف – في المدرسة – شعور الطلبة بقصة الحب بين زهرة؛ المدرسة المسلمة “رانيا”، ويوسف؛ المدرس المسيحي ”الحجار”، في حين أنهما يعرفان حدودهما؛ فحوَّلا العلاقة بينهما لصداقة نشأت منذ طفولتهما في حي شبرا، الذي طالما شهِد أجمل تعايُش بين المصريين، بالرغم من اختلاف أديانهم وطوائفهم، كما يبرز النَّص النوستالجيا؛ حيث الحنين لِما كانت عليه سماحة العلاقات بين المصريين، وانعكاس المحبة على البيئة من حولهم.
وفي حِس اجتماعي، يرصد الشاعر المسرحي والمخرِجُ الكثيرَ من العيوب الاجتماعية، التي يعاني منها المجتمع المصري منذ عقود، مثل الوصاية على الآخَرين، وشيوع حالة من التوجُّس، وشيطنة الآخَر ومراقبته المستمرة؛ فتكرِّر المجاميع كل حين بين مشاهد العرض: “إحنا ملايين العينين، موجودين عَ الناحيتين، بنراقبهم مهْما عملوا، مهْما راحوا فين”
تحوِّل الحيلة الذكية – التي اقترحها الناظر، بإشراك الطلبة من الطرفين في تمثيل مسرحية “روميو وجولييت” – حالةَ الاحتقان إلى حالة من القبول والتعايش بين الطرفين، بل ويخلق الفن – الذي يجسد المحبة – ولادة قصة حُب أخرى، تنمو بين الطالبين؛ علي (محمد عادل) وميرنا (دنيا النشار)، المسلم والمسيحية، فتناجي ميرنا السيدة العذراءَ؛ لتخلِّصها من هذا المأزق، وهنا يطرح النَّص حَلًّا، يتغنى به الأستاذ يوسف (على الحجار)؛ لينصح ميرنا بأن يحوِّل الإنسان، الذي تنتابه عاطفة الحب لشخص مختلف الديانة، إلى صداقة؛ لأن الحب لا يستمر إذا تسبب في جرْح مشاعر الأهل والناس، الذين نعيش معهم، وأحسب نزوع هذا الحل للمثالية، فمن باستطاعته القدرة على هذا التحكم؟ وقد يرى البعض هذا الحل ليس واقعيًّا، ولا ينتصر لحرية الإنسان ومشاعره الطبيعية، التي تتسم بالتلقائية؛ فالحب يقع لأنها مشاعر إنسانية، تحدُث رغم اختلاف الديانات، وهو ما جعَل بعض المجتمعات توجِد ما يسمَّى الآن بالزواج المدني، وهنا قد نلحظ تناوُلًا مسرحيًّا يغلف الواقع بفكر مثالي، يصعب تحقُّقه.
لكن أود الإشارة إلى إنه قد راقتني فكرة أن الفنون كثيرًا ما تقدِّم حلولًا تتسرب عميقا في النفوس البشرية، وتشذِّب عنْفها؛ حيث أنها مادتها، وما تطرَح من أفكار ومُتع تحفّز الإنسان على التفكير في واقعه، وتخرِجه من تابوهاته، الفنون أيضًا لا توضع في مناطق القداسة، التي تغمُر نصوص الأديان، وما ينشأ حولها من سلطة النصوص؛ ففي المجتمعات المحافِظة، تتضخم غُدة الأديان، ويدخل كل ما يتعلق بالدين – من قريب أو بعيد – في منطقة المقدَّس، التي – حفاظًا على قدسيتها – تتصرف الجموع بنزوع نحو التطرف والعنف.
