آراء حرة

الرؤية وجيل السرد

نصوص محمد الفخراني


تكتب د. أماني فؤاد
‏ في المشروع الروائي لمحمد الفخراني
د. أماني فؤاد
ماذا لو تحدثت نصوص (محمد الفخراني)؟
أحسب كأنها ستقول:”أُخلق لأكون في النهاية شبيه بالمتفجرات التي بلا ضجة، للتدمير ‏العميق، أنا لست مع التدمير، ولا أنتمي لأي شكل من أشكال العنف، التدمير الذي ‏أعنيه مخالفة السائد، أنا مع القدرة على الكشف الإنساني الرحب، القدرة على المرور ‏والتحليق فوق المعتاد، مع القدرة على إسقاط الجدران التي تجسد ثوابت مقولات الانغلاق ‏والسوداوية، وإحلال مقولات أخرى، قد تقول: أنا حزمة إمكان، ومقاومة ضد الاستحالة”.‏
عند تناوُل نصوص الفخراني الروائية؛ يتبدى النقد في مواجهة الخطاب المضاد لسلطة ‏الخطابات السائدة، في “السردية الفنية والفكرية”، بمعنى في مواجهة طرق وأشكال للتفكير ‏والإبداع بطريقة مختلفة، وهنا لا يمكن للنقد أن يمتلك آلياتٍ جاهزةً، فلن أستطيع على ‏سبيل المثال أن أقول إن الفخراني لديه تناصات واضحة مع اللوح المحفوظ أو الأقدار ‏المكتوبة منذ الأزل في نصه الأخير “حدث في شارعي المفضل”، لن أستطيع أن أدَّعي ‏أن هذه الرواية تتضمن بعض أصداء من حياة (روبنسون كروزو) على الجزيرة التي وجَد ‏نفسه عليها، منعزلا عن العالَم، وكان عليه أن يحافظ على حياته. قد تتراءى لك بعض ‏الأصداء والخيوط، وقد تلمسها، لكن الحقيقة أن هناك أفقًا ذهنيًّا استوعب وتأمَّل، قرأ ‏وشاهَد، فكر وشَعَر؛ ونتيجة لانصهار كل هذا؛ وانطلاقا من رؤية تملك خطابا مضادا ‏وطرحا آخر معاصرا لاحتمالية نهاية الأرض وتآكلها، طرحا قد يكون رومانسيا وحالما، ‏لكنه أوجد خلقًا جديدًا، خلقًا يوظِّف الموروثات الثقافية كافة، دون مباشَرة، يوظِّفها بحِس ‏خاص، يكتب متحررًا من موروثه، الذي انصهر بداخله، وأصبح في حالة من السيولة ‏التامة، هو ليس متخلّيا، لكنه متحررا، تلك المساحة التي مكَّنته من الابتعاد بصورة ‏جذرية عمَّا نُطلِق عليه تناص أو محاكاة، أو صُنع حالة من الجدَل مع التيمات والأفكار.‏
كما لا تصلح مع نصوص (محمد الفخراني) الكليشيهات البلاغية المحفوظة، حين ‏يمارِس النقد بحثه، مثل قولنا بمصطلح أنسنة الأشياء، وجعْلها تنطق، أو الحوار معها، ‏حيث يتعامل الفخراني مع الأشياء والمعاني والألوان باعتبارها كيانات، لها دلائل في ‏ذواتها، فاللون الأصفر والنوافذ والشوارع، والأطعمه، والروائح، كلها موجودات تحمل ‏معانيها في ذاتها، كما تكني عن معانٍ أكثر دلالة مما نلتقطها في الواقع. يجعلها كياناتٍ ‏تفكر، ويصبح لها وقْع وحضور، وصوت يحاوِرك، ويحاور القارئ بالتبعية، كيانات ‏وأشياء كما هي في حقيقتها، بطبيعتها هي، لكنها تحاوِر. كما تعامله مع منظومة ‏المجاز، الفخراني يُخلِّق عوالِمَ، خلْقًا خاصًّا، وجوديًّا، مشاهد كاملة الدلالات وهو ما ‏يتطلَّب من النقد أن يتسع ليتساوَق مع هذه المخيلة، التي لا تخضع للمعتاد.‏
هذا وتتشكل تقنيتا الزمان والمكان في نصوص الكاتب بما يهيِّئ ميدانًا رحبًا للرصد ‏النقدي والاتساع بفعاليات هاتين التقنيتين، وما يمكن أن يخلَّق منهما، فالزمان في نَص ‏‏”حدَث في شارعي المفضَّل” يتوالد بعضه من بعض، وهناك أيام تمُر طبيعية، تتضمن الــ ‏‏24 ساعة، وأيام أخرى تنضغط فتكون 12 ساعة، أو 17، كما أن عُمر المرأة يتغير كل ‏يوم، يعود في أيام إلى الماضي، فتعود في عُمر الاثنين وعشرين عامًا، التي كانت عند ‏بداية الأحداث، وأيام أخرى تصل لعُمرها الحقيقي حيث تبلُغ 85 عامًا، ثم تعاوِد العمر ‏المحدود، وهكذا. ‏
