لا ناقة له ولا جمل فيما يقع حوله من أحداث مفهومة أو غامضة، لكنه مطلوب للخبر والافادة ، ” معيطو” لقبه الذي يعشقه ولا يلقي اهتماما لاسمه أو أصله وفصله، منتصب القامة دائما ، خفيف الظل نشيط الذاكرة سريع البداهة، يتخذ من الحدث مادة دسمة للتحليل والاستنتاج، يدلي بدلوه وموقفه بجرأة مغبوطة، ولا يتورع أن يسقي ذلك بخياله الدافق حتى يصير أكلة شهية ونغمة شجية في مجالسه الكثيرة، له حلول جذرية للبطالة، ووصفات سحرية للحد من العنوسة، ونظريات متطورة لتأهيل القرية وتهيئتها، فكره المتفوق على أفكار علية قومه بمائة سنة ضوئية يجر عليه وبالا من النقمة وكثيرا من الحيطة والحذر .
ذات صباح أشرقت الشمس بالقرية الوديعة على خبر اعتبره معيطو حدثا صاعقا له ما بعده، وأمرا يمس بالأمن القومي للبلدة،
ـ” لقد سرق أحد اللصوص بغل ” عمي امشيش” ومحراثه ليلا “.
تلقى معيطو النبأ من أحد الشبان، رجع بسرعة الى بيته، ارتدى بزة عسكرية يستعملها للصيد والطوارئ، خرج لا يلوي على شيء حاملا منجلا ونظارة مكبرة، أول خطوة أقدم عليها زيارة بيت الشيخ المكلوم لقطع الشك باليقين، واساه ووعده بارجاع حقه فورا، دخل الاسطبل المتواضع فقام بمسحة دقيقة على المكان، تارة يشم التبن والعقال ويتمعن في الجدار وقفل الباب، وتارة يبحث عن آثار الأقدام و مستلزمات قد تكون ملقاة تقوده الى المجرم اللص، بعدها خرج الى الحقول الفسيحة ، والأطفال وراءه يركضون، يتحسس، يتسلق الأشجار الباسقة وينظر بعيدا بالمجهر كجندي على خطوط التماس، يلقي على رعاة الغنم أسئلة كثيرة مملة، ويستفسر أصحاب البيوت المترامية على مخارج البلدة.
عاد الى القرية وقد توسطت الشمس كبد السماء، واهن القوة فاتر الأعصاب، ألقى بجسده المتعب على جذع شجرة قرب المسجد، فتحلق حوله جمع من منتظري طلعته البهية وخبره الوافي، صمت طويلا، أخذ يداعب بسبابته شفتيه المتسحرتين، ويحملق في جوه الحضور، وقف على صخرة وأشار بيده كأنه يفتتح ندوة صحفية قائلا بتأثر بالغ :
ـ ” أيها الغيورون على أمن بلدتنا وسلمها وشرفها، كما تعلمون أن بغل عمي امشيش قد سرق من منزله قبل فجر هذا اليوم بطريقة احترافية، اذ لم نجد لحد الآن ما يفيد من قام بهذه الجريمة الشنعاء في حق رجل مسن فاضل، ولكن المعطيات وبعضها سري للغاية تشير الى أن البغل لم يغادر القرية، هذا ما في حوزتنا من تحريات أولى، وأي جديد سنوفيه لكم فور توصلنا به في مكاننا هذا، ألا فليذهب كل منكم الى حال سبيله سالما من الشر معصوما، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها “.
عاد معيطو الى جلسته تحت الشجرة وعديد من الأسئلة الرهيبة تتشابك في ذهنه، وتجعل مستقبل القرية ووهجها في كف عفريث، اذ ما السر وراء استهداف رجل صالح مثل عمي امشيش من خلال سرقة وسيلة نقله وحرثه وحصاده، وهو الشيخ الكريم الناصح الذي يرعى المحتاجين والطلبة من ماله الخاص على قلة موارده وبساطة حاله، ولماذا لم تستهدف هذه الأيادي الآثمة أحد ميسوري البلدة ، وأرزاقهم يسيل لها اللعاب، أهذا الذي وقع له علاقة بالصراع على الزعامة التاريخية، لكن الرجل لم يسع يوما لمنصب أوجاه، بل هو محبوب مطروح له القبول في الأرض، فجأة جحظ معيطو بعينيه وتسمر في مكانه وتوقف فكره العائم، فلم يدركيف تذكر موقفا أعلنه عمي امشيش يوما حينما طالبه أحد المتقدمين للانتخابات أن يعضده لما له من حظوة اجتماعية ، فرفض الشيخ رفضا مطلقا قائلا:
ـ ” أنا لا أوافق على المنكر، أنت شخص مشبوه ولا يحق لك تمثيلنا “، ومرة التمسوا منه تقليد المشيخة فقال قولته المشهورة ـ” خذوا المناصب فيكفيني بغلي ولساني “، لم يستبعد معيطو أن عمي امشيش استهدف في بغله على أن يحين الدور على لسانه فيغتالونه وترتاح شياطين الانس من ضمير القرية الحي وعقلها الرشيد.
شاع في أرجاء البلدة نشاط معيطو وحماسه المتقد وتبنيه لملف البغل المسروق، في المساء ألقى خطبة مختصرة لكنها عميقة دالة :
ـ” أيها الناس ان عمي امشيش ضحية أطماع ذوي البطون المنتفخة، المتاجرين في الممنوعات، نحن لن نسمح بهذا أبدا، سنجاهد حتى ينصف الرجل الصالح، كلنا عمي امشيش “.
أصبح الشيخ بطلا قوميا ،ومعيطو يجوب البيوت لا يستقر على حال وحركته النشيطة على أعين اقطاعيي البلدة وأغنياءها.
قضى عمي امشيش ليلته الأولى بعيدا عن بغله الأليف، ذرفت عيناه لما بينهما من علاقة فريدة لا يحس بها الا البدوي القح، لم يدر كيف استرق من الليل العميق لحظات لاغماض جفنيه حتى نهض على خشخشة بباب بيته الكئيب، أشعل مصباحا واهتدى بقلب مرتجف وحدس غير خاطئ ليجد بغله يداعب الأرض بحوافره فرحا بالرجوع الى سيده، كان لقاء لا يوصف ذاع معه الخبر كحريق في الهشيم، طار معيطو الى منزل الشيخ، وقاسمه الفرح كما حزن معه بالأمس .
أشرقت شمس الغد على معيطو مستويا على الصخرة وقد ارتدى معطفا بنيا، ينتفخ كالطاووس ويداه متشابكتان خلفه، كانت علامات الفاتح المنتصر بادية على محياه، أشار بالصمت وخاطب ناسا كثر :
ـ ” أيها الشرفاء ، ألا ان بغل عمي امشيش رجع سالما ، الرسالة وصلت الى من يهمه الأمر ، ألا فان ملف السرقة قد حفظ ضد مجهول ، فالحذر الحذر يا أبناء قريتنا ، قوموا مغفورا لكم ، بلدة طيبة ورب غفور ” .