ويزيد من بهاء النَّص وكلماته موسيقى (أحمد شعتوت)، التي انسابت مواكِبة لتوترات الأحداث، ومعبِّرة عن أطراف الصراع ومراحل تحولاتهم. كما ساهمت ببراعة (شيرين حجازي) مصممة الرقصات والاستعراضات بحوار جسدي تعبيري رفيع، عبْر التابلوهات الراقصة، التي توالت تحكي وتجسد صراع العمل بين الأبطال، وتضافَر معها اختيار عُلا جودة ومي كمال للملابس التي تناسِب بيئة العمل الحاضنة، حيث المدرسة بزِيها الرسمي، كما لم يلحَظ المتلقي أيَّ مبالغات في ملابس الممثلين، حيث جاءت لتناسب طبيعة المهنة، والمكان التعليمي، وقداسة المعرفة، والشريحة الاجتماعية أيضًا، كما عبَّرت الملابس السوداء – التي تشبه الغربان، والتي تظهَر في بعض مشاهد المسرحية – عن فِكر الإرهاب الكاره، الذي يحارِب أيَّ ضوء، ويمارس وصايته على الناس، هذا بالإضافة إلى أن المخرج كان موفقا في تكنيك حركة الطلبة من الطرفين على خشبة المسرح، والمدرسين المنقسمين إلى فريقين؛ ليعبِّر عن الخلاف والفُرقة في بداية العمل، ثم يتحولون للاندماج معًا بعد تجسيدهم لمسرحية روميو وجولييت، وتميَّز أيضا ديكور (محمد الغرباوي) بنقل أجواء المدرسة، التي تُعد معادلًا موضوعيًّا للمجتمع كله.
كما أضاف عرْض بعض صور أعلام التنوير في مصر منذ عصر نهضتها؛ طه حسين، والعقاد، وسميرة موسى، ونجيب محفوظ، على جدران خشبة المسرح، الحنين إلى نماذج مصر التنويرية، التي حمَلت نهضتها، وعبْر شاشات عرض سينمائية، يسترجع العرض ويوثق للزمن الجميل، حيث الانفتاح على الآخَر في الوعي المصري الأصيل، وقبول الاختلاف بتسامح ونضج، يدرك قيمة التنوع وثراءَه، كما تنقل الشاشات – على جدران خشبة العرض – جمال الشوارع المصرية أول القرن العشرين، وأناقة مواطنيها ورُقيهم في السلوك والمظهر العام، كما تجسد حالة من التصالح مع الحياة لا التناحر فيها.
وأود الإشارة إلى الدور المهم الذي يقوم به المخرج الكبير عصام السيد في تقديم أجيال مختلفة من الممثلين في كل مسرحية، حيث الاستفادة بخبرات ونجومية الراسخين الناضجين من الممثلين، وتقديمهم بسلاسة في أدوار متجددة، وإبراز جيل جديد أيضًا، يحمل الشعلة المسرحية، ويستكمل دور الكبار في مسعًى استمراريٍّ تراكمي رفيع. هذا عدا إعداده وإشرافه على العديد من وِرَش العمل؛ لتدريب الممثلين الشباب، ومساعدتهم في وضْع أقدامهم على الطريق الصحيح.
في الخِتام، كلَّما حضرتُ إحدى عروض المسرح القومي المصري العريق؛ عاودت تذكُّر القاهرة، التي عُدَّت – في النصف الأول من القرن العشرين – أجمل المدن العربية والعالمية، وأكثرها نظافة وجَمالًا، القاهرة الكوزموبوليتانية، التي يتعايش فيها الجميع، ويُعرض على خشبة مسرحها الرسمي النصوص المسرحية المصرية والمترجمة، ففوق خشبة هذا المسرح تألق أساطين وأعلام فن التمثيل والمسرح المصري في أوج ازدهاره.
ما أجمل شعور الإنسان في مصر بحركة التتابع والتراكم الثقافي والفني، ما أجمل شعورنا بأن كل ما ينتج الآن على أرضه الطبيعية، وهو وليد لتاريخ ممتد من العطاءات والإبداعات الفنية، نحن نستكمل مسيرة ممتدة من التاريخ المسرحي المصري، نبني على ما بنينا منذ مئات السنين، نملك الكوادر المبدعة في كافة الفنون، وحين تصدق النوايا نفعل، ونناقش قضايانا التي لا نخشى مواجهتها، بكل تقنيات الفنون المتكاملة.