الرئيس السادات.. أيام فى غرفة عمليات حرب ٧٣ …
المفكر العسكري والخبير الاستراتيجي ؛ اللواء د. سمير فرج - يكتب من : مصر القاهرة ...
كانت المرة الأولى التى ألتقى فيها الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فى واحد من أهم وأعظم الأيام فى تاريخ مصر، يوم السادس من أكتوبر ١٩٧٣م.
كان مكان اللقاء غرفة عمليات حرب أكتوبر ١٩٧٣، والتى كنت متواجدًا بها كأصغر ضابط برتبة رائد أركان حرب، فبعد دراستى فى كلية أركان حرب، ولكونى الأول على الدفعة، تم اختيارى لأكون فى هيئة عمليات القوات المسلحة المسؤولة عن التخطيط وإدارة العمليات، فكان لى شرف التواجد، طوال فترة حرب أكتوبر، فى غرفة العمليات الرئيسية للحرب، لأشهد على جميع أحداثها.
كنا فى يوم العاشر من شهر رمضان المعظم، وكنا جميعًا صائمين، وإذا بالرئيس السادات يصل إلى الغرفة فى تمام الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وخلفه عدد من الجنود حاملين فى أيديهم صوانى طعام بها سندوتشات وعلب عصير، ليُمسك بالميكروفون وينادى على جميع من فى الغرفة من قادة وضباط قائلًا: «أنا الرئيس أنور السادات، رئيس الجمهورية، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، لقد وصلت اليوم لأكون معكم فى أهم لحظة من حياة مصر، وفى البداية أقول إن الله سيكون معنا لأننا أصحاب حق وندافع عن أرضنا وعرضنا، ولقد حصلت على فتوى من دار الإفتاء المصرية اليوم، أنه من حق كل من يقاتل لتحرير الأرض أن يفطر فى رمضان لأنه يجاهد من أجل تحرير أرضه، وأرجو أن يتم إبلاغ كل الجنود والضباط فى الجبهة أن المفتى أباح لهم الإفطار فى شهر رمضان الكريم».
قام أحد الجنود، منفذًا للتعليمات، بتوزيع سندوتشات علينا، فما كان من الجميع إلا أن وضعناها جانبًا، دونما أى اتفاق بيننا، واستمررنا بالعمل.
بعد أن انتهى الرئيس من كلمته، جلس فى موقعه على المنصة الرئيسية، وعلى يمينه المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية آنذاك، وعلى يساره الفريق سعد الشاذلى، رئيس الأركان، وعلى يمين وزير الحربية رئيس هيئة العمليات اللواء محمد الجمسى.
وأمام هذه النخبة العسكرية، التى أدارت معركة النصر، كانت هناك خريطة كبيرة لمنطقة العمليات، وكنت أنا، الرائد أركان حرب سمير فرج، أجلس على هذه الخريطة ومهمتى رسم مواقع العمليات أولًا بأول وفقًا لما يدور فى أرض المعركة حتى يتمكن الرئيس السادات ومعه القيادات من رؤية الموقف على الخريطة أولًا بأول.
كان أول ما فعله الرئيس أن طلب من الفريق سعد الشاذلى، بصفته رئيس أركان حرب القوات المسلحة، عرض الموقف الآن، قبل بدء الحرب، وهو ما قام به الفريق الشاذلى، وأخذ فى استعراض الموقف على الجبهة، ووضع استعداد القوات لبدء العملية الهجومية «جرانيت» فى تمام الساعة الثانية ظهرًا، وأن مركز العمليات تلقى تمام استعداد جميع القوات لبدء العملية الهجومية، ولم ينسَ الشاذلى أن يعرض على الرئيس السادات الموقف فى الجبهة السورية، واستعداد القوات هناك، كذلك موقف الوحدات البحرية فى باب المندب، والتى ستقوم بفتح مظروف العمليات فى الثانية ظهرًا، لتبدأ تنفيذ المهمة الساعة ٢:١٥ ظهرًا، وبعدها طلب الرئيس السادات أن يتصل بقادة الجيوش، فبدأ بالاتصال بقائد الجيش الثانى، ثم قائد الجيش الثالث، واطمأن منهما على استعداد قوات الجيش لبدء الهجوم، كذلك اتصل بقائد القوات الجوية وسأله: «يا حسنى ولادك جاهزين؟ أنتم أول من ينفذ بدء العملية الهجومية»، بعدها اتصل بالفريق محمد على فهمى، قائد قوات الدفاع الجوى، وقال: «يا محمد لو طيارة إسرائيلية دخلت عندنا.. خلى بالك مش هنقدر نفرد الكبارى ونعبر».
ومرت الدقائق كأنها سنوات، حتى بدأت الضربة الجوية، وشاهدنا على الشاشة داخل غرفة العمليات الـ٢٢٠ طائرة تعبر قناة السويس، لتنجح الضربة الجوية الأولى، وكان من المفترض أن تكون هناك ضربة ثانيه فى حالة عدم نجاح الضربة الأولى، لتأتى الإشارة من الفريق حسنى مبارك بتمام نجاح الضربة الأولى، وعدم وجود داعٍ للضربة الثانية.
وبدأت البلاغات تتوالى بعبور الموجات الأولى من قواتنا بالقوارب المطاطية. وبدأت أتسلم أنا شخصيًا إشارات سقوط نقاط العدو الإسرائيلى على خط بارليف، حتى جاءت الساعة الثالثة، وشعرت بحركة غريبة على المنصة، فقام اللواء الجمسى من مكانه وهمس فى أذن المشير أحمد إسماعيل، وبعدها قام المشير أحمد إسماعيل وهمس فى أذن الرئيس السادات، وقاما معًا إلى خارج غرفة العمليات، التى يوجد بها مكتب صغير، بعدها عاد الاثنان إلى غرفة العمليات، ليُمسك الرئيس السادات بالميكروفون وينادى على الجميع: «يا أولادى، الآن سمعت خبر استشهاد المقدم طيار عاطف السادات، ليكون أول شهيد فى الضربة الجوية، وهو أخويا الصغير». وهذه مشيئة رب العالمين أن يكون أول شهيد فى هذه الحرب المقدسة، ليعطى عائلة السادات هذا الشرف، وجلس الرئيس السادات وظل يتابع موقف العمليات، ولكننى يومها لاحظت لمعة الحزن فى عينيه، رغم أنه كان يريد أن يخفيها عن الجميع.
وفى اليوم التالى، يوم ٧ أكتوبر، حضر الرئيس السادات ومعه الأستاذ محمد حسنين هيكل من أجل مراجعة التوجيه الاستراتيجى من الدولة للقوات المسلحة للقيام بالعملية الهجومية، أو ما يُعرف بوثيقة إعلان الحرب، ولقد أضاف الأستاذ هيكل جملتين على التوجيه الاستراتيجى الذى تعده القوات المسلحة بغرفة هيئة العمليات، لكى يعطى هذا التوجيه البعد السياسى الاستراتيجى، ولقد تكرر حضور الرئيس السادات إلى غرفة العمليات لعدة مرات، حيث كان له مركز عمليات خاص مصغر للغاية، ويدير العمليات على مستوى الدولة من قصر القبة. وكان يحضر إلى المركز عندما يحتاج الأمر إلى وجوده للموافقة على قرار بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وخلال زيارته لمركز العمليات كان فى الكثير من الأحداث يخرج من غرفة العمليات الرئيسية للمرور على القادة فى مكاتبهم، مثل مدير المخابرات الحربية وقائد سلاح المدفعية وغيرهما، ويتبادل الحديث مع الضباط، وقد كان لذلك بالطبع أثر كبير فى رفع الروح المعنوية لدى الجميع، وكنت بالطبع واحدًا منهم، فالروح التى كانت تسود المكان طوال أيام الحرب من المشاعر التى لا يمكن أن أنساها فى حياتى.
وعندما أستمع فى كل مرة لأغنية وردة الجزائرية «وأنا على الربابة بغنى»، أتذكر الرئيس السادات، ففى إحدى مرات تواجده فى غرفة العمليات، طلب أن يسمع الأخبار فى الراديو، وكان المركز تحت الأرض بحوالى ٣٥ م، لذلك لا يصل إليه إشارة الراديو، ليقوم على الفور رجال سلاح المشاة بعمل «إريال»، سريع من الغرفة إلى سطح الأرض، وتم توصيل الراديو ليتم تشغيله ويكون أول ما يلتقطه أغنية وردة «وأنا على الربابة بغنى». وكانت أول أغنية نسمعها عن الحرب وعن النصر، لأننا كنا نعيش تحت الأرض قرابة شهر، لم نخرج إلى سطح الأرض، ولم نكن نسمع أيًا من الأغانى، لذلك كانت أجمل أغنية سمعتها وتذكرنى بأجمل نصر، وأتذكر معها الرئيس العظيم السادات.
رحم الله شهداء مصر، ورحم الله أنور السادات، شهيد الحرب والسلام.