الدكتور محمد توفيق ممدوح الرفاعي يكتب..الصداقة والأخلاق والمجتمع
الدكتور محمد توفيق ممدوح الرفاعي
لم يكن الحكم على الآخرين في يوم من الأيام من خلال مظهرهم الخارجي أو منبتهم الطبقي ومستواهم الاقتصادي أو من خلال بعض التصرفات صائبا و يوصلنا إلى حقيقة أمرهم وسبر جوهرهم الحقيقي، فغالبا ما تكون هذه الأحكام مغايرة للواقع وبخلاف ماهم عليه تماما، ولذلك من الخطأ الفادح الحكم عليهم من خلال هذه المعطيات، كي لا نقع بأخطاء فادحة ومجحفة بحقهم وتعرضنا لمواقف محرجة معهم يتطلب مننا تقديم الاعتذارات لهم عن سوء تقديرنا للأمور وفهمنا لهم ، ولذلك يجب علينا تحري الدقة والتعقل والتمعن والتريث في اصدر الأحكام بحقهم أخذين بعين الاعتبار الظروف المحيطة وقدراتهم العقلية ومستوياتهم العلمية والثقافية ودورهم الفعال الإيجابي في المجتمع وبما يرفدونه من أعمال وأفكار نيرة هادفة، فالزهاد لا يلبسون إلا الرث من الثياب ولكنهم يعطوننا المثل الأعلى في الروحانيات والحكمة، وكمْ من فقير إلى العلا قد سما وكمْ من غني في الوحل قد سقط، فالمواقف والأحداث هي وحدها التي تكشف معادن الناس وأخلاقهم ومستواهم الثقافي والعلمي وتقدير مدى الاعتماد عليهم في الظروف الحرجة والصعبة التي تستوجب مواقف شهامة وشجاعة، فالشهامة هي المرتبة السامية التي تدل على الرجولة والمروءة والأخلاق النبيلة، وهي ذلك الموقف النبيل المشرف الذي يقدم عليه رجل عرف معنى مد يد الخير والمساعدة في الظروف الصعبة والأوقات الحرجة لأناس أحوج ما يكونوا إليها والذي اعتاد عليها ليس فقط في الأوقات الحرجة بل حتى في أيام الرخاء، وبما أن الإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه لا يستطيع ممارسة الحياة بمفرده فالبحث عن صديق يعتبر أمرا طبيعيا في كل مراحل حياته والتي تبدأ في أولى مراحل طفولته عندما يعي ذاته ويدرك استقلاليته فيميل إلى بني جنسه ويندمج مع أقرانه في محيطه الأسري والعائلي وغالبا ما يختار أحد أقرانه تقربا منه أكثر من غيره بسبب الاندماج العفوي والمزاجي السيكولوجي فيصبح صديقه المحبب يسر لوجوده ويفتقده بغيابه ويشركه بكل العابه، وكلما تقدم بالعمر يصبح أكثر وعيا واقدر على الاختيار بخروجه إلى الحي واللعب مع أقرانه حيث يختيار لنفسه أصدقاء ورفاق مقربين من اقرانه، وفي خلال مراحل الانتقالات المدرسية ونموه العقلي والذهني يصبح الأمر أكثر وضوحا من مرحلة دراسية إلى أخرى ويكون الاختيار أكثر صعوبة ودقة ويأخذ طابعا خاصا كالتفوق الدراسي أو الهوايات الفنية والرياضية وحتى على مستوى المشاكسات الشبابية وتشكيل مجموعات متناحرة أو متبارية، وتبقى الأمور هكذا إلى أن يجتازوا مرحلة المراهقة ومرحلة ما قبل الجامعة، حيث تفرق بينهم السبل فمنهم من يتابع تحصيله العلمي ومنهم من ينخرط في أعمال مهنية، وفي هذه المرحلة يصبحون اكثر وعيا وإدراكا لواقعهم وظروفهم وتكون عقولهم قد نضجت اكثر وأصبح لهم أفكارهم وقيمهم الخاصة ومنهجهم الأخلاقي ومن الطبيعي في هذه المرحلة أن يصبح اختيار الأصدقاء أكثر عقلانية ووعيا وتأخذ منحا آخر يعتمد على أسس وقواعد مدروسة مسبقا أو لضرورات خاصة بتلك المرحلة، ويلاحظ في هذه المرحلة تتميزها بصداقات بمزايا خاصة وعامة فقد تكون استمرارية لزمالة الدراسة التي توطدت