“المدينة في الأدب المعاصر” قراءة نقدية لقصص مدينة للنسيان للناقد بهاء الصالحي
أقيمت اللجنة الثقافية بنقابة الصحفيين ندوة لمناقشة المجموعة القصصية ( مدينة للنسيان) للكاتبة منال الأخرس و كانت إدارة الندوة للإعلامية المتألقة د/ عبير حلمي . وأقيمت الندوة بقاعة طه حسين بنقابة الصحفيين يوم الاثنين ٣١ يوليو ٢٠٢٣.
جاءت المدينة عبر تاريخ مصر المعاصر نقيضا للريف ولعل روائع الأدب المعاصر منذ الأرض عند عبدالرحمن الشرقاوي وكذلك علي مستوي الشعر منذ الناس في بلادي عند صلاح عبد الصبور ، وهكذا نحن مرتبطين بفن القص الحديث المديني المنشأ حيث فكرة الصراع كحقيقة وجودية ، وهنا جاءت أنماط الصراعات كمقياس للتقييم حيث نمط الصراع واطرافه وأزمنة الفعل حيث يقتصر الصراع علي حوار الذات مع الواقع او مع الاخر .
نعود الي القاصة في طرح نوعي جديد حيث تطرح البعد النفسي لعلاقتها بالمدينة ،وبالتالي تأتي درجة الصراع عبر مرأة الذات، هنا يكون الغرض الرئيسي للأدب هو التطهر، حيث يكون البوح نوع من إلقاء الثقل القابع داخل الروح، وهنا فلسفة الاعترافات، هنا يكون الاخر صنو للانا .
جاء ذلك في قصة أسيرة طيف ،حيث بدأت القصة الافتتاحية بفعل ماض : تخلصت من هوسها به ،هل هو حلم ام تخاطر أطياف بحوار مراجعة للذات وكأننا بصدد تقييم ذات وقدرتها علي استرداد صفاءها وقدرتها علي التحرر من الاخر .
حركة الوضوح المتوازن مابين حركة الشبح القابع داخل الذات الحاملة لهموم الماضي أمام الذات المدركة هنا الاختلاط مابين تقنية الحلم وضغوط الذاكرة يأتي وجود الاخر كصدي للصراع الداخلي وبالتالي يتحقق اختزال العناصر القصصية في سياق حدثي معين حيث الاخر هو قدر الذات فلا قيمة للذات الا بقدرتها علي التفاعل الواعي مع الأخر، وهنا كان انعكاس العنوان كمظلة تعبيرية .
تقدم القاصة نوعا من تنوع الاسلوب في تقديم العقدة او الفكرة الصراعية ،من خلال المقدمة الوصفية وهي تقنية مستمدة من العمل الصحفي، حيث ورد في قصة علمت الان :
ما ندمت يوما علي شئ فاتها ، لن تحزن قط من ضياع الفرص التي تلقي أمامها عبي طبق الأيام ويتهافت عليها الجميع من حولها ، واجهت نفسها استجابة لنظرات لومهم واتهامهم لها بالظلم .
هنا التهيئة الذهنية للقارئ، وبذلك يكون السارد واصفا، ليدخلنا القاص في صيغة درامية اخري ممثلة في الحوار ،ولكن الحوار في خطوط متوازية مما يعكس أزمة التواصل الإنساني بدليل عدم قدرة السارد الرئيسي علي اصدار أحكام نهائية علي السارد الموازي الذي يدفع عن نفسه تهمة الظلم ،تقنية الحوار كان في صيغة السؤال، تلك الصيغة التي بررت فكرة الحياد النفسي ،ولعل نهاية القصة متروكة لتوقع القارئ الذي يخمن ماهو محتوي تلك الورقة ومن هنا الربط مابين الشكوي منه والخلاف الذي ترتب عليه الطلاق .
اذن هنا العلاقة الثلاثية مابين أبطال القصة الثلاثة الزوجة والزوج المنفصلان والأخت، حيث يغيب طرف الا في الإشارة الخفية لنهاية القصة ممثلا دوره في الورقة ،وكأنها رحلة وعي لأنثى تجاه أزمة انثي اخري وكأنها تبحث عن ذاتها عبر الاخر .
حميمية اللغة وكأنها انحياز يعادل الحياد النفسي الذي يتم تسويقه في إطار البناء الهندسي للقصة من خلال الحركة المركبة: لم أتمالك نفسي ، اربكني السؤال ، كان صمتي تأكيدا لظلمها لكل من حولها ..بكت بغزارة تستنكر التهمة ، قالت :
الجميع هنا يتصرفون وكأنهم علي حافة الانفجار ،هنا تتوافق أحداث القصص مع العنوان العام كدالة معرفية ،حيث الهم العام كمشترك مجتمعي .
