وصلت سكة التفاوض على الجبهة الفلسطينية إلى الانسداد بالكامل ، ولم يعد من أثر يعتد به لاتفاقات “أوسلو” وأخواتها ، ولا تبقى من فارق ملموس بين مناطق (أ) و(ب) و(ج) فى الضفة الغربية ، وصارت المناطق كلها فى الحالة (ج) ، أى تحت الاحتلال “الإسرائيلى” المباشر، الذى لم يعد مقصورا على المنطقة (ج) ، ومساحتها نحو 61% من كل الضفة الغربية بدون القدس والمحميات الطبيعية ، وعاد بناء المستوطنات اليهودية إلى المنطقة (ب) ، ومساحتها 21% ، وكان يفترض فيها إدارة مدنية فلسطينية ووجود أمنى “إسرائيلى” ، ثم كان التكرار اليومى لاقتحامات جيش الاحتلال فى مدن وقرى ومخيمات المنطقة (أ) نفسها ، ومساحتها 18% لاغير فى آخر تعديل للاتفاقات إياها ، وكان يفترض فيها أن تكون الصلاحيات الإدارية والأمنية خالصة للسلطة الفلسطينية ، لكن ذلك لم يحدث أبدا ، وكان أوسع اجتياح “إسرائيلى” لها فى عملية “السور الواقى” سنة 2002 ، وإلى أن جرى الاغتيال الغامض للقائد الراحل “ياسر عرفات” فى مقر “المقاطعة” ، بعدها ، لم يتوقف دهس جيش الاحتلال للاتفاقات والمناطق ، وطوال سنوات ما قبل زلزال 7 أكتوبر 2023 القادم من “غزة” ، كان جيش الاحتلال مع قطعان المستوطنين فى حالة عدوان متصل على بلدات ومخيمات السلطة الفلسطينية ، من بلدة “حوارة” جنوب نابلس إلى مخيم “جنين” الذى اجتاحه قوات الاحتلال لعشرات المرات ، ثم توسع العدوان الوحشى إلى مدن ومخيمات شمال الضفة الغربية بالذات ، من “جنين” إلى “طولكرم” إلى “طوباس” و”نابلس” ، ودارت المجازر والمحارق المتفرقة على نحو شبه يومى ، وإلى أن بدأت العملية الأخيرة قبل أيام ، وهى أوسع وأشمل عدوان حربى منذ عملية “السور الواقى” ، بدا معه المشهد العام للضفة الغربية ، وكأنها تتحول تدريجيا إلى “غزة” أخرى ، حيث تتدافع المجازر وعمليات التجريف والتدمير وأوامر الإخلاء الإجبارى ، على نحو ما جرى ويجرى فى مخيمات “جنين” و”نور شمس” و”الفارعة” ، وبدت الحرب الجديدة داهمة وأهدافها ظاهرة فى إبادة الفلسطينيين ، وإرغامهم على الخروج والتهجير إلى خارج الأراضى المقدسة .
