الدكتور أحمد محمد الشربيني يكتب..شهيد العلم
من أدب السيرة غير الذاتية_
شهيد العلم
الأستاذ أحمد محمد عبيس- رحمه الله-(١٩١١-١٩٦٣م)#
*****************
نعيش اليوم مع عالم جليل كم سمعت عنه في ثنايا حديث جدي الشيخ أحمد الشربيني- رحمه الله – عن علماء صافوراء وأصدقاء طفولته الغراء!! ولم لا وقد كان في مثل سنه؟! إذ ولد في نفس العام الذي ولد فيه جدي في مستهل ربيع ١٩١١م إنه العالم النبيل الشيخ الجليل فضيلة الأستاذ أحمد محمد عبيس ذلك الطود الصافوري والعبقري اللغوي والخوارزمي الألمعي الذي ولد في الحادي عشر من إبريل عام ١٩١١ حيث حفظ القرآن في سن صغيرة على يد آل بحيري ثم يمم وجهته صوب التعليم النظامي فاجتازالمرحلة الابتدائية ومرحلة التعليم الأساسي ثم شد رحال طموحه صوب المنصورة في آواخر عشرينات القرن المنصرم؛ ليلتحق وقتها بمدرسة المعلمين العليا مصنع التربويين المتميزين ومعقل إعداد المدرسين المتمكنين، ولما تخرج فيها عاد أدراجه صوب بلدته الأثيرة ليسهم في حمل مشعل التعليم مع رهط من الجهابذة الأفاضل من رعيل العمالقة الأوائل الذين أثروا عقول الأجيال ورسموا طريق المعرفة للصافورية الرجال من أمثال الشيخ فهمي بحيري – رحمه الله-والأستاذمحمد خاطر والأستاذ محمد عبد المنعم فياض وأضرابهم. فعمل في رحاب مدرسةصافور الابتدائية رقم (٢) ذلك الصرح التعليمي الذي أسسه المغفور له الشيخ إبراهيم الزيات عام ١٩٠٤م ذلك العلم التربوي الذي يعد بحق رائد التعليم في صافوراء وما صاقبها من بلدان كما يعد بمثابة الأستاذ الروحي للحاج أحمد عبيس ومن تلاه
وظل الخوجه أحمد يعلم الفصول الأولى اللغة العربية والحساب والعلوم وسائر المواد كمعلم فصل يتصف بعقلية موسوعية متنقلاً بين أبهاء الفنون وصنوف المتون وفروع العلم المصون بقلب لايعتريه الفتور وروح لا يتخللها النفور وسمت لا ينوشه العجب والغرور في زمن قل فيه ذوو الطرابيش من المعلمين الوجهاء مقارنة بالأزهرية الفقهاء في رحاب ريف بلدتنا صافوراء وسائر ربوع أرض الكنانة الغراء في تلكم الحقبة الملكية وما سادها من ندرة الصروح التعليمية ومن ثم تفشي الأمية!!
وما أن استقر أستاذنا تحت سقيفة وظيفته الميري وما أفاء الله عليه تحت ظلالها من راتب شهري مغرٍ حتى رأيناه يتخذ قراره بالزواج، فصاهر آل عافية الأصلاء وتزوج من الحاجة زينب عبد الرحمن شقيقة عبد المجيد بك عافية الوجيه النزيه الذي اشتهر بأناقته ولباقته وسعة ثقافته ما خوله أن يتقلد مشيخة البلد وعموديتها بضع سنوات وقد بنى الشيخ عبيس بزوجته في منزله الكائن بالمربع السكني المجاور لمدرسته الابتدائية (البرعي الآن) حيث كان منزله آية في النظام والفخامة وروعة الأثاث على الرغم من بنائه بالطوب اللبن لا الأحمر كما اعتاد أستاذنا أن يحيط منزله بسياج نباتي اشتمل على حديقة متوسطة المساحة لكنها في ذات الوقت رائعة الجمال تتخللها نباتات الزينة المتنوعة وشجيرات الليمون اليانعة وبعض نخلات تنوء بحملها الطيب من البلحين:الأحمرِ والأصفر ومع مرور الأيام رزقه الله بطلع نضيد من الأبناء أسفر عن خمسة ذكور هم محمد(صار لواءً بالقوات المسلحة) وعبد الرحمن(مخرج تلفزيوني ببرامج الأطفال) و حازم (مخرج تلفزيوني بماسبيرو)
وعبد الوهاب( بالمصانع الحربية) وأبو بكر (مهندس بالولايات المتحدة الأمريكية) والصغرى الحاجة أسماء(محاسبة بإحدى شركات القطاع العام)
