تأسست “المصري اليوم” منذ عشرين عامًا فبدت كيانًا صحفيًّا مغايرًا، كيانًا إعلاميًّا شابًا يزداد تألقًا مع كل إصدار يومي، مواجهات جادة مع مشكلات الواقع، وآراء حيوية تصدر يوميًّا من كُتاب مصر والعرب من أصحاب الأسماء الرصينة، هؤلاء الذين يُعِدون الكتابة رسالة وعي ومواجهة، ورغبة في تطوير رأي عام حقيقي وسيلته المعرفة والإحاطة بالمجتمع المصري بكل محاوره الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأحسب أن “المصري اليوم” استمدت من روح مؤسسيها روحَ المبادرة، والتمرد على السائد ومجاوزته، والقدرة على الوجود الطمَوح، القادر على الفعل، والتصويب باتجاه النقاط الإيجابية وتشجيعها، وأيضا إبراز السلبيات ومناقشتها، وهو الدور الرئيس للسُّلطة الخامسة.
حين بدأت الكتابة في “المصري اليوم”، منذ ثماني سنوات تقريبا، طُلب مني ألا تقتصر كتابتي على النقد فقط باعتباري أستاذ نقد أدبي، وأن أركز على الشأن العام، والثقافي، وبالفعل التزمت، وبدأت الكتابة بــمقال لا يتجاوز 500 كلمة، وكنت سعيدة لأنني أكتب في الجريدة التي أقرأها وأحبها، الجريدة الأكثر حرية وقدرة على المواجهة، الأكثر توزيعا في مصر وقتها، وسعدت بأي مساحة في صفحة الرأي، حتى لو موضع المقال آخِر الصفحة.
خلال الثماني سنوات لم يحدث يوما أن تم رفْض مقال كتبته كاملا إلا مقالين، كما تفهمت بعض الملاحظات التي أشاروا لها في بعض المقالات الأخرى، وتغيير بعض المفردات نتيجة لبعض الحساسيات السياسية أو الدينية في العقد الأخير، نتيجة للأحداث التي توالت على مصر، وثمَّنت لهيئة التحرير تعاملهم الاحترافي اللائق، والتزامهم بالرجوع إليَّ في كل مرة، دون تدخُّل مباشر من الجريدة، ولقد اتَّبعوا هذا النهج العام بالرغم من توالي رؤساء التحرير على رئاسة الجريدة.
تلقيت اتصالا إحدى المرات من المهندس (صلاح دياب) يهنئني بسلسلة مقالات عن تحولات الشخصية المصرية، وتحدَّث معربًا عن اهتمامه بهذه القضية، ودعمه الكامل في النشر لتغطية محاورها كافة، كما أشار لمتابعته للمقالات التي تعالج حقوق المرأة والتعليم، واستمتاعه ببعض المقالات النقدية التي تتابع المنتَج السردي والفني، وهو ما يفصح عن متابعته المستمرة لكل كُتاب الجريدة.
ومع الوقت كان لابد أن تكون مقالات النقد الأدبي ذات حضور جوهري، وأن يتم التفاعل مع المنتَج الإبداعي بين صفحات الرأي، واكتشفت أن الكتاباتِ النقديةَ تكتسب قراء كثيرين حين تُنشر في الجرائد اليومية، فعلى النقد أن ينفتح على القراء كافة، وألا يكون محصورا على القارئ المتخصص، حيث تشكِّل مقالات النقد الجاد جسورا حقيقية للتواصل المثمر بين المبدع والمتلقي وهو ما يفتح آفاق الإبداع لدى القارئ العادي، كما أن علينا ألا ننسى أن الحياة ذاتها نَص كبير متسِع الأبواب، وعلى النقد أن أن يشتبك بوعي لأجْل أكبر قاعدة من الجماهير.
بمرور السنوات كتبت في المصري اليوم العشرات من المقالات النقدية التي وجدت قارئها، كما راقت قُراء كُثرًا عاديين، وهو ما أوجد منافذ للتفاعل الحقيقي بين القراء والإبداعات السردية التي عرضتُ لها، والاشتباك معها بقراءتها، واستمرار التواصل مع السرد والفنون في مساحات أكبر مما أكتب، أو تكتب أقلام كُتاب آخَرين. علينا أن ندرك أنه لا يوجد تخصص في الكتابة ثقيل في ذاته ومنفر للقراء إلا إذا كان متعاليا عليهم، في أبراجه ومصطلحاته واستغلاقاته الفكرية واللغوية، فمهما بدا النقد من الفروع الرصينة، التي تتطلب جهدا فكريا وكتابيا؛ المهم دائما كيف نصوغه ليكون قريبا من المتلقي الذي يبحث عن كتابة ميسَّرة ومفهومة.
وكلَّما التزم كاتب الرأي أو كاتبته باحترامه للجريدة، وبذل من وقته ومثابرته وتابع في صورة يقظة كل جديد؛ كلَّما كانت كتابته متجددة ومواكبة للأحداث، كتابة تلمس الناس وتوقظ وعيهم، كتابة تدعوهم للنظر العميق في تناوُل أي موضوع، حيث يتطلب المقال الدوري جهدا خاصا، وانشغالا دائم بكل ما يستجد على الشأن العام المجتمعي والثقافي والسياسي.
وتحظى جريدة المصري اليوم ــ في حدود تعاملي مع إدارة التحرير ــ بمجموعة من الصحفيين والإداريين المدرَّبين مهنيا، ويتمتعون بمستوًى راقٍ في التعامل مع كُتاب صفحات الرأي بالجريدة، وعلى رأسِهم الأستاذ (ميلاد حنا) الصحفي ومحرِّر صفحات الرأي، الذي يقدِّم كل أشكال التعاون الصادق والدؤوب، وعادة ما نتواصل بالرأي حول المقالات، وكل التقدير لكل رؤساء التحرير الذين تعاقبوا على رئاسة التحرير منذ الراحل الأستاذ مجدي مهنى حتى أستاذ علاء الغطريف رئيس التحرير الحالي.
بقي أن أشير إلى أن أيَّ منجَز فكري أو إبداعي أو علمي يتطلب لتشكُّله حرية، حرية بلا سقف، بشرط مسئوليتها، فالحدود المقيِّدة للإبداع من قوانين أو نصوص أو أعراف مجتمعية لتحجِّمه أو توقف انطلاق، تبث فيه سموم إصابته بالشلل وإعاقته، ومن ثم عاديته وعدم تأثيره ؛ ولذا ما يلبث أن يموت سريعاً ، فالإبداع والرأي وحرية التعبير ليس كمحمية طبيعية يحرم مقاربتها؛ بل على العقل والمخيلة البشرية أن تنطلق دون قيْد يكبل تطوُّرها أو تجددها، وهو المناخ الصحي الذي لا يشعر فيه المفكر أو المبدع بقيود تقزِّم من انطلاقاته الفكرية أو الإبداعية، فقط يوجد الوازع الإنساني الحضاري، وهو ما يشبه الميثاق الداخلي بين المبدع وصاحب الرأي ومنتجه ومحيط وجوده البشري، ولا ينبغي أن تفرضه عليه سُلطة رقابية من الخارج.
من هنا تبرز أهمية الجرائد المستقلة التي تسعى دائما للرأي الحر.