لم يكن للسيد لازاركا غانوفيتش شنب ملتوي من جانبيه كذاك الذي كان يحتفظ به صديقه جوزيف ستالين ، شارب كثيف فقط ، استرخى لازاركا على أريكة جلدية في غرفة بإقامة متواضعة في موسكو بعدما استعرض صورا فوتوغرافية وأنهى قراءة رواية ” الأم ” لمكسيم غوركي للمرة الألف ، كان ” مدمر موسكو ” كما أطلقت عليه الصحافة الروسية يتمعن في صورة ستالين الزيتية ، منهكا بعدما عمد خروتشوف إلى طرده من الحزب الأحمر ودواليب الحكم .
سمع طرقا خفيفا على باب الغرفة ، أذن للطارق فدخل رجل نحيف الجسم قصير القامة ، إنه صديق الدراسة القديم لم يترك أثرا في تاريخ روسيا السياسي لكنه ظل وفيا يزوره كل مساء يؤنس وحشته ويذهب عنه لوعة غدر الرفاق ، حياه واتخذ كرسيا مقابلا مجلسا له فبادره بالسؤال بدون مقدمات وكأن للرجلين سلسلة من حديث لا ينتهي :
_” صديقي لازاركا ، هل من الضروري أن يحتفظ القادة التاريخيون بشواربهم وأشنابهم ، ما السر في ذلك ؟ ” .
ابتسم لازاركا وعقب :
_” يبدو أنك تؤسس لنقاش عميق صديقي ، لكنك وجدتني أستعرض ماضي روسيا بما له وما عليه ، انظر ، آخر رئيس أمريكي كان له شارب هو ويليام هوارد ، فقد كان يرى أنه يبني قوة لبلاده ستجني ثمارها فيما بعد ، وإمبراطور المغول جنكيز خان اعتبر الشارب واللحية سببا في ترهيب عدوه في أرض المعركة ، في حين كان لأدولف هتلر شاربا مكتملا لكنه اضطر للتقليص منه فيما يشبه فرشة أسنان ليس أناقة ولكن ليستطيع ارتداء قناع الغاز اتقاء هجمات الخردل التي كانت تشنها القوات البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى ” .
نظر الصديق العجوز إلى صورة ستالين وسأل لازاركا :
_” والقائد جوزيف ستالين ؟ ” .
عقب لازاركا في مزاح خفيف :
_” كان طول ستالين يبلغ مترا وثمانية وستين سنتمترا فقط ولذلك عوض قصر قامته بشنب مفزع ” .
ولأن الصديق كان هاويا للحديث الطويل فقد عدل من جلسته وقال :
_” يبدو أن ستالين الذي نعته الكثير بأنه كان يلوح بقرني الشيطان وجناحي الملاك المنقد لروسيا كانت لبداياته الأولى مظاهر ثعلبية ، أعتذر لأنك رفيقه الوفي ” .
تنهد لازاركا ، أخذ غليونه الأسود ، نال منه نفسا طويلا فقال :
_” اسمع صديقي ، نشأ جوزيف في بيئة قروية فقيرة من أب إسكافي عنيف وأم فلاحة ، أرادته أمه أن يصبح رجل دين شكرا لله بعد فقدانها لأخويه ، ونظرا للموروث الأرتودوكسي ببلدته تعرض لسخرية أقرانه بسبب ندبات قبيحة على وجهه نتيجة مرض الجدري ، وكان من الطبيعي أنه سيميل إلى طريق الكهنوت في قريته لسد الفراغ العاطفي بعد هجر والده البيت لكنه تعلق بأمه كثيرا وطرد من المدرسة الروسية للمسيحية الأرثودوكسية لتغيبه عن موعد الامتحان ، كان موقفه من المسيحية ظاهرا بشكل مبكر في حين كان نهم القراءة الحرة عن الثورة والماركسية ، لقد مر جوزيف بثلاثة مراحل : طفل ويافع هادئ كتوم ، شاب بملامح ثائر ، قائد لا يعترف بالحواجز ذو شنب مفتول ، لكن المشترك في هذه المراحل تجلى في ثعلبيته التي تنذر بالشيء الكثير ، لقد قال في إحدى قصائده : ” احصد أيها القديس العجوز مازرعته يداك ” ، وعن الحصاد حديث آخر ذو شجون سأخوضه معك غدا مساء ، هيا صديقي لنرتشف قهوتينا ونلعب الورق ” .
_2_
في نفس التوقيت من اليوم الموالي طرق الصديق الباب ، فعلى ما يبدو أن للزائر حظوة بالغة لدى أسرة غانوفيتش ، إذ يترجل رأسا إلى غرفة لازاركا ليجده هذه المرة يكتب على أوراق هي أشبه بمذكرات ، حياه مبتسما وجلس على نفس الكرسي الذي ظل في مكانه ايذانا بمواصلة حديث الثورة والموت والغدر برفاق الأمس ، بعد الاطمئنان من كلا الطرفين على حالتيهما الصحية ووضع البلاد بادر الصديق بالسؤال :
_” صديقي ، لن أصدق ما قيل عن ستالين إلا ما سأسمعه منك ، فأنت رفيقه المقرب وأعرفك بصراحتك ، فهل كان جوزيف يلوح بقرني الشيطان أم بجناحي الملاك المنقذ ؟ ” .
اعتدل لازاركا وأخذ غليونه الشبيه بذاك الذي كان عند ستالين ، حنحن وعقب :
_” لقد اتخذ ستالين القسوة المتناهية إحدى طرقه المفضلة للانفراد بالسلطة ، فقبل فتكه بتروتسكي كانت لواقعة خادمه المخلص ” جينريك ياغودا ” رعب بالغ في نفوس الشجعان ، لقد كان ياغودا ذو الشارب الهتليري رئيسا لشرطة ستالين السرية ، أرسل ملايين الناس إلى معتقلات الجولاك لشق الطرقات وحفر القنوات ، وحكم عليه أخيرا بالإعدام بتهمة الخيانة ، صرخ ياغودا في المحكمة ناظرا إلى ستارة حمراء تغطي شرفة عالية يمكث فيها ستالين : ” أناشدك أنت وحدك .. أنت الذي من أجلك بنيت قناتين عظيمتين ….” ، لم يعبئ به ستالين ، كان يدخن غليونه بصمت ويقطب شنبه ، ليأتي رئيس الشرطة الجديد ” نيكولاي بزوف ” ويأمر جلادا بإطلاق الرصاص عليه ” .
فتح الصديق فاهه ثم سأل : “وهل كان ياغودا خائنا بالفعل؟”.
أجاب لازاركا : ” ستالين وحده من كان يعرف ويقرر ” .
سأل الصديق وهو ينظر إلى مكتبة لازاركا المتواضعة الأنيقة :
_ ” هل كان ستالين قارئا جيدا وكاتبا ؟ ” .
أدرك لازاركا بأن صديقه لم يسأله اعتباطيا فأجاب :
_ ” نعم ، لقد اقتات من كتب مكسيم غوركي الذي ألف رواية ” الأم ” وهي صورة مفصلة عن الحياة البائسة للعمال والثوار ، وبدل أن يعتمد على الكتاب المقدس كما رغبت أمه فقد التهم كتب : رأس المال لكارل ماركس ، و من أجل سعادة النساء لإيميل زولا ، والإخوة كرامازوف لدوستويفسكي ، وسيكولوجيا الجماهير لغوستاف لوبون ، كما كان مؤلفا لكتب : المادية الدياليكتية ، والمادية التاريخية ، وأسس اللينينية ، والماركسية والقضية القومية ، وكان شاعرا ينظم قصائد في الشعر الجورجي ” .
ولأن الفضول كان ينتاب الصديق لمعرفة نفاصيل الأشياء سأل لازاركا :
_ ” كيف لشاعر أن يكون قاسيا ؟ ” .
أجاب لازاركا :
_ ” وماذا يزرع سياسي يطمح إلى السلطة المطلقة ليحصد في الأخير وهو من قال في إحدى قصائده : ” احصد أيها القديس العجوز مازرعته يداك ” .
نهض لازاركا وتوجه إلى مائدة لعب الورق مخاطبا صديقه :
_ ” هيا لنلعب قليلا ونرتشف قهوتينا وغدا نواصل الحديث ” .
_3_
هذا المساء كان مختلفا عن المساءات الماضية ، فقد ضربت موسكو موجة من الثلج والصقيع ، لكن الصديق لم يخلف موعده الثابت في المجيء ، كان لازاركا يلقي قطعا خشبية سميكة في مدفأته الحجرية العتيقة ، النار بدأت تحتدم رويدا وكأنها في انتظار حديث مشتعل ألما وصراعا ، ألقى الصديق التحية ، وبعد تفقد قصير سأل لازاركا في لهفة :
_ ” صديقي ، هذا الثلج الهادئ وهذه النار الملتهبة بمدفأتك يغريان بالحديث عن الصداقة والثورة ، وإن كانت الثورة تأكل أولادها كما تلتهم النار الحطب لتضيء ، ماحكاية ستالين مع رفيقه في النضال تروتسكي؟ ” .