ولكي يستوي أولاده على سوقهم ويتنكبوا طريق طموحاتهم لم يبخل الرجل في سبيل ذلك بكل غالٍ ونفيس وكانت أولى التضحيات في سبيل تعليم أولاده كما ينبغي وفق رؤيته وَمايصبو إليه كل أب أن يتحقق في زريته أن نزح بأسرته إلى مدينة ميت غمر فحط رحال وظيفته بمدارسها ليواصل رحلته التعليمية ويضمن في ذات الوقت أن يوفر لأبنائه عيشاً راقياً ومناخاً تعليمياً رائقاً وظل على تلكم الحال بضع سنوات قضى فيها أولاده الذكور المرحلتين: الابتدائية والإعدادية بتفوق باهر ونجاح ماهر الواحد تلو الآخر، ومع حصول نجله الأكبر على التوجيهية واستشرافه للمرحلة الجامعية ارتأى أستاذنا أن يدير دفة السفينة الأسرية صوب القاهرة المعزية كي يضمن لبقية أولاده الحصول على التوجيهية من صروح القاهرة التعليمية وما سيتبعها من انتسابهم بكل أريحية للجامعة المصرية، فما لبث أن انتقل وعقيلته إلى حي شبرا واستأجر شقة واسعة المساحة بروض الفرج؛ كي تتسع لأسرته النضيرة وعمل أستاذنا بمدرسة طلعت حرب بحي المظلات التابع لشبرا
وظل بها حتى وافته منيته عام ١٩٦٣م عن عمر يناهز إحدى وخمسين سنة قضاها في محراب العلم بكل إخلاص وحدب، بقلب صافوري لايعتريه وصب أو نصب فكم كان شعلة في النشاط وخِلاله والحرص على استثمار الوقت واستغلاله!! ففي الصباح كان يذهب إلى مدرسته ليقضي سحابة يومه حتى موعد المنصرف القانوني للمعلمين وبعد الدوام الحكومي يخلد للقيلولة ساعة أو ساعتين بعدها يرتدي زيه الأنيق ويسير بخطوه الواثق الرشيق بين الدروب والأحياء القاهرية ليمارس عمله الإضافي كمعلم للدروس الخصوصية ومؤدب لتأسيس تلاميذ الفصول الأولية لدى العائلات الكبرى بروض الفرج وغمرة والعتبة؛ وقد دفعه لذلك حرصه الجم على توفير سبل الراحة والعيش الوثير لأولاده وأطفاله كي يتفرغوا لدروسهم وتحصيلهم فلا تعكر صروف الحياة صفو عيشهم، وظل على تلك الحال وذاك المنول؛ يعلم ويشرح بالمدرسة نهارًا بكل همة وعطاء ثم يأخذ نصيبه من الدروس الإضافية عقب صلاة العصر حتى صلاة العشاء فيقَوّم الطلاب المارقين ويصلح عقول المتعثرين يُجوِّد خطوطهم ويصحح إجاباتهم لكن مشيئة الله قضت بأن تتوقف مسيرة أستاذنا الزكية وخطاه التعليمية الندية وهو في مقتبل العقد الخامس من عمره؛ فذات يوم ربيعي لاتنزر شمسه إلا بكل خير قبل رأس زوجته كالمعتاد وارتدي زيه الأنيق حاملاً دافتره وأقلامه وما أن قضى حصتين من نصاب جدوله حتى بدأ يشعر بوخز متقطع ما لبث أن استحال إلى ألم موجع وداء مفزع فارتاع الزملاء وهرعوا يبلغون الإدارة المدرسية بتلك الطامة النكباء فمالبثت أن استجدت في طلب الغوث وماهي إلا دقائق معدودات، حتى حضرالمسعفون وحملوه على الفور إلى مستشفى المعلمين بالقاهرة وقتها كان التشخيص المبدئي لتلكم الآلام عبارة عن مغص كلوي حاد!! لكن الحقيقة الطبية التي أدركها طبيب حصيف بالمستشفى الحكومي أن تلكم أعراض التهاب في الزائدة الدودية؛ مما يستوجب إجراء عملية جراحية في الحال وهو ماتم بالفعل لكن هيهات هيهات فالوقت لم يسعف الجراحين والأطباء المختصين الذين اختلفوا منذ البداية فيما بينهم حول تقرير الحالة الطبية نعم أجريت العملية لكن بعد فوات الأوان فقد انفجرت الزائدة الدودية لحكمة ربانية أثناء العملية وظل أستاذنا يعاني جراء ذلك الخطأ الطبي طوال يومين كاملين لكن قدر الله نافذ، فلما أحس أستاذنا بدنو أجله جمع أولاده حول فراش الاحتضار بالمستشفى التعليمي وأوصى زوجته وأولاده أن يكملوا ما بدأه ويحققوا