بمناسبة أعياد الأُم والأُسْرة هذا العام، وددتُ أن أشارِكَ حضراتكم مناقشة بعض الملاحظات والظواهر، التي أتصوَّر تكرارها في المجتمع بطبقاته المختلفة، ظواهر أصبحت شائعة بين الشباب المعاصِر، في أسلوب تعامُلهم مع الوالِدَين.
منذ أيام قرأتُ بَوْحَ فنانة تحكي عن تطاوُل ابنها عليها، ودَفْعها لتَقَع أثناء شِجارهما، كما حَكَت عن توجيهه بعض الشتائم لها أثناء المُشَادَّة الكلامية، ثم اعتذاره ونَدَمِه، هذا المشهد رأيته يتكرر في بعض مسلسلات الدراما، وأيضًا في كثيرٍ من البيوت المصرية، في طبقات مختلفة.
ولعلنا نتساءل ما الأسباب التي أوجدت جرْأَةً وتطاوُلًا من الأبناء في لغة الحوار مع الأُم والأب، وكيف يستسهلون الخطأ بالسبَاب أو التطاوُل على الوالدَين بالأيدي؟
لا أستطيب العودة للماضي في كل ظاهرة، ومقارنة الحاضر بظروف الأجيال السابقة، والظروف الكلية لمجتمعاتها، لكنني أتذكَّر أن مجرَّد التلفُّظ بمفردة غير لائقة أمام آبائنا، كانت كارثة، حتى لو أن هذه الكلمة غير موجَّهة لهما، كنا نخشى الخطأ، وننتقي مفرداتِنا، ماذا يُقال أمامهما، وما الذي لا يمكن أن يُقال من الأساس، نحرص على الجلسة المحترمة اللائقة في وجودهما، صوت الضحكة، ولُغة الخطاب مع أصدقائنا، كنا نحترمهما ونخاف غضبَهما، هذا مع ملاحظة أن الآباءَ كانوا أكثرَ قسوة، وانتقادًا لتصرفاتنا، وأكثر صرامة في إنزال الغضب والعقاب، في بعض الأوقات؛ فلم تكن نظريات التربية الحديثة قد انتشرت، كما حَدَثَ في العقود الأخيرة.
لعلَّ الشباب يعي أن النضج والاستقلال لا يتحقق بالتطاول على الآباء، أو الاستخفاف برأيهم وتهميشه، أو السخرية من منظورهم للحياة والقضايا أحيانًا.
فكثير من أولادنا انتقلت لهم بعض معاني الحرية والصِّدق مع النفْس، ومع الآخرين مغلوطة؛ حيث نلحظ مَيْلَهم لأسلوب الصَّدَمات في الحوار، والمواجهات الحادة أثناء التعاملات، واستسهال استخدام المفردات المبتذَلة، بل والإعجاب بتلك المفردات أحيانًا.
ورغم الافتقار للخبرات الحياتية؛ يظن الكثير منهم إنهم وحدهم العارفون بشئون الحياة والناس، كما إنهم لا يُقدِّرون كيف تؤثِّر طريقة وقسوة الإدلاء برأيهم في حياة المختلِفين معهم في المنظور، ولا يضعون في حساباتهم أن للأب والأُم خصوصيةً في طريقة التعامل، حتى وقت الاختلاف معهما؛ حيث يتعيَّن توافُر قدْر من الاحترام والتقدير الواجب، فالوالدان – بما بذَلَاه من جهْد وعطاء في حياة أبنائهم – يستحقَّان خصوصية، تشفعُ لأيَّ خطأ أو ضِيق يتسبَّبان فيه، قد ينتابُ الأبناء، حين يعترض الآباء على بعض تصرفاتهم.
فحين تصرِّح الأُم أو الأب بانتقادِ أيِّ فِعلٍ أو مظْهَر أو أسلوب للأبناء؛ فهُما لا يضعان نفْسَيهما في موضِع الآخَر/ الضِّد؛ بل في مساحتك ذاتها، حيث يشعران بأنك امتدادهما، وهما ضمانُك/ احتواؤك.
