حسن الحضري يكتب (صورة العروس عند محمد ثابت في ديوان "عروس القمر")
يُعَد الشاعر المصري محمد ثابت السيد، من الشعراء الذين يميلون إلى الرمزية، كما يبدو في كثيرٍ من أشعاره، إلا أنه اتَّبع الرمزية العَرَبيَّة التي توافق هويَّتنا وتحدَّث عنها اللغويون والنقاد في تراثنا العريق، وحين نطالع ديوان “عروس القمر” للشاعر محمد ثابت؛ نجد هذه الرمزية كامنة خلف كثيرٍ من مفرداته وصُوَره الشعرية، هذه الرمزية أو الإشارة التي قال عنها ابن رشيق: «والإشارة من غرائب الشعر ومُلَحِه، وفيها بلاغة عجيبة، تدل على بُعدِ المرمى وفَرطِ المقدرة، وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز، والحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة… إلى أن قال: وأصل الرمز الكلام الخفي الذي لا يكاد يُفهَم، ثم استُعمِل حتى صار إلى الإشارة»، وقد استطرد ابن رشيق فذكر أمثلة كثيرة تبيِّن سَعة لغتنا العربية الفريدة، في هذا الباب.
وعَوْدًا إلى ديوان “عروس القمر” للشاعر محمد ثابت نجد أنه في أولى قصائد هذا الديوان؛ وهي القصيدة التي تحمل عنوانه؛ وفي أوَّل أبياتها يرسم الشاعر صورة عروس القمر بقوله:
وجميلةٌ مِن سِحرِها تأتي النُّجو***مُ على مدارِ عيونِها وتدُورُ
وقد جاءت مفردة “جميلة” المسبوقة بالواو، مرفوعةً كما ضبطها في ديوانه؛ ليدل على أنَّها معطوفة على صورةٍ أو صورٍ خفيَّةٍ قبلها، وقد أراد ثابت أن يؤكد ذلك فوضع قبلها نقاط الاختصار هذه (…)؛ ثم يُصر الشاعر على التوغل في رمزيته فيقول:
وعطاردٌ شدَّ الرِّحالَ إلى أبيـ***ـها يشتكي طُولَ النَّوى ويَخُورُ
وهنا يرمز بالكوكب “عطارد” وبالثور الذي “يخور”، ولعله رمَز بعطارد تحديدًا لأنه أصغر كواكب المجموعة الشمسية وأقربها إلى الشمس، أما عن جمعِ الشاعر بين عطارد وبين الثور -الذي عبَّر عنه بالخُوار- فيكشف طموحه نحو المثالية، من خلال ما يعتقده علماء النجوم عن علاقة عطارد بالثور، والشاعر في هذا التصوير يطلق العنان لرمزيته، في سياق تلقائي متواصل لا يَظهر فيه شيء من التَّكلُّف.