حلمه وأوصاهم بقرة عينة الوحيدة ( أسماء) التي كانت وقتها طفلة لم تتجاوز الخامسة من عمرها، كما أوصاهم بأن يحمل جثمانه إلى صافور ويدفن بمقابر آل عبيس بين آبائه وأجداده ولِداته، وهو ماتم بالفعل. وكم كان المشهدًا مهيبًا والموقف عصيبًا!! وأنت تشهد سيارة نقل الموتى القادمة ذات النمرة القاهرية تتوسط شوارع قريتنا الوفية، حيث حمل الجثمان إلى منزله الذي طالما شهدت جنباته وأركانه على ورع صاحبه وتقواه، فغسل وكفن ثم حُمل النعش على الأكتاف والأعناق ليجوب الدروب والأزقة؛ إيذانًا برحلة الفراق ودعوات المترحمين في إثره تعطر الآفاق، حتى انتهى إلى المسجد الكبير؛ من أجل صلاة الجنازة وسار مِن خلفه في موكب الوداع مَن تعلم على يديه من تلامذته الصافوريين، وشيعه زملاؤه من المعلمين والموظفين الذين أتوا من كل حدب وصوب ركين و سائرجيرانه المحبين الملتاعين وكبراء أهل بلدته المخلصين وكافة الشيوخ والمعممين وجُل أهل قريته أجمعين من زُرَّاعٍ وصُناعٍ وفلاحين. يتقدمهم رفقاء الدرب وأصدقاء الوفاء الرَّحب كالشيخ أحمد الباز والشيخ فهمي بحيري والأستاذ عطية أبو حسين عافية رحمهم الله أجمعين
وقد اتصف أستاذنا الجليل وحبرنا النبيل بسجايا ندر وجودها بين شبابنا من هذا الجيل وعزَّ ظهورها بين هذا الرعيل لعل من أبرزها:
١-التقى والورع وآية ذلك مداومته على تلاوة القرآن،ولم لا وهو أنيسه في الحل والترحال، فلطالما كان يقرؤه في حقله بالقرية أوبين حصص جدوله المدرسي أوعلى أريكة باصه الذي يقله من منزله إلى عمله يوميًا أو عند السحر قبيل صلاة الفجر أو في صلاة الصبح كما كان يكثر من التسابيح والاستغفار والصلاة والسلام على النبي المختار فيعطر لسانه وينقح جنانه وهذا ليس بمستغرب على رجل صوفي الهوى حصافي الطريقة والمنزع ومن فرط حبه للسادة الحصافية أنه كان أحدَ مُريديهم من المتعلمين المنضبطين الذين يدركون حقيقة التصوف الإسلامي الصحيح القائم على الكتاب والسنة بعيدًا عن الخرافات والبدع والتهويمات والضلالات التي استحدثها كثير من الأدعياء المتوسلين بالأضرحة والمقامات كذلك من دلائل حبه للطريقة وشيخها أنه أسمى أحد أبنائه عبد الوهاب الحصافي أحمد عبيس كما ظل على صلة بمريدي الطريقة من أساتذة صافوراءالأخيار وعلمائها الأبرار، فلم يَحُلْ انتقاله إلى عاصمة أرض الكنانة دون صلة شيوخه وأحبابه وأترابه وعلى رأسهم القطب النوراني والعالم الرباني فضيلة الشيخ الأستاذ فهمي بحيري والشيخ السيد بحبح والشيخ أحمد الباز رحمهم الله أجمعين ورزقنا وإياهم شفاعة النبي المصطفى الهادي الأمين. وكان من علامات تقاه وأمارات رضاه بعده عن الحرام وتجمله بالقناعة وطيب الكلام فلم يشك فاقة أو هم وكان سمته الخلق الجم ولسان حاله يتخلق بقول الشاعر:
ياشاكيًا هم الحياة وضيقها
***أبشرْ فربك قد أبان المنهجا
من يتقِ الرحمن جلَّ جلالُه
***يجعل له من كلِّ ضيقٍ مخرجا
٢-ومما يتصل بالسجية السالفة حبه لنيل الشهادة فقد كان وطنياًمخلصاً أُشربت روحه مبادئ ثورة يوليو، مؤمناً بعظمة مصر قيادة وشعباً وقدرتها على مر الزمن في مجابهة الاستعمار وتحدي المحن والأخطار بكل جسارة واقتدار وكم تمنى لو مات في الميدان إبان معارك العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦!!! لكن ظروف عمله الوظيفي وكفاحه التعليمي حالت دون ذلك، فليس الكفاح في محراب العلم ومقاومة الجهل والتخلف بأقل شأنًا من قتال الأعداء.
