لا أدري ماهذه اللخبطة التي صرت أحياها رغم محاولتي ضبط الأمور كما يجب أن تكون ، الهاتف يسرق مني حياتي وهو الدخيل بكل رعونة ، يدي تمتد إليه في حركة لا شعورية حتى إذا ما شغلته أقحمت نفسي في عالم افتراضي ورجلاي مشدودتان إلى الأرض ، اشتقت إلى الجريدة التقليدية أشم رائحة ورقها الشبيه بالكربون كل صباح ، كانت قهوة الصباح صنوة الجريدة تجلب لي هدوءا أسطوريا ، أرتشفها بتؤدة وأتصفح عناوين الأخبار بالبند العريض ، أقلب الصفحات وغالبا أشعر بأحدهم يتلصص بعينين زائغتين لقراءة واجهتها أكان قريبا مني أم بعيدا ، لم يكن ذلك يأخذ مني تأففا يذكر كما يحدث اليوم عندما أشعر بحركة مماثلة وأنا أتصفح الهاتف لأن ذلك من خصوصياتي بيد أني كنت أحس بالفخر عندما يشاركني أحدهم تصفح جريدتي وأكثر من ذلك عندما يلتمس مني تسليمها له بعد استنفاذ قراءتها لأن ذلك كان من العموميات ،
ذبنا اليوم في الخصوصيات فأصبحنا كائنات فولاذية ، الهاتف خصوصي والجلسة خصوصية والحديث خصوصي واللباس خصوصي والنظرة خصوصية حتى إذا ما ضربنا موعدا للقاء بمقهى تحركت الألسنة للتحية الأولى والنداء على الناذل بعدها يتحسس كل واحد منا هاتفه ويدخل عالما خارج المقهى
والمدينة وربما الوطن ، فلماذا التقينا يا ترى ؟ .
اللخبطة الأولى تكمن في عدم تلبيتي رغبة الأصدقاء في مجالستهم بالمقهى مادمت اني لن أجالسهم بل سأجالس أشباحا بشرية ، أصبحت محروما من نعمة الصداقة كما كانت من قبل ، صداقة الطرافة والمناقشة والتنكيث والتفقد وتبادل شريط الذكريات .
عودة إلى النفس ، أنا هنا الآن في الحمام وقد استيقظت على صراخ بائع النعناع والقزبور والمقدنوس ، ودعت النهوض في الصباح الباكر والترجل وحيدا في الشارع الطويل أستنسق الهواء العذري ، حيث لا حركة إلا من خشخشة عامل النظافة ولا صوت إلا من شقشقة العصافير وسعال حارس الليل وتحية بائع السجائر بالتقسيط ، لقد نمت متأخرا بسبب هذا الهاتف اللعين ، أنظر إلى المرآة قبل تحليق وجهي ، أتمعن في تضاريس وجهي ، مقلتاي حمراوتان وشاربي يحتاج إلى تصويب ، أهم بعملية التنظيف يرن الهاتف ، من ياترى ، أخرج من الحمام مهرولا وصابون الحلاقة مطلي على ذقني ، أحد الأقارب يريد محادثتي عبر تقنية الواتس بالكاميرا ، أنسى حالتي ، أفتح الخط فإذا به يحملق في بدون كلام ، عندما ابتسمت له قبل التحية ظهرت أمامه كمن كسر ذقنه فلفه بضمادة طبية ، تجاذبنا أطراف الحديث فأدركنا معا أن تواصلنا غير مجدي بفعل ضحالة صبيب الكونكسون الذي بدا كأنه محمول على حمار أعرج ، الغريب أن القريب قاطن في حي لا يبعد عني إلا بكيلومتر ونصف لكنه فضل استعمال الهاتف وكفى الله المومنين ” شر ” التواصل المباشر .
اللخبطة الثانية تكمن في أن القريب أصبح غريبا وصارت مخافة الحرج من زيارة البيت حيطة وفطنة وفكرا راقيا ، شيييييت .
أكملت حلاقة وجهي على صوت جارة بالطابق العلوي تصرخ:
” …ماهذه العيشة ، ما هذا الويل ، أنت لست رجلا بما يكفي ، لا تهمك سوى نفسك وحياتك الخاصة ، الثلاجة معطلة منذ أيام ، الويفي مقطوع ، الغسالة تحدث هديرا وكأنها على وشك الانفجار ، أنا في حاجة ماسة إلى ……….”، ينقطع صراخها فتولول وتنتحب إثر صفعة قوية موجهة جو _ أرض على مايبدو ، إنه ورد كل صباح لزوجين عنيدين ماردين .