ولم يعد من معنى لحديث لزج عن التزامات “أوسلو” ، فقد أطاح بها كيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، وزاد عدد المستوطنين إلى 700 ألف فى الضفة ، وضاعف حروب إفقار وتجويع الفلسطينيين فى الضفة الغربية على طريق ما يجرى فى “غزة” ، وحجب أغلب عوائد الضرائب المستحقة للفلسطينيين ، فوق منع سكان الضفة من العمل فى الداخل الفلسطينى المحتل عام 1948 ، والقفز بوتيرة العدوان “الإسرائيلى” ، من الغارات والعمليات المفاجئة المتفرقة ، إلى ما يشبه حربا كاملة الأوصاف ، يستخدم فيها العدو سلاح الجو بالمسيرات والمقاتلات الحربية ، فوق كتائب الجيش ودباباته وفرق المستعربين و”دفدوفان” وغيرها ، ومضاعفة عدد الأسرى من الضفة إلى ما فوق العشرة آلاف خلال شهور حرب “غزة” ، وكل يوم يضاف العشرات إلى سجل حافل بأسماء مئات الشهداء ، ولا تبدو الأحوال الحربية فى الضفة قابلة للتراجع ، ولا فى القدس المحتلة التى ضمتها “إسرائيل” رسميا بتأييد أمريكى وخذلان عربى ، ولا حتى فى ضمانات ما يسمى الوضع القائم داخل “المسجد الأقصى” المبارك ، الذى كان اقتحامه بقيادة “آرييل شارون” وقودا لإشعال الانتفاضة الفلسطينية الثانية الحديثة أواخر عام 2000 ، بينما يجرى اقتحام “المسجد الأقصى” وتدنيسه الآن لأكثر من مرة كل أسبوع ، ويدخل وزراء حكومة “بنيامين نتنياهو” إليه مع الآلاف من قطعان المستوطنين ، ويؤدون الصلوات التلمودية فى باحاته ، ويعلن وزير فى الحكومة (إيتمار بن غفير) عن عزمه إنشاء “كنيس يهودى” داخل المسجد الأقصى ، وربما هدم المسجد كله ، ومن دون أن نرى ردود أفعال تتعدى الاستنكار الباهت ، فى الوقت الذى جرى تسليح المستوطنين رسميا ، وتكوين جيش احتلال مضاف من مئات آلاف المستوطنين اليهود ، وهم يشنون الهجمات اليومية الدموية على الفلسطينيين بصحبة الجيش وأجهزة الاحتلال الأمنية ، وإلى حد حذر فيه حتى رئيس “الشاباك” من خطر ما أسماه صراحة “الإرهاب اليهودى” ، وخروج الوضع فى الضفة عن السيطرة .
وربما لا يصح لأحد أن ينخدع باختلاف الآراء المعلنة لأجهزة ووزراء الحكومة “الإسرائيلية” ، فالقصة لا تعدو أن تكون توزيعا للأدوار فى خطة واحدة متفق عليها ، وإعادة الاحتلال الرسمى للضفة وخطة هدم المسجد الأقصى وغيرها، ليست سوى تفاصيل تتكامل فى صيغة الحل النهائى الإسرائيلى المعتمد ، فكل الأطراف “الإسرائيلية” تقريبا ، بما فيها الموصوفون بالمعارضة أو المكايدة مع “نتنياهو” ووزرائه الموصومين بالتطرف ، على طريقة “بينى جانتس” و”يائير لابيد” و”أفيجدور ليبرمان” و”جدعون ساعر” و”نفتالى بينيت” وغيرهم ، كلهم معا ضد إقامة أى كيان فلسطينى مستقل فى الضفة أو فى غزة أو فى القدس ، وعلى نحو ما بدا زاعقا فى تصويتات “الكنيست” المتلاحقة ضد حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية ، وكلهم يعتبرون أن إقامة دولة فلسطينية خطر وجودى ماحق على كيان الاحتلال ، ولا يبدو ذلك منفصلا عن ما جرى داخل كيان الاحتلال فى الثلاثة عقود الأخيرة بالذات ، فقد تلاشى أى وزن مؤثر لجماعات ما كان يسمى “اليسار الإسرائيلى” ، وصار الاتجاه إلى اليمين إجباريا غلابا ، ولم يعد فى مشهد التجمع “الإسرائيلى” ولا نقول المجتمع “الإسرائيلى” ، لم تعد من أصوات مسموعة لرغبات السلام مع الفلسطينيين ، وتفككت فى إطراد صيغة الانقسام والتداول الثنائى بين حزبى “العمل” و”الليكود” ، وبعد زمن حكومات “تيك أواى” عابرة ، من نوع حكومات “إيهود باراك ” و”إيهود أولمرت” و”تسيبى ليفنى” وغيرهم ، صار الأمر النهائى لنتنياهو وجماعته فى يمين “الليكود” ، فقد اختفى حزب “العمل” بالكامل تقريبا ، رغم محاولات إنعاشه المستجدة بقيادة الجنرال “يائير جولان” ، ولم يعد ممكنا حتى لحزب “الليكود” أن يحكم وحده ، وتعددت وتفاقمت حالات اللجوء لانتخابات “كنيست” مبكرة ، ومن دون أن تسفر سوى عن حكومات ائتلافية قلقة ، سمح ضعفها لنتنياهو بالقفز إلى قمة السلطة مجددا ، وبصيغة تجمع يمين الليكود إلى أحزاب “الحريديم” وأحزاب الصهيونية الدينية ، وصارت أغلبية الحكم فى يد “التيار الكاهانى” ، نسبة إلى الحاخام “مائير كاهانا” ، وقد أسس كاهانا حركة “كاخ” الإرهابية ، وكان عضوا فى “الكنيست” ، وكان قبلها من أعضاء حركة “بيتار” التى أسسها الزعيم الصهيونى الشهير “زئيف جابوتنسكى” ، والأخير بدوره هو الرمز الأساسى تاريخيا لحزب “الليكود” ، وكان ينادى بنظرية الجدار الحديدى ، وقهر الفلسطينيين لإجبارهم على ترك الأرض وقبول التهجير ، وقد توفى عام 1940 فى أمريكا قبل قيام “إسرائيل” بسنوات ، ورد إليه “ليفى أشكول” ـ خليفة المؤسس “بن جوريون ـ اعتباره ، ونقل رفاته إلى ما أسموه جبل “هرتزل” فى القدس ، وعلى ذات طريق “جابوتنسكى” ، كان “كاهانا” يطالب بطرد الفلسطينيين من الأراضى المحتلة ، فقد كان فى حالة فزع من النمو السكانى المتجدد للفلسطينيين على الأراضى المقدسة ، وقد قتل عام 1990 فى “نيويورك” على يد “سيد نصير” المواطن الأمريكى من أصل مصرى ، وقتل نجله الإرهابى وزوجته فى واحدة من عمليات المقاومة الفلسطينية ، لكن عقيدة “كاهانا” المرتعبة من النمو السكانى الفلسطينى ، عادت بعد مقتله بعقود إلى واجهة المشهد السياسى “الإسرائيلى” ، وصار أبناء كاهانا ومن قبله “جابوتنسكى” ، هم سبيكة التكوين الغالب فى التجمع “الإسرائيلى” والحكومة “الإسرائيلية” ، قتلوا “إسحق رابين” لعقده اتفاقات “أوسلو” مع الفلسطينيين ، وفشلت بعده محاولات إحياء دور “حزب العمل” ، وفكرته عن “حل الدولتين” والتخلص من العبء السكانى الفلسطينى بدفعه إلى الدولة الفلسطينية المفترضة ، فى حين كانت استجابة يمين “الليكود” واليمين “الكاهانى” مختلفة ، فقد امتلأت نفوسهم رعبا من التكاثر والتفوق السكانى الفلسطينى على أعداد اليهود المجلوبين للاستيطان ، وكان الحل عندهم ببساطة ، أن تكون أرض فلسطين كلها من النهر إلى البحر حكرا على اليهود ، وأن يجرى شن حرب أخيرة لإبادة الفلسطينيين ، وطرد الناجين إلى خارج فلسطين ، وهذا هو الحل الذى عملوا ويعملون عليه من سنوات سبقت زلزال 7 أكتوبر بكثير ، فهم فى حالة فزع غريزى من الوجود الفلسطينى .
هذه هى الخلفية العامة لحروب إسرائيل فى هذه اللحظة ، ورغبات الإبادة والتهجير معلنة ومصرح بها ، لكن الفارق هائل بين الرغبات والقدرات ، فليس بوسع هؤلاء ، ولا بوسع الراعى الأمريكى ، أن يبيد الفلسطينيين جميعا ، ولا أن يدفعهم بالجملة لهجرة ديارهم المقدسة ، مهما اشتدت وطأة المآسى وحروب الإبادة ، فالفلسطينيون ليسوا هنودا حمرا ، وأجيالهم الجديدة المقاومة لن تسمح بتكرار ما جرى من تهجير فى نكبة 1948 ، واتساع نطاق الحرب من “غزة” إلى “الضفة” وشمال فلسطين المحتلة ، سيتحول غالبا إلى حرب استنزاف ممتدة لهذه “الإسرائيل” ، وليس إلى حرب إبادة وتهجير نهائى للفلسطينيين ، وبين الفلسطينيين وعدوهم حروب الأيام والليالى ، والميادين المشتعلة سماواتها بالنيران والدماء .