وتمضي الأيام سراعًا والسنون تباعًا وما أن أتيح لأستاذنا أداء فريضة الحج حتى دعا الله وهو يطوف بالبيت الحرام ممسكاً بأستار الكعبة في أعلى مقام إيماني لايرام سائلاً مولاه أن يرزقه الشهادة بحق وكأن أبواب السماء أصخت لدعائه وصادق ندائه فلم يكد يمضي عامان على رحلته الحجازية المباركة حتى أصيب بوعكة صحية أثناء إحدى حصصه المدرسية نقل على إثرها إلى المستشفى التعليمي لتفيض روحه الطاهرة جراء مضاعفات جراحة غير مجدية لاستئصال الزائدة الدودية، فقضى نحبه على صورة من صور الشهادة مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : “الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، وَالْغَرِقُ شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموتُ تحتَ الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمَعٍ شهيدة”
٣-الديموقراطية والمشورة في تعامله مع أبنائه، فلم يجبر واحدًا منهم على اختيار تخصص محدد أو كلية بعينها، حيث تكفل بتعليمهم وتثقيفهم وتوسيع مداركهم وترك لهم حرية اختيار طموحاتهم وفق قدراتهم العقلية وبواعثهم النفسية وإمكاناتهم الجسمانية واتضح ذلك جليًا في المناصب التي تقلدها أولاده فنجله محمد التحق بالكلية الحربية قبيل وفاة والده وتدرج في الرتب العسكرية حتى نال درجة لواء بالقوات المسلحة الباسلة أما نجله الثاني الأستاذ عبد الرحمن عبيس(ت٢٠١٧م) فقد التحق بكليلة الحقوق وأمضى فيها حولين كاملين بيد أن ميوله الفنية حدت به أن يدرس الإخراج التلفزيوني ليعمل فيما بعد مخرجًا لبرامج الأطفال الأثيرة ومسلسلاتهم الشهيرة مثل ((فتافيت السكر)) و((سينما الأطفال)) و((عصافير الجنة)) وجمعيها يهدف إلى ترسيخ القيم وتأصيل المثل العليا في نفوس الصغار وهذا ما تمثل جليًا في برنامجه(( نادي العلم والإيمان)) كذلك عمل قيمًا على الكثير من البرامج و الأنشطة الثقافية بماسبيرو و هل ينسى أحدٌ من محبي الراديو المصري برنامج ((لو كنت المسؤول))؟!!
ومن عجائب الأقدار أن المرحوم عبد الرحمن عُين في ذات العام الذي توفي فيه والده – رحمه الله -فكان من الرواد المؤسسين للخريطة الإعلامية بماسبيرو وفرسان بدايات افتتاح الشاشة الصغيرة وإرهاصات ذيوعها في مصر أما نجله الثالث حازم فما لبث أن اقتدى بشقيقه عبد الرحمن سالكًا ذات المسلك فعين مخرجًا تلفزيونيًا بعد تخرجه في كلية الزراعة و أشرف على برامج متنوعة تنوء عن الحصر كذلك آثر نجله الرابع الأستاذ عبد الوهاب الحصافي العمل الإداري فعين بالمصانع الحربية أما نجله الخامس أبو بكر فسلك طريق التقنيةوالابتكار فكان مهندسًا يتصف بالحنكة والاقتدار وما لبث أن هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من ربع قرن ليضرب مثلاً يحتذى به للعقليات المصرية المبدعة خارج الديار ويكون بمثابة خير سفير لنوابغ التعلم المصري المدرار .
أما نجلته الصغري الحاجة أسماء فلا تتذكر والدها إلا لمامًا إذ توفي وهي في الخامسة من عمرها لذا اختارت لها والدتها مايناسب طبيعتها، فالتحقت بمعهد التعاون بالقصر العيني وعينت بوظيفة محاسب في إحدى الشركات الكبرى بالقطاع العام.