واصبحت صداقة دائمة أو علاقات عمل أو هواية ونشاطات اجتماعية مختلفة فيتبادل معهم المعارف والأفكار ويشد بعضهم أزر بعض ويقفون مع بعضهم في الشدائد والمسرات، متفاعلين ومشاركين في الأحداث الاجتماعية، ونحن نعلم أنه من خلال هذه المراحل أنه ليس شرطا أن كل زمالة دراسة أو عمل أو نشاط اجتماعي أو جوار قد تتطور لتصبح صداقة حقيقة بل تبقى في اطار الزمالة فقط، حيث أن الصديق هو الذي يعي معنى الصداقة الحقيقية، فالصداقة بحاجة إلى الصدق والصدق لا يحتاج إلى صداقة، ولذلك نرى تنوع الصداقات منها الصديق المتصادق الذي يتميز فقط في الوعظ والنقد وتوجيه الاتهامات لصديقه في سوء التصرف على العكس تماما من الصديق الصادق الذي يكون عونا لصديقه في السراء والضراء ويساعده في الوصول إلى الحلول الناجعة لمشاكله الخاصة والعامة ويضع نفسه معه في موضع المسؤولية التامة متحملا كل الاعباء والنتائج، ولاننسى انه وفي الطرف المقابل ولظروف الحياة الاجتماعية المختلفة وتنوعها نجد من أيضا من يدعي الصدق في علاقاتهم ويظهرون إخلاصهم لكنهم في الحقيقة هم اشباه أصدقاء فهم كموج البحر في يوم عاصف لا يمكن الركون إليهم أو الاعتماد عليهم، ومن الأصدقاء الأصدقاء النفعيين الذين يرومون من صداقتهم تحقيق منافع مادية أو معنوية أو غايات خاصة وما أن تنتهي هذه المنفعة وتتحقق الغاية المرجوة من هذه العلاقات والحصول على المكاسب المطلوبة أو فشلها حتى تتعرض هذه العلاقة إلى الفتور وصولا إلى تجاهل البعض للأخر والمؤدي إلى الافتراق، ولذلك يتحتم على الإنسان أن يبحث عن الصديق الصادق الصدوق الذي يمكنه الوثوق به دائما ويستطيع الاعتماد عليه في كل الأمور وهو الذي يقف إلى جانبه دائما في كل الأزمات وأحلك الظروف متجاوزا كل العقبات ولا يدخر جهدا أو وسيلة لمساعدته إلا ويقدمها له ولا ينتظر منه الجزاء سوى الاحتفاظ بالصداقة الحقيقية ولا يلتفت إلى ترهات الآخرين واتهاماتهم له ممن يحاولون النيل والتأثير على هذه الصداقة، وعلى اعتبار أن لكل إنسان طبعه الخاص وسيكولوجيته وهو الذي يضع ويصنف أولوياته ويضع الخطوط العريضة لحياته فهو يختار أصدقاؤه وفق مواصفات ومعايير خاصة به اجتماعية ومهنية وثقافية وأخلاقية، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يحدد مدى العلاقة معهم بعيدة كل البعد عن المشاعر والميول العاطفية التي لا تحدد إلا بعد الاستقرار والاستقراء، واضعين نصب أعينهم أن الاحترام المتبادل هو من الأولويات فاحترام الناس واجب أخلاقي تفرضه المدنية الحضارية والأخلاقية وهو دليل احترام الإنسان لذاته، ويبقى احترام الآخرين إلى أن يثبت أن البعض غير جدير بهذا الاحترام، وامثال هؤلاء سوف يسقطون من تلقاء أنفسهم بتميزهم بعدم احترامهم لأنفسهم أولا وللأخريين ثانيا وفي حال تم اكتشافهم مبكرا وجب الانصراف عنهم فورا كي لا يفقد الإنسان احترامه لنفسه واحترام الآخرين له ولهذا فإن جميع العلاقات الاجتماعية الصحيحة تعتمد على مبدأ المساواة والإيثار والتآخي بالوقوف جنبا إلى جنب، فالصديق المثالي لا يمشي متقدما صديقه طالبا منه أن يسير كالتابع خلفه ولا هو يسير خلف صديقه بل يأخذا بأيدي بعضهما ويسيران معا للوصول إلى الغايات والأهداف النبيلة وتحقيق الأفضل لكليهما.
الدكتور محمد توفيق ممدوح الرفاعي