قد نختلف مع أبنائنا، قد نقسو في انتقادهم، ونكرِّر الاعتراض على بعض السلوك؛ رغبة في أن يلتفتوا إلى أخطائهم، لكن هل يدرك الشباب أن هذَين الشخصَين – “الأُم والأب” – أكثرُ البشر قاطبةً في تفضيل أولادهم عليهم في كل شيء، وفي إرادة الخير لهم.
هل يدرك الأولاد – بنات وأبناء – أن نصائح الأُم والأب ليست انتقادًا لهم، أو تدخُّلًا في أمورهم، ولا رغبة في التحكُّم فيهم؛ بل وضْع خِبراتهما مصفَّاة أمامهم؛ تجنيبًا لهم للكثير من الأخطاء التي مرَّت بحياتهما!؟
المدهِش – في سلوك الكثير من الأبناء اليوم – قدْرٌ من العناد، الذي يدفعهم لِصَمِّ آذانهم تمامًا عمَّا يقوله الآباء، بل الاعتراض التام عليهما، ثم ترديد مقولات بعض المختَصين في عِلم النفْس، الذين أتخموا العقول بمقولات، أراها تتضمن مبالغاتٍ كبيرةً، جميعها تحضُّ على الأنانية، وعدم اكتراث الفرد إلا بذاته فقط، وإلقاء كل المشكلات على الغير، بوصْفِهم بالنرجسية والسادية واستخدام الآخَرين، ودون مواجهة الفرد بأخطائه، أو محدودية رؤيته للأمور. لا أعرف لماذا كلَّما قرأت بعض صفحات متحدِّثي عِلم النفس هؤلاء؛ شعرتُ بأنهم في أبراج منعزلة عن المجتمع، بعيدون عن تشابُك العلاقات بين الفرد وبيئته المحيطة، نحن لا نعيش في جُزُر منعزلة، كما أن كثيرًا مما يرددونه وينشرونه، يُشعِرك بأنهم تقليعة هدفُها “السبوبة”؛ يتكسَّبون ويستغِلُّون حَيرة الشباب، دون تمكُّنِهم من أن يكونوا إضافة حقيقية لتعديل سلوك جيل.
لعل أبناءَنا يُدرِكون إننا بقدْر ما نشجِّع على الفردية، وإغناء كافة مقومات الفرد، وتنميتها والاستثمار فيها، حيث أنها الأساس في تطوير الإنسان والمجتمعات؛ غيرَ أن الفردية لا يمكن أن تُثْمر إلا إذا كانت في حاضنتها الصحيحة، وبيئتها الأُسَرية المجتمعية، التي تكفُل لها الدعم والرعاية، كما أن الأُسرةَ هي الميناءُ الذي يوفِّر الاستقرارَ والأمن للإنسان؛ ليُبدِع ويصارِع في أماكنَ أُخرى، كما يتعيَّن تبيان العلاقات المتداخِلة بقوة بين الفرد والمجموع، أخذًا وعطاءً.
كما أن شيوع لُغة العنف، وأساليب التناحُر والصِّدَام من خلال ألعاب الفيديو جيم والبلاي استيشن، أو أفلام المعارك والعصابات والجرائم، وأيضًا المَشاهِد الإخبارية اليومية للحروب، واستسهال مَشاهِد الدماء والقتل والدمار، كل هذا يخلُق مناخًا مشوَّهًا، يستبيح العنفَ، ويستسهل الصراعاتِ، ولا يجِدُ فيها غضاضة، وأتصوَّر أن قضاء أوقات كبيرة، حيث تنخرط الأجيال الأحدَث في هذا المناخ العنيف؛ يشوِّش أذهانهم، ويستبيح العنف في آفاقهم الذهنية.
وبالرغم من انتشار مظاهر التديُّن في مجتمعاتنا؛ فإن الثقافة الدينية لم تستطع أن تركِّز على تثبيت القِيَم الجوهرية في حياة أولادنا، وأوَّلها البِرُّ بالوالدَين وإكرامهما والحَدَب عليهما، والالتزام بالآداب الخاصة بهما، والعطاء لهما، وليس مجرد الأخذ فقط، كما لم ترسِّخ الخطاباتُ الدينية قيمةَ العمل والاعتماد على الذات، وهي من أهَم القِيَم الأساسية في حياة الإنسان.