٤-روح الانتماء والوفاء والتعلق بقريته والتمسك بأصوله الريفية وعدم التنكر لها بحكم إقامته في القاهرة فلا تفوته مناسبة ولا مأتم فكم كان يشارك أهله أفراحهم وأتراحهم!! ولطالما استأنست جنبات منزله الرحب بمسقط رأسه صافوراء بطلةِ الحاج أحمد وأفراد أسرته؛ حيث كانوا يهبطون إلى البلدة بشكل منتظم في المواسم والأعياد وقد أشربَ أولاده أيضًا محبة القرية والحنين إليها حتى رأينا نجله المخرج الكبير عبد الرحمن عبيس يصور إحدى حلقات مسلسل تلفزيوني للأطفال بمنزل العائلة بصافوراء حيث طابعه الفلكلوري ومعماره التاريخي الذي يعكس أصالة الريف وعبق الماضي الوريف وقتها سأله المصور القائم على الكاميرا في تعجب عن سر اصطفائه لهذا المنزل وحديقته كي يكون مركزًا للوكيشن التصوير،برغم وجود منازل تفوقه جمالاً وعلوًا؟!! وقتها أجابه المخرج الراحل قائلاً:”لاتتعجب فهذا المنزل به كانت صرخة ميلادي وعلى عتبته خطوت و درجت وتنسمت رائحة أبي وأهلي وسائر أجدادي “
وكما كان الأب وفيًا في حياته كثير البر بأقاربه وأهله ولِداته فإنه أوصى في مرض الاحتضار أن يدفن في قريته وأن تخرج جنازته من ذات المنزل الذي قطنه بالقرية ويحكي الأستاذ صلاح عبيس – حفظه الله – نجل شقيقه أنه برفقة الأستاذ يسري الهادي قد شهدا خروج نعش عمه من منزله بالقرية محمولاً على أكتاف المشيعين وكان عمرهما آنذاك خمس سنوات.
وكما كان وفيًا لعقيلته ومنزله بالقرية فإن زوجته هي الأخرى ظلت على عهدها الذي أولاها إياه قبيل موته فلم تبرح شقتها ولم تقصر في تربية أبنائها وظلت وفية لذكرى زوجها حتى فاصت روحها الطاهرة في٣١ – ١٣-٢٠٠٦ لتدفن هى الأخرى بمسقط رأسها بمقابر آل عافية بصافور.
٥-روح النظام والانضباط حيث كان الرجل يقضي شطرًا من الليل في تحضير دروسه ذهنيًا وتنسيقها كتابيًا؛ فكان بمثابة معلم شامل يتسم بسعة الأفق ورحابة الفكر لايسخر أو يتندر على الطلاب المتأخرين دراسيًا ولا يتهاون مع المقصرين أو المتكاسلين أو من يبدون سلوكًا عدوانيًا ضد زملائهم أو معلميهم فعرف بجديته وصرامته لدى الجميع خاصةعند طابور الصباح حيث كان مدير المدرسة الشيخ سيد بحبح يعهد إليه الكشف الدوري عن نظافة التلاميذ أظافرهم وهندامهم وتحسس مدى استعدادهم وجديتهم لليوم الدراسي من خلال كتبهم وواجباتهم وكان يستخدم عصاه بحكمة عند الضرورة عملاً بمبدأ الضرورات تبيح المحظورات فإذا شرح أقنع وإذا سأل أبدع وأينع وإذا سكت أقنع وإذا ضرب هذَّب وأوجع.ولعل ماعرف عنه من جودة خطه وجمال رسمه كان نتاجًا لروح الانضباط التي اكتنفت حياته فجعلته منظمًا في طريقة عرضه وشرحه وهندامه و ملبسه ومأكله وهيئة خطه وتنظيم دفتره وجدول مواعيده الرسمية والعائلية ومع كل هذا الإطار الصارم فإن لوحة شخصية عالمنا الجليل لم تخل تقاسيمها من مظاهر البهجة وزهور الدعابة وطيور المرح وأغاريد الفرح كلما اختلى بأطفاله حول طبلية القرية أومائدة شقته أو في صالون المنزل أمام جهاز الراديو الكبير بعيد صلاة العشاء للاستماع إلى مآثر ماسبيرو من برامج هادفة ظريفة ومسلسلات إذاعية وريفة
٦-روح التضحية والتفاني فكم كان الرجل محبًالأولاده كل المحبة يسهر على تعليمهم وتلبية متطلبات معاشهم كي لايشعروا بفارق طبقي عمن حولهم من أبناء حيهم القاهري فالرجل في مقتبل حياته الأسرية ترك قريته وحقله ومنزله ومدرسته التي كانت تلاصق داره ونزح إلى ميت غمر ومنها إلى القاهرة لا لشيء سوى للارتقاء بالمستوى التعليمي والتحصيلي لأولاده وكم كان ثاقب النظرة بعيد الرؤية!!
