يشعر قارئ سيرة “ألواح” لرشيد الضعيف – بعد نهاية النَّص – أن هناك الكثيرَ من المناطق المضبَّبة، التي لم يستوْفِها البَوح، وأنه في حاجة لمشروع سردي آخَر يستكمل فيه ما لم يَقُلْه الكاتبُ في هذا النَّص السِّيَرِي.
ففي ثنايا السرد مناطق مسكوت عنها، تختص ببعض الأحداث والمواقف المُهِمة، التي بدَت كثقوبٍ سوداءَ، مثْل تجربة زواج وطلاق صاحب السيرة 116، حيث لم يَحْكِ عنها على الإطلاق، وأيضًا التعتيم على مصير بعض الشخصيات، مثْل الرجُلِ الذي صرَّحت “ياسمين” – والدة الثمانية أبناء – بإعجابها به، واختفائه التام.
كما لم يَخُضِ الْكاتبُ في تداخُل التركيبة الطائفية اللبنانية، وأثَرها على حياته، إلا في إشارات انعكاسات الحرب على حياته الشخصية وإصابته، ونهاية تجربته العاطفية مع حبيبته “ناتالي” الفرنسية.
قسَّم الكاتب سيرتَه لفصول، لكلٍّ منها عنوان، مثل: (حقيقتي، الكَي، والدي وشكْل الأرض، اسم العائلة، والدي.. وهكذا)
ويأتي عنوان السيرة: “ألواح” ليعضِّد هذا التوجُّه الفطريَّ البدائي لهذه السيرة، وفي ظَني جاء اختيار الكاتب لمفردة “ألواح”؛ لأن ما يقُصُّه ظَل محفورًا في ذاته منذ الصغر، كالنَّقش على حَجَر الألواح، وانعكس على قراراته، فكُل ما يمُر بطفولة الإنسان يظَل منحوتًا وغائرًا في النفس، ومؤثِّرًا في الوعي، مكوِّنًا للشخصية، ولا يمكن تجاهُله، بل يتحكَّم في كل الاختيارات، مهما راجَع الإنسان ذاتَه، وحاوَل عصْرَنة وعْيه.
تعود بنا فصولٌ من هذه السيرة إلى جدلية ممتدة، طالما عالَجتها السرديات العربية في جوهر ثابت، وأحداث محتدِمة متغايرة، بداية من “عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم، أو “موسم الهجرة للشمال” للطيب صالح، لكنَّ لسان البَوح هنا أكثر واقعية وجرأة وقلقًا، منذ بداية العلاقة، أكثر إدراكًا لمصير قصص الحُب، التي تنشأ بين رجُل شرقي، وامرأة غربية؛ قبْضها على حريتها والحفاظ عليها أكبر من إحساسها بمسئوليتها تجاه أيِّ شخص أو قيمة، ورجُل يعترف بسيادة ثقافته الذكورية، وترُوقه، من خلال كل الإشارت التي أورَدها الكاتب في السرد.
يحكي الكاتب ألَّا عربيًّا من جبال لبنان يحتمل ناتالي ” كما أنها ليست لأرستقراطي من مصر أو بيروت أو الرباط، بل إنها ليست لطليعي أوروبي، إن ”ناتالي” لذاتها وحسب.141
يقع الكاتب في صراع حقيقي بعد تعرُّفه على “ناتالي” في حفْل كانت تحضره مع صديق لها، أثناء زيارة الكاتب لباريس، يلفت انتباهها بحكاياته عن جنون الحرب في لبنان، وعن الشِّعر والرواية أيضًا، كما استفاض في الحكي عن الانتهاكات البيئية، التي تُحدِثها مآسي الحروب، والنزاعات الطائفية، يقول في معرض خطَّته للاستحواذ على اهتمامها: “بالإضافة إلى رغبتي في الصيد. نعم في الصيد! فأنا ما زلت خارجًا من طلاق، باحثًا عن فريسة أدجِّنها وألتَهِمها.”116
ويضيف: “عقَدتُ مع “ناتالي” علاقة لم تشبِهْها علاقة. لم يكن الحب ما يشدُّنا الواحدَ إلى الآخَر. كنا عاصفتَين، تحاول الواحدة بأقصى قوَّتها وسُرعتها أن تلْحَقَ بالأخرى؛ لتذوب فيها، وتدمِّرَها، وتستوي الأمور إلى هدوء اليوم، الذي يَلِي العاصفة، … لم أكن أشعر أنها لي نهائيًّا وبالكامل، إلا عندما أكون معها في الفِراش.”120
وأحسَب أن صاحب السيرة عشِق “ناتالي” بحق، رَاقَهُ النموذج المعتَد بذاته، المتحرِّر، غير الملتزِم بأيِّ نوع من المسئولية تجاه أيِّ شخص، وهو ما يناقِض نموذج والدته تمامًا، كما رَاقَهُ علاقتهما الخاصة، لكنه شَعَر أن تلك العلاقة هي فقط ما تجمعهما، لذا مارَسها بنزوع للتملُّك، رغم شَكِّه الدائم؛ لتعدُّد أصدقائها وعشَّاقها السابقين، مثْل البرتغالي وغيره.