في “لا تمُت قبْل أن تحب” يريد الطبيب العيش 365 سنة؛ ليُرزق بطفلة، ويمشِّط شَعرها، ‏كما أن الزمكان بأحداث الرواية له إيقاعه الخاص، حيث تنسرب الأحداث في الأماكن ما ‏بين الأرض والبحر والسماء، لا اعتراف بالحدود الزمنية أو المكانية المتعارف عليها. ‏
ومثلها رواية “مزاج حر” حيث يجوب البطل في الأزمنة والأمكنة، سواء أرضية أو غيرها، ‏بمنطق فني متحرر، فالزمن في النُّصوص هلامي، زئبقي، يشكِّله الروائي بما تقتضيه ‏مخيلته وسرديته غير المعتادة، ومثله المكان، ولأنه يتغيَّا مطلَق المعاني والإنسانية، ‏مطلَق الموجودات؛ لا يشكل له مفهوم الزمان أو المكان قيدًا أو ضرورة.‏
كما يجيد الفخراني تلبُّس شخصياته المخلَّقة من مخيلته؛ بمعنى لو أنه مصوِّر مثل ‏‏”تشوكا” في نَص “لا تمت قبل أن تحب”، أو أستاذ تاريخ أو طباخ في “غداء في بيت ‏الطباخة”، لو أنه رسام، لو أنه امرأة إذاعية ذات رائحة أرضية، يتلبس الشخصيات ‏وطبيعة اهتماماتها ومنطق تفكيرها، وفلسفة رؤيتها للأشياء، حتى مفرداتها التي تتأثر ‏بمهنتها وبيئتها، حيث يشتغل الروائي جيدًا على بنْية الشخوص، وما يحيط بها من بيئات ‏متنوعة وطقوس خاصة بكل فضاء فردي. كما لا تمثِّل الشخوص عادة في بعض ‏نصوصه ذواتهم الفردية، لكنهم في بعض الروايات يحملون الفكرة في امتداداتها الزمنية، ‏وتحولاتها، مثل شخصية الإذاعية الأرضية في “حدَث في شارعي المفضَّل”، تجسد مطلق ‏المرأة أو الإنسان ولذا تعامل الروائي مع الزمن بهذه التقنية المراوغة التي يضغطها، أو ‏يمطّها لتتسع، وبالرغم من هذا يجيد أيضا أن يصنع لها تفاصيل إنسانيتها وأنوثتها ‏الخاصة.‏
وخلافًا للتيار المابعد حداثي في الأدب، تظَل شخصيات الفخراني فاعلة، ليست منسحِبة ‏ولا انهزامية، ليست سوداوية أو مستسلمة لليأس من كل الأحلام، لكنها أيضًا ليست ‏الأبطال الكلاسيكية، جهورية الصوت زاعقة الحضور، درامية المصائر، أبطال الفخراني ‏تجسد الإنسان في خصاله وطبيعته التي تنحو لرومانسية مفكرة متعقلة نسبيًّا، الإنسانية ‏بمعنى المحبة والتسامح والخير، بمعنى التفكر وتغليب الحياة لا الموت.‏
وهنا قد يطرح القارئ تساولا: على ماذا يراهن الفخراني في “حدث في شارعي المفضل” ‏مثلا؟ وأتصوره لا يقف ليقول أنظروا كيف أن البشر أشرار، وأن السلطات فاسدة، ‏وجميعهم دمروا الأرض، بل يقف ليقول: أنظروا كيف يمكن أن تكون الإنسانية، ذات ‏إرادة رحبة الآفاق، واعية، محبة، ولم تزل قادرة على الاستمرار وإصلاح ما أفسدته على ‏مر القرون، وأن البشر ليسوا أشرارا، هم بشر لم ينتبهوا لأخطائهم فقط، ربما يراهن على ‏الأمل.‏
بعض الكُتاب يجيدون تجريد العالم، يستطيعون رؤية الهيكل العظمي للكيانات، بمعنى ‏رؤية أسس التكوين للحكايات البشرية، يجيدون أيضًا التقاط الامتدادات الملحمية في ‏المحكيات الكبرى والأساطير، وإعادة خلْق الوجود وتجسيد صراعاته بطرق مبتكرة، بإعادة ‏طرْح أفكاره الأساسية، التي صَنَعَت الحضارة البشرية، وهو بالفعل ما يجيده الفخراني، ‏حيث كشَف الهيكل العظمي للكيانات والأفكار الإنسانية، لكنه يجيد أيضًا تكوين تفاصيله ‏ومفرداته الخاصة من رؤى جديدة، من خطاب مضاد، بما يجعله إنسانيًّا وسويًّا إلى حد ‏كبير، حيث يستطيع بعصا سرْده السحرية أن يدفع بالنبض البشري الرهيف في فقرات ‏نصوصه وأدواته، والتقاط التفاصيل الدقيقة التي تميِّز الشخوص المتنوعة، كما اللعب ‏على الحواس البشرية المختلِفة، وتهيئتها سرديًّا لجعْلها ممرات تلتقط الرهافة الإنسانية. ‏بلغة سهلة ومطواعة، لا يمكن أن تشعر معها بصعوبة مفردة أو عدم انسيابية تعبير، ‏حيث تخلو أساليبه من أيِّ نتوءات تستوقفك أثناء القراءة.‏