كما أنه لجأ للدروس الخصوصية من أجل تحسين دخله الشهري خاصة وأن عقيلته كانت ربة منزل من الطراز الأول وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدروس الخصوصية في الخمسينيات والستينات كانت تختلف في طبيعتها وسمت طريقتها عما هى عليه الآن إذ كانت الدروس تسعى إلى المعلمين وتتقاطر عليهم من كل حدب وصوب من عائلات لا تربطها بالمعلم سابق معرفة أو تجمعه بطلابه علائق رسمية كما أن المعلم ذاته ماكان ليجبر طلابه على تلكم الدروس أو يجعلها مقياسًا لنجاحهم أوصكًا مقنعًا لابتزازهم في سبيل الحصول على أعلى الدرجات؛ لذا كان يسمى معلم الدروس الخصوصية في التراث الإسلامي (بالمؤدب) وكم تعلم أبناء الخلفاء والأمراء ومشاهير الأدباء والشعراء على أيدي المؤدبين فيما يعرف حديثًا بالمُدرس الخاص!!
٧-الجود والسخاء حيث كان منزله بالقاهرة يتسع لجميع أبناء أهل القرية الذين يغشون العاصمة من حين لآخر لتلبية مطالبهم وقضاء مآربهم من الدوائر الحكومية وكم كان شيخ البلد عبد المجيدبك عافية صهر أستاذنا وشقيق عقيلته زينب ينزل بهم هو وأضيافه كذلك ابن عمه اللواء صلاح عبيس القائد العسكري المقرب من مجلس قيادة الثورة آنذاك لاسيماالمشيرعامر، حيث كان يُكثر من زيارة ابن عمه الحاج أحمد بصحبة زوجته الأجنبية تلك السويدية الأصل التي أسلمت وحسن إسلامها وظلت تترد هي وزوجها على منزل الحاج أحمد ، لتأنس بحديثه الإيماني وشرحه الميسر لأركان الدين و مبادئه السمحة.
٨-أناقته في غير عُجب وحسن هندامه حيث كان أستاذنا في العهد الملكي يتزيا بزي المعلمين المعهود فيلبس الطربوش ويرتدي المعطف الصوفي الذي تتوسطه أُوربة العنق(الكرافتة) ومع قدوم العهد الجمهوري خلع طربوشه فبانت رأسه عن شعر فاحم السود يصففه بانتظام كما كان يسير بحلة بهية تناسب المكان والمقام فثمة حلة للمدرسة وأخرى للدروس وثالثة للتنزة مع أفراد العائلة وثمة حلة رابعة للصلاة وكم كان حريصًا على تلميع حذائه؛ كي لا تتراكم عليه الأتربه و غبار الطريق وكلما ذهب وآب يتحسس المعوزين والفقراء فيدس في جيبهم ما اقتضاه النصيب وجاد به السمت الندي الرحيب.
فجعل من مرتبه ومخصصات دروسه نصيبًا للفقراء والمساكين.
٩-المحافظة على الصداقة قيمها ووشائج توثيقها حيث كان يزورأصدقاءه، فكلما غشي قريته ذهب لرفاق دربه كالشيخ فهمي بحيري الذي كان مديرًا لمدرسته وكان يكبره ببضع سنوات لكن وشيجة الصداقة بينهما كانت وثقية العرا تذهب أية فوارق علمية أو درجاتٍ وظيفية بينهما كذلك كان يتصل بالحاج محمد خاطر والد الدكتور عطية خاطر ويزورالحاج محمد عبد المنعم فياض ويعودالشيخ عبد اللطيف عتمان ويأنس بالشيخ عبد الغني بلال رحمهم الله أجمعين.
