لا أدري متى بدأت حكايتي بشخوصها وأحداثها الموشومة في ذاكرتي التي كانت لا تميز بين الأبيض والأسود؛ ما أدريه أني عشت في زقاق ضيق أنثر الورد على عتبات الجيران، أركض أسابق ظلي فأسقط فأعاود الجري من جديد.
أتسلق الشجرة الباسقة لعلي أظفر بعصفورة صغيرة مثلي تؤنس طفولتي المشاغبة، فلا ألفي إلا أعشاشا فارغة على عروشها، ربما حتى الفراخ الصغيرة آثرت التحليق عاليا على أن تعيش بين يدي بسيقان غظة مغلولة وجناح منتوف، أدركت فيما بعد أن الله كتب لها العيش في السماء لأنها تكره الأغلال والأقفاص.
أهدى لي قريب يوما شبكة لصيد الفراش، من شدة فرحي لم أنم طوال تلك الليلة، فتحت للفجر نوافذ غرفتي، وفتحت أحداقي عن آخرها كي لا يسرق النوم شبكتي وسهرت أستشرف الصبح الذي أبى إلا أن يحل بطيئا لأنطلق كالسهم نحو البساتين الخضراء أتعقب الفراش الذي يزف للأزهار سمفونية الحياة، اصطدت واحدة، أمسكت جناحيها المزركشين ليندثرا بين أناملي هباء، تألمت لموت الفراش بين أناملي، رميت الشبكة المجرمة، ووليت وجهي شطر المنزل حزينا لأني تخيلت عندئذ أن لو كنت مكان الفراشة أستمتع بالجمال فيحولني أحدهم دودة ويحرمني من التحليق.
تخلى الحيران عن جرو كنت أعتبره فردا من عائلتهم، حملته إلى دارنا وسميته “بوبي ” قيل أن أمه ماتت بلقمة مسمومة، اتخذته صديقا ثم رفيقا، قاسمته كل شيء أكلي لعبي وحتى فراشي، تدخل العم دون تحقيق رغبتي بدعوى أن الملائكة لا تحل بمكان به كلب، همست في أذن أمي والجرو بين ذراعي يلعق أصابعي أن صديقي “بوبي” يتيم، ابتسمت الأم وعلامات الرضا تغزو محياها اللطيف ولم تنبس ببنت شفة، أدركت عندما اكتمل وعيي أن أشغال البيت هو عالمها الذي قد تتحكم فيه وما دونه من اختصاص الرجل ” سي سيد “. كنت ممنوعا من الجلوس أو الحديث مع الإناث، أو مشاهدة التلفاز؛ لأن بها قلة حياء وكان أبي يطلب مني الإنسحاب للنوم كلما رأى مشهدا ساخنا على شاشة التلفاز.
اختلت بي الخادمة ذات مساء في غرفتي وشرعت في تقبيل فمي بشبق بالغ، تقززت و صرخت، فتوسلت لي أن أكتم فعلتها وإلا سيكون قصاصها الضرب المبرح والطرد المذل من البيت، غفرت لها زلتها لأني فقط كنت أهوى خبزها المغموس في الزيت والسكر.
وقبل أن تحل في عالمي الوردي أفلام سينما “بريس كالدوس” وحلقات “قازدابو” و “حليمة ولد العويرة ” كانت جدتي بوشاحها الأبيض وفستانها الأخضر القارب الوحيد الذي يمخر بي عباب الخيال الدافق، كنت أزورها مساء كل جمعة، طمعا في بركتها الروحية وقطعها النقدية أيضا، كانت تتلمس وجهي وجبيني وتمسح على رأسي مرددة بهمس مالم يسعفني ادراكي لكنها كانت أذكارا جميلة جمال نظرتها وتشرع في حكي قصصها عن الملوك وعن القوة والفقر والعزيمة والعدل منتصرة في النهاية لقيم الخير والجمال. قطعت مسافات طوال بين فقيه المسيد والمعلم الصارم، وحارس الثانوية ” با عبيدة ” والقيم على مراقبة قوس المحلة، تجولت في دروب أحلام حي ” الديوان ” وعشت كوابيس الغرام، تذوقت طعم نجاحاتي الصغيرة وإحباطات الأقدار، زرت أسوار الجامعة ومدرجاتها، تخرجت، تزوجت، خلفت ملاكا كدت أسميه ” بوبي ” لو لم أتذكر أن ليس من الملائكة كلاب، ورزقت بابنة آية في الجمال والفهم رأيت في طفولتهما طفولتي،لكنهما لم يتعقبا يوما فراشات لأني لم أمنح أحدهما شبكة لإلتقاطها ، ولا تسلقا غاية أعشاش العصافير، ولم يصاحبا الجرو “بوبي” العزيز، لم يجلسا في حضن الجدة لتحكي لهما قصصها المثيرة لأنها حملت قصصها معها إلى دار الخلود ، فاجأتني ابنتي وأنا بصدد سماع أخبار التلفاز – ولم يكن عمرها قد تجاوز السابعة – قالت:
– لماذا تقتل الطائرات الأطفال الرضع؟!
مازلت أحتفظ بورقة رسمت عليها وأنا طفل صغير شمسا تبتسم وطيورا ترفرف بأجنحتها، على ظهر الورقة رسمت إبنتي بتلقائيتها طفلا ممددا ينزف منه دم ، وبيده فراشة لازالت تحتفظ بكلتي جناحيها.