اللغة عند منال الأخرس
تتحدي منال نفسها في قصة الصمت الثائر من بداية العنوان حتي الأداء الحركي للغة من خلال استخدام ألفاظ موحية مثل : انهالت أمامي ازماتي، سالت مني أسئلة واستفهام في نزيف غير قابل لفكرة النهاية .
تلك العبارة تعكس السياق النفسي العام للمجموعة ، حيث تأتي حركة انهال التراب كما يسقط الجبال ترابا، هنا المفارقة من خلال قدرة السارد علي توظيف آلية الوصف كمهارة خاصة مع ثبات الابطال وطرفي الصراع الدرامي ،هنا تصبح مهارة اللغة الوصفية الموحية ذات الدلالة، حيث سيطر الفعل الماضي علي مفردات القصة : ثار صمتي وسكوتي / انهالت أمامي ازماتي.
البديع في اللغة من خلال توظيف الاستفهام كوسيلة لطرح الأسئلة لأن الأسئلة في العمل الدرامي تحقق عدة فوائد عقلية قائمة علي مفهوم القصدية والتنويرية في العمل السردي ، حيث يقاوم الاستسلام لطبيعة الحكي القائم علي فكرة الحدوته ،ولكن التنوير هنا يطرح للمتلقي ضرورة تدوير الحدوته التقليدية علي اكثر من وجه ليخلق فكرة التحفيز العقلي بدلا من مفهوم تفريغ الشحنة مما يخلق حالة من التطهر .
الجيد في تلك القصة ان اللغة خلقت نوعا من الحفاظ علي الإيقاع علي الرغم من اعتيادية الطرح الدرامي من خلال فكرة تداخل الأنا مع الاخر ومساحة الجدل مابينهما علي الرغم من ضيق المساحة التي يدور بها الصراع وهي ذات المحب المهزوم.
نستطيع القول بأن التجديد عند منال هو تجديد لغوي من خلال رصيد البلاغة العربية وهنا تراهن القاصة علي وعي القارئ وقدرته علي قراءة ما وراء تركيب الجملة : دماء الوهم =انسنة الوهم حتي صار الوهم شكلا ومضمونا هو الذات المقهورة ،ولكنها عندما قررت أن تتمرد وتستعيد ذاتها المفقودة فقررت قتل الوهم بأن تتفاعل مع نور الشمس لتكون وقودا لسعيها تجاه استرداد ذاتها ،فقررت استنزاف دماء الوهم لتصبح الشمس مرادفا للحرية.
ومن هنا القارئ يستشف قرار الذات المقهورة بالتخلص مما يربطها بفكرة الوهم علي الرغم من تسويق الوهم ،وأن الذات قادرة علي خلق البديل .
القاصة متحكمة في البناء الهندسي للقصة كنوع من امتلاك الأدوات الفنية الني تحقق الصدق الفني حيث تأتي النهاية لتراهن علي ضرورة دفع ثمن الحرية :
فانتظارها للحياة الجديدة منحها الشعور بالأمل الذي يساوي الكثير ، بل هو الإنسان، حتي وأن انتقلت الي حياة بلا دماء ثمنا لما تريد .
وأن كنا قد بحثنا عن ملامح العنوان داخل أجواء القصص الموضوعية والنفسية فأن القاصة قد اختطت عنوان قصة معينة داخل المجموعة عنوانا للمجموعة ،وهو خيارها الا أن تلك القصة قد بلورت الخط العام من حيث :
محورة العلاقات البنائية داخل المجموعة القصصية حول العلاقة النواة في الواقع الإنساني وهي علاقة الرجل بالمرأة وهنا مهارة التجريد دون الاخلال بضرورة ادماج العناصر الرئيسية للقص ،فالقص هنا قد حقق متطلباته من حيث زمن الحدث وهو عشر سنوات ثم أبطال القص وهم هو وهي من وجهة نظر هي حيث يمكن تقريبها لفكرة المونودراما كتقنية في مجال السرد القصصي وهو الغالب علي معظم قصص المجموعة .
ولكن المأزق أمام اي قارئ هو مقارنة النص السردي بالمقاييس الغربية كما ورد في مقارنة النصوص الام حال المثاقفة الاولي ، حيث حدثت المفارقة التاريخية مابين المقامة العربية كأقصى تطور للدراما العربية ، ومن هنا يصعب اعتبار بعض القطع النثرية الواردة في المجموعة، مثل قطعة السكين الواردة في صفحة ٣٩ حيث تعتبر في حكم الأرجوزة والمناجاة الوجودية ،حيث دقة الوصف وإعطاء مدلولات جديدة للغة وعلاقة جديدة بالاشياء فلا ندري اهي السكين ام قسوة نتائج الفراق . إعداد الناقد والباحث/ بهاء الدين الصالحي