حيث يندهش الكثير من الآباء عندما يلاحظون استباحة الأبناء لكل ما يمتلك الوالدَان من الإمكانات كافة: الوقت، والاهتمام، والأموال، ويشعرون أن كل ما يمتلك الآباءُ من حقهم، في حين يبخلون على آبائهم بكل شيء، حتى الوقت ذاته، والاستماع لهم، أو مشاركتهم مناسباتهم وأنشطتهم، فلماذا يَشعرون بملكيتهم للآباء، ويَضِيقون للغايةِ بأيِّ التزام يطلبه منهم الوالدَان، لماذا تضخَّمت الأنانية في ذواتهم، وترسَّخت عادة الأخذ فقط؟
هل أخطأ الآباء عندما بذَلوا فوق طاقتهم، وأرهقوا ذواتهم؛ لتوفير أفضل تعليم لأبنائهم في المدارس الأجنبية، والحِرص على نَيْلِهم للشهادات الدولية، وتوفير كل وسائل الرفاهية، والاستجابة، ليس لمطالب الأبناء فقط، بل أحلامهم. هل أخطأنا حين علَّمناهم في بيئة ومناهج وثقافة تختلف نسبيًّا عن ثقافة وتقاليد مجتمعاتنا العربية، أم أن الخطأ ليس في الثقافة الأجنبية بقَدْر عدم استيعابهم لعُمق وآداب الحرية وطرُق وأساليب التعبير عن النفْس، والقُدرة على المواجهة، أعطينا قشورَ الحضارة الغربية اهتمامَنا، دون توعيتهم بعُمق معاني الفردية والاستقلال في هذه الحضارة!؟
التَّرَف وبذْل كل ما يستطيع الآباء توفيره للأبناء، مع وضْعهم في بيئة ثقافية متحررة أكثر من تقاليد مجتمعاتهم، وتحصيلهم لقشور ومظاهر تلك الثقافات؛ تجعل الأبناء حائرين، مُذَبْذَبِي السلوك.
كما أن اتساع تطلُّعات الأجيال الجديدة وتعدُّدها وتشيُّؤها وسرعة الاستهلاك، مع استعجال حدوثها من أجْل التمتُّع بكل شيء في الحياة، ويقينهم إنهم بمفردهم لا يستطيعون تحقيق هذه الطموحات؛ نظرًا للظروف الاقتصادية العالمية، كل هذا يجعلهم أكثر طمعًا في استنزاف كل موارد الوالدَين، في ظِلِّ العيش في مجتمعات استهلاكية بامتياز.
كما يظَل الفقر، والعيش تحت ظَلِّ قهْر الحاجات الرئيسية، مع عدم الحصول على قدْر مناسب من التعليم والثقافة، لتهذيب سلوك الأفراد، وخلْق منظومة قِيَمية رفيعة، يظَلُّ كلُّ هذا سببًا مباشرًا للعنف؛ حيث يجعل الفقر أبناء الطبقات الوسطى الدنيا، والطبقات الدنيا ساخطِين على الوالدَين والحياة، وهو ما يدفعهم لاحتمالات التطاوُل على الوالدَين، وتكرار تلك المواجهات. ويتناسَون دورهم في الخروج بذواتهم من دوائر جحيم العَوَز هذا.
الترف الزائد والفقر المدقِع كلاهما يُفسِدان العلاقة بين الأبناء والآباء، لكن تظَل حقيقة أن للآباء – مهما اختلفت وتبايَنَت الظروف الاقتصادية – حقَّ الاحترام والمحبة، وأن يظَلَّ الوِدُّ والاستيعاب والحدَب عليهما من أولادهما حقيقة وقيمة يتعيَّن أن تشتغل عليها خطاباتُ المجتمع كافة، بكل مؤسساته التعليمية والإعلامية والدينية ومنظومة قيم الأسر ذاتها، أي يتم توجيه الثقافة العامة في المجتمع للوصول لما ننشده من قيم المحبة والاحترام بين الطرفين.