١٠-ارتباطه بأرضه واعتزازه بها، وآية ذلك أن شيخنا الحاج أحمد عبيس كان فلاحًا ماهرًا على دراية وخبرة بفنون الزراعة ومواقيتها وظل في صباه يزرع أرض والده بنفسه ولما عين بوظيفة معلم وما تبع تلك النقلة النوعية في حياة أستاذنا من تنقل وترحال مابين ميت غمر وقاهرة المعز اضطر إلى ترك فأسه فبدأ يستأجر الفلاحين والأنفار لزراعة أرضه إما مناصفةً أو من خلال الاستئجار وكلما هبط القرية كان يذهب إلى حقله فيتابع مراحل إعداده للزارعة من حرث وعزيق
وبذر أو شتل وري وتسميد وسقاية أوتجسير لحدوده والإشراف على قناته وجلب الأنفار لتنقيته من الحشائش والنباتات العشوائية (كالغلت والدنيبة) أو دودة اللوز في موسم زراعة القطن كل هذا وذاك كان يرقبه عن كثب
١١-العصامية والاعتزاز بمهنته التعليمية، وآية ذلك أن الرجل لم يتحول عن رسالته العلمية ومعشوقته الأثيرة، مهنة التدريس حتى أنه خير بين أن يكون مديرًا لمدرسة ميت غمر عندما صار مقعد الإدارة شاغرًا بوفاة مديرها آنذاك أو أن يظل معلمًا كما هو، فآثر مهنة التدريس ونزح بأهله في ذات العام إلى القاهرة حتي لايرضخ لضغوط رؤسائه و زملائه ومحبيه، ومن دلائل عصاميته أنه لم يتمسح بالأعطاف أو يتزلل للأعتاب أويهرع يومًا وراء المناصب والألقاب علي الرغم من تشعب علاقاته داخل صافوراء وخارجها ولم لاوهو صهر عمدة قريتها؟!! وكم كانت تربطه علاقه وطيدة بابن عمه اللواء صلاح عبيس أحد القادة المقربين من المشير عامر، حيث ألح عليه ابن عمه مرارًا وتكرارًا؛ كي يلحقه بسلك الوزارة إما في التوجيه أو سلك الإدارة لكن حال دون ذلك المطلب عصامية الرجل ونزاهته واعتداده بمهنته وقدسية رسالته فلله در ذلك الفارس النبيل والعالم الجليل!! الذي كان يحسن الظن بمولاه صادقًا في توكله على الله ولسان حاله
في كسبه ومعاشه يصدق فيه قول الإمام الشافعي:
وجعلتُ معتمدي عليك توكلاً
***وبسطت كفي سائلاً أتضرعُ
اجعل لنا من كل ضيقٍ مخرجًا
***والطف بنا يامن إليه المرجعُ.
١٢-الصرامة والهيبة في حضوره ومغيبه فإذا دلف إلى باب المدرسة تجد الطلاب وقد أصابتهم قشعريره إجلالاً لأستاذهم وإذا التقوه بعد منصرفهم سلكوا فجًا آخر حياءً وتوقيرًا وإحترامًا وإكبارًا لشيخهم، حتى أن أولياء الأمور من أجدادنا البسطاء كانوا يتحينون الفرصة المواتية فيعمدون إلى ذكر اسم أستاذنا أمام أبنائهم لما يثيره غي نفوسهم حال طال مكثهم خارج المنزل ليلاً تحت سيطرة” الاستغماية” أو كَثُرَ لهوهم وشرودهم عن واجباتهم بفعل حرب الحارات أونتيجةَ مكوثهم بين يدي الكهول والشيوخ المتراصين على المصاطب الملاصقة للبيوت لسماع مسامراتهم وما يتخللها من حكايات فلكلورية وأساطير شعبية فكان الوالد منهم ينادي على نجله الصغير بصوت جهير قائلاً:((لأن لم تلزم بيتك وتترك لعبك وتنته عن لهوك فتكتب واجباتك وتفرغ من استظهار دروسك فوالله لأبلغن أستاذك الشيخ أحمد عبيس))!!!
وهكذا كان مهيبًا في حله وترحاله وقدومه وذهابه وحضوره ومغيبه فكنت تسمع بعبيس كأنك تراه
فهو في الحالتين سواء
وشتان شتان مابين نموذج أستاذنا القدير وبين مضرب المثل العربي الشهير”أن تسمع بالمُعيدي خير من أن تراه.”؛ إذ يضرب مثلاً (لمن يكون أمره مشهوراً ولكن هيئته لا تدل على ذلك).
وصاحب المثل ضمرة بن شقة من فتاك العرب وشجعانهم، كان يغير على حمى الملك النعمان بن المنذر حتى أعياه ولم يجد له قدرة ولا قوة، فلما رآه النعمان سأله: فكتب إليه النعمان أن ادخل في طاعتي ولك مائة من الإبل، فقبلها ضمرة وأتاه، من أنت؟ -وكان قصيرا ذميما تزدريه العين- قال: ضمرة، فقال النعمان: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!
فرد عليه ضمرة غاضبا: إن الرجال لا تكال بالقفزان وليست بمسوك يستسقى فيها، وإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إن قاتل قاتل بجنان وإن نطق نطق ببيان.