أخذ لازاركا غليونه ، مسح مقدمته بطرف معطفه الصوفي وأجاب :
_ ” ستالين عارض الاشتراكية العالمية في بدايات الحكم الشيوعي للاتحاد السوفياتي ، وكان يفضل البدء بالبناء الاشتراكي المحلي ، وهنا كانت بداية الأزمة ، ومرة اتهم تروتسكي ستالين بنشر لغة تبشيرية للمعهد الكهنوتي في تلبيس ، لكنه اعترف يوما قائلا : ” لجوزيف ستالين أهمية كبرى في الخفاء وانه قادر على الإقناع ” لكنه استدرك بأنه :
” لم يكن القائد الرسمي للحزب ” .
عقب الصديق : ” إذن كان هناك صراع خفي على السلطة المرتقبة بعد موت لينين؟ ” .
أجاب لازاركا : ” نعم كان ستالين يهيئ لنفسه أتباعا سياسيين وعسكريين حتى يتبوأ كرسي الحكم ، ولذلك عندما أمر تروتسكي باعتباره رئيس المجلس العسكري بإعدام ضباط الجيش الأبيض عارضه ستالين مطالبا باستقطابهم للانضمام إلى الجيش الأحمر ، كان ستالين يجس النبض ويزن ثقله السياسي بميزان رجالات الثورة فقد قال في حقه لينين : ” ستالين شخصية قيادية ، إذ من الممكن توكيله بأية مهمة ” ، في حين شهد تروتسكي قائلا : “ستالين ريفي متوسط الفكر”،
ووصفه سوخانوف : ” حياة ستالين كالضباب الرمادي قبل 1917 ، وقال عنه روبرت سلومر : ” إنه الشخص الذي فوت في الثورة ” ” .
سأل الصديق : ” كيف لستالين أن يتفوق على سياسيين موهوبين مثل لينين وبوخارين وتروتسكي ويغلب تشرشل وروزفلت ويهزم هتلر ؟ ” .
ابتسم لازاركا وأجاب : ” كان لستالين تفسير لمقولة : ” الثورة تأكل أولادها ” ففي اعتقاده أن الانفراد بالسلطة يعطي القوة الخارقة في رسم الأهداف بدقة بدون منغصات ، فبعد موت لينين تألفت حكومة ثلاثية مؤلفة من ستالين وكامينيف وزينونيف لكنه تغلب على رفيقيه بمساعدة بوخارين وأصبح القائد الأوحد ، ويقدم على طرد تروتسكي من منظمة الشيوعية الأممية ويغتاله بعد نفيه بالمكسيك ” .
عندما رأى الصديق الظرف مناسبا لسؤال مفصلي وقبل أن يحين وقت القهوة المسائية ولعب الورق بقليل سأل في غير تردد : ” وماذا عن لينين في أواخر أيام حياته عندما أنهكه المرض ، كيف كان موقفه ممن يطمحون إلى خلافته ؟ ” .
أجاب لازاركا وعلامات الارتباك بادية على محياه لكنه ربط جأشه وقال :
_ ” في الحقيقة لقد شعر لينين بمخاطر محذقة بحزبه قد تؤدي إلى انقسامه بسبب خلافات بين ستالين وتروتسكي لذلك خط ” عهد لينين ” ومما جاء فيه : ” …….ستالين وحشي للغاية ، وهذا الخطأ يمكن تحمله تماما في بيئتنا وفي العلاقات بيننا نحن الشيوعيين ، لكن ليس في وظائف الأمين العام ، لذلك أقترح على الرفاق دراسة وسيلة لطرد ستالين من المنصب وتعيين شخص آخر في مكانه تكون له ميزة واحدة فقط عن الرفيق ستالين وهي أن يكون أكثر تسامحا وأكثر ولاء وأكثر أدبا ……” ، من جهة أخرى وصف تروتسكي في الوثيقة بأنه ” الأكثر قدرة في اللجنة ، لكن له ثقة مفرطة وتفكير إداري مبالغ فيه ” ” .
ظهر أن لازاركا يريد إنهاء الحديث ، التقط الصديق الإشارة ، نهض متثاقلا متوجها نحو المدفأة لتطعيمها ببعض الأخشاب وهمس :
_ ” لقد عرف ستالين كيف يشعل الثورة برفاقه القدامى وعرف كيف يخمدها ، كان ستالين قصير القامة لكنه عوض ذلك بإطالة شنبه ، الشنب الذي عرف به كما عرف هتلر بشارب أشبه بفرشاة الأسنان ، نعم تتعدد الشوارب والأشناب لكن التطلع إلى الانفراد بالسلطة واحد .
جمال عتو .
الشخصيات والوقائع حقائق تاريخية
صديق لازاركا شخصية خيالية لضرورة الحوار في القصة .