وكما ذكرت، أول المقال السابق، هناك بعض المَكْر الجميل في بنْية النَّص، وترْك ‏مساحة للعب والاحتمالات، ومفاجأة القارئ حتى الصفحات الأخيرة؛ حيث يكتشف القارئ ‏أن الرسام الموهوب لم يتعدَّ أربعة عشَر عامًا، كما يترك الكاتب مساحاتٍ فارغةً في ‏القَص متعمدًا، فلا نعرف كيف مات الأخ الذي طلب من أخته أن تأكل قلبه باعتباره ‏أفضل من سندويتشات الجبن بالطماطم، أو أوراق الشجر، كما لم نعرف شيئًا عن الدفاتر ‏التي دوَّنت فيها (الأرضية) يومياتها أثناء عيشها وحدها على النقطة التي تبقَّت من الكرة ‏الأرضية. لكننا نلاحظ أن كل ممارستها الحياتية وكل أدواتها وكل مفردات عيشها كلها ‏طبيعية وغير مصنَّعة إلا بطريقة بدائية، طرق تعتمد على قوة عضلات الإنسان وأدواته ‏البسيطة غير المعقدة، تلك الطرُق غير الصناعية التي لا تساعد على تلوُّث الأرض أو ‏فنائها. لا يهَبُك الفخراني الأشياء والعلاقات سهلة، بل يتركك في حالة شغَف وتوقُّع ‏وإعمال للذهن؛ لتكتشف المعاني العميقة للأشياء، دون أيِّ خطابية أو مباشَرة.‏
ويُعلي الفخراني من دور الفنون بأشكالها كافة في حياة الإنسان، باعتبار أن (الفن) هو ‏الجسر الذي يجعل البَشر يَصِلون لذواتهم بأجمل طرُق الكشف والترقي، الفنون تجعلهم ‏ينظرون لعُمقهم الإنساني، ويعيدون تفحُّصَه وجوانب الخير فيه، فلا يخلو نَصٌّ من ‏نصوصه إلا وتجد رسامًا أو مصوِّرًا، أو موسيقيًّا، أو كاتبًا، يعيد كشْف العالَم على نحو ‏غير اعتيادي، من منظور إنساني أكثر حساسية. ‏
وتبقى الإنسانية العذبة، شديدة الرهافة والعمق، تلك المحمَّلة بالتفاصيل البسيطة بطلًا ‏رئيسًا يزهر في نصوصه، بطلًا يتهيَّأ الكاتب لبنْيته، وصوغه في كل رواية بطرُق مختلفة ‏ومتنوعة، حيث مغايَرة التفاصيل التي يرصدها في كل نَص. ورغم تنوُّع فضاءات وعوالم ‏نصوص محمد الفخرانى، ونزوعه إلى التجريب، وارتياد تيارات كتابية منفتِحة؛ فإن تغليب ‏الإنسانية، وفرادة طرْح المعانى من زوايا متجددة، يُعد السِّمة المهيمنة على كتاباته ‏السردية، وآفاقه الذهنية المفتوحة على الوجود، ورحابة تأويلاته‎.‎‏ ‏
في النهاية هل لنا أن نتساءل: متى تصبح التجربة السردية الفنية أكثر اتساعًا من الواقع، ‏من اليومي والمعاش، أكثر اتساعًا من التجارب الشخصية المحدودة مهما اتَّسعت، أكثر ‏اتساعًا أيضًا من المتخيَّل المباشِر الشفيف، والبسيط، متى تجسد خطابا مقلقا لسلطة ‏الثبات، وهل يمكننا أن نقيم مفاضلة بين كاتب يكتب الواقع، من الحياة، يغمس قلمه فيها ‏ويكتب، وآخَر يقيم عوالمه المتخيلة التي يلتقط فيها بعض الواقع، ثم يفارقه ليبتكر هو ‏عوالم أخرى؟
أحسب أن هذه المفاضلات لا تصح ولا تنتمي لطبيعة الفن الأكثر رحابة عمَّا نتصور، ‏في ظني أن الفيصل هنا فنية العمل وشاعريته، وقدْر ما طُرح من أفكار تناوِش وجودنا ‏التي تحول الإبداعات دون تكلُّسه.‏
كما أن الخلَّق الجديد يتطلب من الكاتب عوالِمَ مكتملة، عوالمَ تتفاعل عناصرها وأحداثها، ‏تتسع فيها الشخوص لتحمل على أكتافها، وفي عقولها ووجداناتها الفكرة في جوهرها ‏العميق، تجسد الصراعات الوجودية فيزيقية أو ميتافيزيقية.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى