كان علي ذات مساء بارد أن أدخل البيت باكرا بعدما ودعت أصدقائي بالمقهى النائية ، لم يكن وداعي كسابقيه ، شعرت أن بداخلي شيئا يتحرك وتململ حدسي لما هو قادم ، أنا في الطريق بدأ قلبي يخفق ثم يعود لحالته العادية ، اعتلت وجهي حمرة داكنة أدركها قليل من الحمى والارتعاش ، أخذت حماما ساخنا ، أردت أن أكتب عن الثورة التي تأكل أبناءها واخترت ستالين وصراعه التاريخي مع تروتسكي ، عجز عقلي عن التفكير وترتيب الأفكار بعد خطي لسطرين ، تمددت على ظهري وتركت مصباح الغرفة مشغلا ، كان صوت التلفاز يتداعى الى سمعي ثم مالبث أن تلاشى وخفث .
تحسست بأناملي وجهي في وجل ، كانت عيناي قد تدلت مقلتاهما ، أخذت منديلا ورقيا نشفت سائلا انساب على فترات من أنفي ، عاد الارتعاش هذه المرة متواصلا ، قمت بالكاد الى الحمام وقد لفني الجزع وأنا أهمس : ” هل حان موعد الرحيل بهذه النهاية الغامضة ؟ أيا ترى ماذا حدث ؟ ” ، نظرت الى الساعة الحائطية بلمحة مرتبكة ، تضاربت العقارب فلم أفقه شيئا ، نظرت الى مرآة الحمام كما لو أني على موعد مع نتيجة منفتحة على جميع الاحتمالات ، ذهلت للحال الذي أصبح عليه وجهي ، فقد غزى المقلتين المتدللتين احمرار مخيف ، ونما أنفى كثيرا الى الأمام ، وحلت بوجنتي زرقة بها تجاعيد مائلة الى السواد ، ألفيت السائل الممسوح على المنديل مائلا الى الاخضرار ، لم أعد قادرا على التحمل كثيرا ، استجمعت ما بقي لي من جهد ، هاتفت صديقي محمود ، كعادته استجاب بعد ثلاثة رنات ، دعوته الى بيتي على عجل .
حل الصديق سريعا ، فتح فاهه من شدة الوضع الذي رآني عليه ، أصر على مرافقتي لعيادة الطبيب من دون تأجيل ، وضعت قبعة غطت كل رأسي ، ولففت وجهي برداء العنق ، واتجهنا الى طبيب قريب .
التمس صديقي من المستقبلة لتقديمي بين يدي الطبيب بأسرع وقت ممكن ، فالوضع لم يعد يبشر بخير بعدما أسررت له أن ألما حارقا يكاد يقطع أوصالي ، فتحت باب قاعة الفحص بعد دقائق ونودي على اسمي ، ساعدني صديقي على المشي ، فقد شعرت كأن جسمي هيكل اسمنتي ، هرع الطبيب ، كشف حالتي ، تمعن جيدا في وجهي ، اختبر الضغط الدموي ونسبة السكر ، لم يقم بمزيد من الافتحاص ، تحسس مجلدا أسودا عنوانه مذهب خافث ، لم أستطع قراءته ، فقد بدا وكأني سأدخل في غيبوبة ، قطعت شرودي حنحنة الطبيب وهو يهم بالكلام بعدما تصفح ورقتين من الكتاب ، أزال نظارته الطبية السميكة وخاطبني :
” أستاذ ، أعرف أنك مؤمن قوي ، وأدرك أنك ستتقبل ما أنت مقبل على كشفه ، أنت بك أعراض مرض أصاب البشرية في غابر الأزمان ، وأعتقد أن له موجة ثانية في عصرنا أنت من ضحاياه مع الأسف ، سأمكنك من وصفة دواء يقلل من الألم الى حين ويحد من نمو أطرافك على أن أتبع حالتك عن كتب وان استدعى الأمر سأودعك في مصحتي الخاصة ، أريد أن أعرف قوة المرض وخطره من خلالك …….. ” ، لم أعد أقو حينها على الاستماع ، اقترب مني الطبيب ، أخذ بأنفي الطويل وضغط على مقدمته بقوة ، من شدة الألم استويت واقفا ، التفت يمنة ويسرة في ذهول ، كان مصباح غرفتي مشغلا ، وخيوط الفجر تتسلل من النافذة الشبه المشرعة ، وصوت التلفاز يتداعى الى سمعي قويا والساعة الحائطية تشير الى السادسة صباحا .
هرعت الى مرآة الحمام ، تمعنت جيدا ، لاشيء يستدعي القلق ، لقد كان حلما سيئا .
غيرت ملابسي ، غادرت بيتي ، آثرت أن أترجل الى المقهى النائية ، كان قليل من الألم لم يبرح رأسي ، دخلت المقهى ، أخذت مكاني ، ناديت على قهوتي المعتادة ، شعرت بأنفي هذه المرة يتململ من حين لآخر وبسائل يتجمع داخله على فترات ، حسبته ارتداد نفسي لحلم مزعج ، وقف أمامي النادل ، وضع قهوتي وصار متصلبا يرقبني ، نظرت اليه في تردد هامسا : ” مابك ياهذا ؟ لماذا تنظر الي هكذا ؟ هل من ………… ” .
قاطعني النادل وفي صوته بحة : ” عذرا صديقنا ، أنفك أصبح في وضع مخيف ، و ……” ، أخذت منديلا ورقيا ، نشفت به سائلا ينساب من أنفي فاذا به لزج مائل الى الاخضرار .
ه اتفت صديقي نجيب ، كعادته استجاب بعد ثلاثة رنات ، دعوته الى مقهاي على عجل ، حل الصديق سريعا ، فتح فاهه من شدة الوضع الذي رآني عليه ، أصر على مرافقتي لعيادة الطبيب من دون تأجيل .