يقول: “لم نُقرِّرْ زواجًا ولا طلاقًا، ولم نقرِّر مُساكنة ولا فراقًا، كان عليَّ أن أعود إلى عملي وبيتي وحياتي، وكان عليها أن تبقى في بلدها وعملها وحياتها، وأن تستعد لممارسة عمَلها الجديد في نيويورك. لها حياة من دوني!
”كان صعبًا عليَّ أن تكون لها حياة من دوني. فالرجُل عندما يلامس المرأة؛ تصبح الكلمة له.”123 كما لم يشعُر الكاتب أبدًا أن الكلمة له، كما أنها لا تستوعب ثقافته وطبيعته وإشاراته ولمحاته، بإمكانها – وهُمَا معًا – أن تبادِر بالحديث مع رجُل يروقها، لا تقْبَل أن يسألها أيُّ شخص عن علاقاتها، وأين كانت، كما أنها لا تجيب من الأساس.
”كنت أخاف من فقدانها، ولم يكن من السهل (أو من الممكن) أن أتقاسمها مع آخَرين. فكرتي عن العلاقة أن تكون امرأتي لي. نقطة. خلص. امرأتي لي، وانتهى الموضوع. أمَّا أن تكون منفتِحة، وأن تتعامل بحضارة مع الناس، فهذا أمر مسموح، بل مطلوب. لكن إن تعدَّى الأمر ذلك؛ فالسقوط والكارثة، … “ناتالي” ليست لي، … يجب أن أحوِّل علاقتي بها إلى سياحة، أو ما يشبه السياحة، لا أكثر.”142
ويصِف الكاتب العواطف البشرية في معرض حديثه عن علاقته بـ “مريام”، وهي سيدة لبنانية مرَّت بحياته قبْل “ناتالي”، يقول: “كنت ملاذَها لا حُلمها، .. الفَيْء المتوفِّر.”118 ضِمْن علاقات كثيرة أخرى سابقة مرَّت بها “مريام”.
برَّر الكاتب لِذَاته تحوُّله السريع عن “مريام”، وكيف أنْسَتْه “ناتالي” مَن قبْلها، ولذا يصِف كهوفَ النفس البشرية، وما يتصل بعواطفها، بقوله: “عالَم العواطف عالَم كلب، بلا أخلاق ولا مبادئ ولا دِين ولا تربية، عالَم ظالم خالٍ من كل أثَر للعدالة. تصرَّفت بأنانية فجَّة وقِحة، (أعترف بذلك الآن… فهل تعترف هي لنفسها بذلك؟) ولكن هذه كانت أحوال الدنيا. وما صنَعْته أنا بيدي، صُنِع بي مثله بأيدٍ ظالمة.”119
وحين يتحدَّث عن عالَم العواطف؛ يستشعر القارئ جرأة شديدة، وتعريةً للذات والرَّغَبات والنوايا، وعيًا كاشفًا لمراحل تجارُب الحُب، فلكلِّ علاقة حُب فترة عاصفة، تطحن هذه الفترةُ الأسئلةَ، التي يستولدها تطوُّر العلاقة، بعد انقضاء تلك الفترة؛ يتضح كثيرًا أن الأسئلة المسكوتَ عنها تقفز كأسوار عالية تعوق حياة الطرفَين.