اللخبطة الثالثة تكمن في أن الناس اليوم لم يعودوا يحلون مشاكلهم بالحسنى والتقدير إنما صاروا يفعلون ذلك على الهواء مباشرة وبدون مراعاة لمشاعر الجيران .
ارتديت ملابسي ، تأبطت كتابا ، وقفت أمام المرآة ، رددت وأنا أنظر إلى ذلك الماثل أمامي : ” صباح الخير أيها المخبول ، إلى أين أنت ذاهب الآن ” ، ابتسمت ، قطبت حاجبيي فأجبت :
” أفر من قدر الله إلى قدر الله ” .
_ ” سأقصد مقهى هادئة ، وأنهي قراءة هذه الرواية الغامضة من عنوانها التي انتشلتها من بين كتب قديمة في سوق المتلاشيات ، سأجلس وحدي كالعادة وأغازل قهوتي الصباحية” ، همست وأنا أترجل على رصيف شارع الحي المؤدي إلى وسط مدينتي البائسة .
هنا مقهى عصرية ، فارغة ، مكيفة ، هادئة ، استقبلني الناذل الشاب بنظرات بهما بريق لامع ، هندامه متناسق الألوان ، ينتعل حذاء رياضيا ، رحب بي ، أخذت مكانا منزويا ، طلبت قهوة وخبزا به بيض وجبن وزيت العود ، انتظرت قليلا ، فإذا برجل يدخل ساخطا ، يرغد ويزبد ، لم يختر مكانه إلا أمامي ، بنظرة خاطفة إليه رأيت وجها به ندوب جلية ، وزرقة على جبهته لارتطام ربما ، صار يأخذ أنفاسا عميقة من سيجارة ويردد : ” تضربينني أمام العيال ، هكذا ، لن تري وجهي من الآن فصاعدا ….. ” ، جاء النادل بطلبي ، اقترب مني وقال :
_” لا تلتفت إلى هذا الذي أمامك ، فكل حين يأتينا على هذه الحالة ، إنه يتعرض لعنف زوجته ، ولا يرى حرجا في الكشف عن ذلك ” ، يا ساتر يارب ، تركت امرأة معنفة فأجد أمامي رجلا معنفا ، هيا يا إسرافيل انفخ في القرن رجاء لتقوم الساعة .
اللخبطة الرابعة أني ماوجدت راحتي في هذه المقهى ، فقد توافد زبناء من خمس نجوم ، حديث منمق وهندام موغل في التناسق وطلبات لا تنتهي ، وضعت الرواية جانبا ، تحسست هاتفي ، آه ، نسيته بالمنزل ، طيب ، كم من حاجة قضيناها بتركها .
عدت إلى البيت لألازم وحدتي وأغير قنوات التلفاز كمن يبحث عن شيء مفقود .
في المساء قصدت مقهى شعبية بدون هاتف ولا كتاب ، هناك قرأت عشرات القصص عن الذين يعيشون ويرحلون في صمت ، استمعت لأحاديث بوشتة وحدو والصوبري وبونوارة ، ابتسمت لهندام الناذل ذي الأسنان المتنافرة والروح الخفيفة ، لا شكوى هناك ولا صراخ ، ولا صوت يعلو عن :
” قهوة معلكة يا المعطي ، ارفع يا غبي ميسة ، هات الضومنو يا ابن المتلوفة ……
اللخبطة السادسة أنني خرجت من المقهى مرفوع الرأس والقدمين معا ، لقد احترت في وجهة تقودني إلى البيت ، كنت مخدرا برائحة القنب الهندي والحشيش والإبط ، يا الله ، ماذا سأفعل ، أخذت سيارة أجرة وذهبت إلى حال سبيلي .
عودة إلى التحقيق ، نعم كان هناك تحقيق مع ذاتي والآخر وهذا العالم الذي لم نستأذنه بالمجيء إليه ، لكن وجدناه كقصيدة منفلتة غير مروضة .
تحقيق هامشي لك قارئي العزيز : ألم تلاحظ أنني لم أذكر اللخبطة الخامسة ؟ أمررت على حيرتي مر الكرام أم تعاني أنت أيضا من لخبطات ؟ ، جيد ، دمت على سموق .
قاص مغربي