وإذا كانت هذه صفات العاشق الغيور “عطارد” كما يرسمها محمد ثابت؛ فإنه يَجْنح إلى رسم صورةٍ مغايرةٍ للغريم فيقول:
ويُقيمُ عُرسًا، والكؤوسُ بخمرِها***وبِحُسنِها يترنَّمُ العصفورُ
وفي مقابل هذه الصورة التي تكشف رفاهية “الغريم”؛ يعود الشاعر ليستأنف تشكيل الصورة الحزينة للعاشق المقهور فيقول مبيِّنًا حاله، كاشفًا موقف الكواكب والنجوم:
بَكَتِ الكواكبُ والنُّجومُ لِصَدِّها***وعطاردٌ في صدمةٍ مكسورُ
ثم يكشف في نهاية هذه اللوحة التشكيلية المليئة بالرمزيات؛ عن بيت القصيد والهدف من قصيدته فيقول:
عُذرًا لِمن فقَد الحبيبَ ولم يَنَلْ***إلا الصَّدَى في حبِّه؛ مَعذُورُ
وتستمر رمزية محمد ثابت بالمفردات ذاتها، وبامتداد وتشعُّب صورة القصيدة السابقة؛ يقول في ثاني قصائد هذا الديوان تحت عنوان “تَرمِي على القمر السَّلام”:
فنَّانةٌ في سِحرها***سكنتْ كواكبَ ربِّها
ويقصد بالفنَّانة هنا عروس القمر؛ التي بدأ رسم صورتها في القصيدة السابقة بنقاط الحذف كما ذكرنا، ثم بصفة الجمال، وهنا في القصيدة الثانية من ديوانه يضيف إلى الجمال الفن، وهما متلازمان أبدًا في أذهان الناس، أما عن سُكنَى هذه العروس الكواكب وتنقُّلها فيما بينها؛ فإن ذلك يجعلها قادرة على الوصول إلى القمر كي “ترمي” عليه السلام؛ وثمَّة ملاحظة نجدها عند محمد ثابت في هذا الديوان؛ وهي ذِكرُه القمر باعتبار الأصل وهو التذكير، وليس باعتبار التأنيث الشائع خطأ عند كثيرٍ من الناس.
ويستمر الشاعر في رسم الصورة الجمالية بأسلوب الرمزية التي انتهجها في هذا الديوان فيقول مستأنفًا وصف هذه العروس:
حوريَّةٌ لكنها بين الفضا***ءِ على اللَّيالي بالضِّيا تتصدَّقُ
والتعبير بمفردة الضياء هنا جاء مناسبًا لكونِها أنثى، في مقابل “القمر” الذَّكر؛ والله تعالى يقول: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ) [يونس: 5].
ثم نجد أن هذه الصور الرمزية المكثفة التي رسمها محمد ثابت؛ ما هي إلا تقدمةٌ لقصَّته التي يعبِّر عنها في قصيدةٍ لاحقةٍ يقول فيها:
ما زال حبُّكِ في صميمِ شريعتي***والقلبُ يسألُ حائرًا مَن شرَّعَهْ
إنَّ العَزُولَ إذا أتَتْه صَبابتي***يبكي دمًا حتى يُلاقِيَ مَصْرعَهْ
ويمضي في عدة أبياتٍ يختتمها بقوله:
وأظلُّ أقتحمُ الحصونَ بأحرُفي***ويظلُّ شعري في الهوى ما أروَعَهْ
وهذه الصورة التي يرسمها لنفسه هنا؛ لها ما يتواءم معها في قصيدةٍ أخرى يقول فيها:
وأدخلُ في عوالمَ مِن نعيمٍ***وتنطلقُ القوافي في لِساني
ونستطيع أن نلمس وحدة الفكرة في عددٍ من قصائد ومقطوعات هذا الديوان -التي يبلغ عددها عشرين- وتَقارُب الحالة النفسية في عدد آخر، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على الإطار العام للفكرة الرئيسَةِ التي يتناولها بشكلٍ مباشرٍ، وأثَّر إلى حدٍّ بعيدٍ على طبيعة الرمزية عند الشاعر، وطريقة تناوله إيَّاها.
وإذا كان محمد ثابت في بعض قصائد هذا الديوان يرسم من مخيلته الصور المثالية التي قد لا ينطوي عليها الواقع أحيانًا؛ فإنه في قصائد ومقطوعات أخرى من هذا الديوان أيضًا يرسم الصور الذميمة بأسلوب استنكاريٍّ أو تحذيريٍّ؛ كقوله في مقطوعة “المرأة الملساء”:
عبثًا تغازلُ نفسَها***وبِشَعرِها تتجمَّلُ
وقوله “وبشَعرها تتجمل” يرمز به إلى دمامة وجهها، حتى إنها تتخذ من شعرها زينةً وهمية؛ ولا شك أن هذه الصورة مستهجَنة عند الشاعر، وإنما رسمها على سبيل ذِكر النَّقيض والمضاد للصورة المثالية التي يراها في “عروس القمر”.