وفي رفْض داخلي لمساحته المحدَّدة بالعلاقة مع “ناتالي” لاختلاف الثقافات؛ مارَس معها علاقتهما الخاصةَ بنزوع للتملُّك والسيطرة، يقول: “كان الجنس لحظة اطمئنان إلى أنني أمتلكها وأنها لي، وأنها ليست لغيري، وأنها لا تكرِم بابتسامتها أحدًا آخَرَ غيري في هذه المدينة المليئة بالاحتمالات.”120
يتحدَّث رشيد الضعيف عن البَوح في كتابة السيرة الذاتية، ويراها إذلالًا للنَّفس، يقول عنها إنها: “تعرية للنفس وإماتة لها، أن تفضَح نفسَك إلى الحد المذِل، أمرٌ لا يتقبَّله الذوق دائمًا..”107 لكن هذا البوح العاري كان اختياره.
سافَر لمكان عمل “ناتالي” الجديد في نيويورك، اقترَض ليكون معها، وفي التوِّ شَعَر برغبته في العودة، حين شَعَر أنه ضِمْن آخَرين في حياتها، ولعِشقه لها حاوَل ترويض مشاعره وتدجينَها؛ لتتوافَق مع طبيعة “ناتالي” المتحرِّرة، لكنه لم يستطِعْ، علمت “ناتالي” – بَعد سَفرها ضِمن بِعثة للأمم المتحدة في أفريقيا – بحَمْلها لجَنين، حاولَت الاتصال به، وأرسلت له خطابًا، لكنهما لم يستطيعا التواصل، في أول لقاء لهما في باريس، يقول: “سألتها: شُو؟ ( (quoit?فأجابتني فورًا: يجب أن نتوقَّف عند هذا الحَد، لن أتابع معك. جئت لأقول لك هذا وحسْب.
وقالت لي، بعد أن أخبرتها كيف علِمتُ بحَبَلها، وكيف أنني عجزت عن الاتصال بها بسبب هذه الحرب اللعينة، التي أدْمَنها اللِّبنانيون وجيرانهم، قالت لي: ولماذا يكون عليَّ أنا أن أتحمَّل نتائج هذه الحرب، إذا كان هذا هو السبب؟ فعجزت عن الإجابة، وحضَرني وجْه أبي وهو مطفَأ العينَين، وحضَرتْني المرأة الجنوبية على رصيف برودواي في نيويورك، وأحسست بأن مخزوني من الطاقة نفَدَ فجأة، كَبَالُون منفوخ حُلَّ عنقه.”148
وتتَّسق اللغة وطبيعة المشاعر في هذه السيرة مع البيئة اللبنانية الجبلية، وصُوَرها ووعي ساكنيها، وتكوينهم الملتصِق بالجبل، يقول: “لم تكُن الوالدة تأخذ من ”يوسف” القوَّة كما يؤخَذ الماء من بئر، بل كانت تأخذها من نبْع لا ينضَب، من نبْع أسفل جبال عالية، وراءها جبال عالية.”41
وتتبدَّى لُغة الكاتب شفَّافة، تعكِس على سطْحها النابض مشاعِرَ الكاتب الكامنة، تعبِّر عن ضِيقه ورفْضه للسِّمات الشخصية لـ”ناتالي”، يقول في معرض حديثه عنها “وناتالي هذه”، و”هذه الناتالي”، (في هذه الصياغات كأنه يقول لنفسه من هذه المرأة التي تضطرني لقبول ما لا يتوافق مع طبيعتي!؟) وكأنه أيضا يستكثر عليها أن تفرِض طبيعة علاقة مقيِّدة بينهما، لا تَهَبَه حقوقَه المستحوذةَ عليها كلية التي عهِدها في ثقافته، وتومئ هذه الأساليب بعدم ارتياح الكاتب لطبيعة ثقافة الشخصية التي عشِقَها.
كما يتَّسق اختيار المفردات ورغبة الكاتب في إبراز الجانب الطبيعي البدائي للبَشَر، الجانب الغرائزي، وهو ما يتضح في اختياره للمفردات: (تحْبَل، رغبة في الصيد، أدَجِّنها، فريسة).
وفي منحًى رمزي وكناية دالة، يصِف الكاتب فِراش “ناتالي” في شَقتها، في نيويورك، يقول: إنه مِترَان ونصف في ثلاثة أمتار، وإنه ليس لحُرية الحركة بقدْر ما اختارته لحُرية الابتعاد، والحفاظ على خصوصيتها في أيِّ طرَف، حين تريد. تظَل علاقاتُ الحُب بين أصحاب الحضارات المختلِفة شاشاتِ عرْض، تبدو ساحرة للناظر من بعيد في البدايات، وبمجرد توَالِي المَشاهد والأيام؛ تحترق كل الأفلام، وتَسْوَدُّ الصُّوَر.