فقال النعمان: والله إنك لصدقت وبحق سودك قومك، وسأله عن رأيه في بعض الأمور من بينها الفقر الحاضر والداء العياء، فقال المعيدي وأما الفقر الحاضر فأن تكون نفس الرجل لا تشبع ولو كان من ذهب حلسه وأما الداء العياء فجار السوء الذي إن كلمته بهتك، وإن قاولته شتمك، وإن غبت عنه سبعك، فإذا كان جارك فخل له دارك، وعجل منه فرارك، وإن رضيت بالدار فكن كالكلب الهرار، وأقر له بالذل والصغار.. فأعجب النعمان بحكمته وفصاحته وجعله من مقربيه وحداثه.
أما أستاذنا عبيس فقد كانت الصورة الذهنية لمهابته وصرامته مطابقه لحالته وهئيته وقلما نجد اليوم أمثال تلك النماذج بين معلمي عصر الذكاء الاصطناعي وتقنيات التواصل الاجتماعي الحديثة!!!
١٣-رحمته بطلابه وحكمته في التعامل معهم بشكل تربوي، وآية ذلك أنه على الرغم من صرامته المعهودة أثناء تنظيم الطابور الصباحي وخلال حصة الحساب فإنه في الوقت ذاته كان رحيما بأبنائه الطلاب يحنو عليهم منتهى الحنو فيكرم المجيدين بقطع من حلوى “العسلية” أو “موز الأطفال” ويشد من أزر المقصرين بالتوجيه والتعزيز والتشجيع كذلك إذا التقاهم بعد منصرفهم من المدرسة اعتاد أن يعطي صغارهم قطعًا من الحلوى كما كان يستشير أولياء الأمور في أحوال أولادهم وتوصيف مستوياتهم وكيفية الارتقاء بتحصيلهم فكان يصدق فيه المقولة الشائعة آنذاك ((لئن تأنس برؤية الشيخ أحمد خير لك من أن تسمع بسمته الأَشَد)) ويحكي الأستاذ أمين الهجرسي – حفظه الله – وهو من طلابه النجباء أن أستاذه كان يصحب معه مغلاق خشبي أصفر يشبه مفتاح الباب ويضعه على الطاولة بديلاً للعصاة من قبيل الردع للآبقين والمهملين لكنه لم يكن يستخدمه إلا لماما إذا اضطر إلى تهذيب وتأديب من تسول له نفسه إحداث جو من الفوضى داخل الصف ، ويحكي الحاج أمين أنه كان لا يضرب ضرباً موجعًا قط وإنما على سبيل الدعابة والتهويش ويتذكر أنه ظل مع الرجل ست سنوات لم يضربه خلالها إلا مرة واحدة جراء نسيان دفتره في حضور المفتش أما ابن شقيقه الأستاذ صلاح عطية عبيس فكلما التقاه أحد تلامذة الشيخ أحمد دعا له قائلاً: “رحم الله عمك فكم كان صارماً معنا ورحيمًا في ذات الوقت “
وهكذا لم يركن شيخنا عبيس إلى القسوة المفرطة مع طلابه بل جعل عصاه الخشبيه التي تشبه مفتاح الأبواب العتيقة رابضة على طاولته كالطائرة المقاتلة على أرض المطار لا تطير ولاتغير إلا ساعة الحسم وهكذا كان حال الرعيل القديم من معلمينا ، فالعصا لتقويم الآبق وردع المعوج وإصلاح المقصر الفج وكم أثرت سماته السابقة في رعيل جليل من علماء صافوراء ممن يمكن تسميتهم بجيل الأساتذة أو جيل الوسط!! أمثال: الأستاذ صبري عزب والأستاذ علي الغول والأستاذ أحمد بحبح شقيق الأستاذعبد الفتاح بحبح والأستاذ جلال باز والأستاذ صادق خاطر والأستاذ عبد الرحمن عافية والأستاذ منصور عبادة والأستاذ محمد الزيات رحمهم الله أجمعين ورزقنا وإياهم شفاعة النبي المصطفى الهادي الأمين.
_____________________
بقلم العبد الفقير إلى الله صاحب السيرة الصافورية
#الدكتور- أحمد- محمد الشربيني #
***************
مصادر المقال:
١-مرويات نجلة الأستاذ أحمد عبيس الحاجة أسماء أحمد عبيس.
٢-مرويات نجل شقيقه فضيلة الأستاذ صلاح عطية عبيس
٣-مرويات الأستاذ أمين الهجرسي (أحد تلامذة الشيخ)
٤-مذكرات جدي الشيخ أحمد الشربيني(وفيات الستينات)
٥-عبد الرحمن عبيس مقال بموقع (سينما كوم)
https://elcinema.com/person/2021347/