أكثر من ثمان سنوات مرت، منذ أن بدأت كتابة مقالاتي الأسبوعية، في تلك الصحيفة الغراء، والتي بدأتها، بحكم التخصص، بالتركيز على موضوعات الأمن القومي المصري. وبعد فترة ليست بالطويلة، أضفت نوعاً جديداً من المقالات، المعتمدة على الخبرات الإنسانية، حتى كان يوم 29 مارس 2018، عندما نُشر مقالي “ومشيت في الجنازة وحيداً”، والذي فوجئت بانتشاره على نطاق واسع، ليس في مصر، فقط، وإنما في المنطقة العربية كلها، من خلال المشاركة والتداول عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، حتى أنني تلقيت رسالة من محرك البحث “جوجل”، بأن عدد مرات قراءة المقال بلغت 5 مليون و400 ألف قراءة. وأمام ما فيه من عِبر ودروس، كانت سبباً في شهرته، فقد قررت إعادة نشره.
“عندما توليت رئاسة إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية، كنا نحتفل مرتين، سنوياً، بشهداء حرب أكتوبر 73 … وفى أحد الأيام، قدم لي أحد الأصدقاء، سيدة فاضلة ترغب في مساعدة أسر الشهداء من الجنود وضباط الصف، ورحبت بطلبها، وبالفعل اشتركت معنا، في أول الاحتفالات، وكانت إفطار العاشر من رمضان.
ثم التقيتها، مرة أخرى، بعد شهر واحد، فعلمت بمساعدتها لأكثر من 200 أسرة من أسر الشهداء، سواء بالمساهمة في تكاليف الزواج، أو إجراء عمليات جراحية، أو سفر للعمرة. كانت تلك السيدة، تنفق من مالها الخاص، بكرم حاتمي، حتى أنى أطلقت عليها، آنذاك، لقب أم الشهداء، لما رأيته منها من تفان وإخلاص، عجزت شخصياً عن تفسير أسبابه … فقد كانت، على سبيل المثال، تجوب محافظات مصر شمالاً وجنوباً، لدعم أسر الشهداء، غير مكتفية بالدعم المادي، وإنما مصرة على أن يصاحب ذلك دعم معنوي.
ومرت السبع سنوات سريعة، وانقطعت الصلة مع هذه السيدة الفاضلة، بعد أن تركت مكاني في الشئون المعنوية. وبعد أكثر من خمسة عشر عاماً، تلقيت مكالمة تليفونية من إحدى مديرات دور المسنين، بأن هناك من يريد محادثتي، وجاءني الصوت مألوفاً، إلى حد ما، إلا أنى لم أتعرف على صاحبته، في تلك اللحظة، حتى عرفتني بنفسها، أنها أم الشهداء، كانت مفاجأة أن أتلقى مكالماتها، وصدمة أن تأتيني من دار للمسنين.
انطلقت على الفور لزيارتها … ويا لهول ما رأيت … لقد تسللت إلى ملامحها بصمات الزمن الغائرة … وأصبحت، بالكاد تقف، ولا تتحرك إلا بمشاية ترتكز عليها! وأخبرتني مديرة الدار أنها شاهدتني على إحدى القنوات، وطلبت أن تراني، فظلت تبحث عن رقم هاتفي حتى وجدته. أبلغتني مديرة الدار أنها نزيلة بالدار منذ خمس سنوات، إذ أن أولادها مقيمون بالخارج، وابنتها الوحيدة، المقيمة في مصر، تزورها، بالكاد، كل عدة أشهر.
وجلسنا معاً نتذكر الماضي الجميل، والتف حولنا باقي سيدات دار المسنات، يستمعن إلى ما سبق أن قصته عليهن مراراً، ولكن في وجود شاهد الإثبات الوحيد على عظمة تلك السيدة. وسألتها عن أولادها فلقد كان أحد أولادها، طبيب عالمي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم يعد منها بعدما أكمل دراسته بها، فقد بذلت الأم كل غالٍ ورخيص من أجل تعليم أبنائها أفضل تعليم. وابنها الآخر رجل أعمال مشهور في دبي، أما الابنة الوحيدة، فتعيش في القاهرة!
اتصلت بهم جميعاً، لأخبرهم بحال أمهم، التي لم ترهم منذ عشر سنوات، وأحثهم على زيارتها … فقال لي ابنها الطبيب الأكبر، المقيم في أمريكا، أن لديها من الأموال ما يكفل لها العيش دون مشاكل في هذه الدار، مع العلم أنه يزور مصر، كل عام! سمعت نفس الكلام من ابنها الثاني، المقيم في الإمارات. أما الابنة، فتعللت بمسئوليات الحياة التي تلهيها عن زيارة أمها! فطلبت منهم صورا حديثة لعائلاتهم، علّها تجد فيها ما يؤنس وحدتها، ولن أطيل عليكم في وصف فرحتها العارمة بتلك الصور، وهي تقارنها بما لديها من صور قديمة، ولن أحكى لكم عن مشاعر الفخر التي انتابتها وهى ترى الأحفاد وقد صاروا فتيانا وفتيات!
وهكذا، عشت 3 أشهر في زيارات أسبوعية لهذا المكان، رأيت، خلالها، مجتمعاً جديداً لم أره من قبل، كانت متعتها الوحيدة خلالها، هي الحديث عن الابناء وعن ذكريات طفولتهم. وفى أحد الأيام، أخبرتني برغبتها في السفر، على نفقتها الخاصة، لزيارة أبنائها، وللأسف كان ردهم الأمور هنا صعبة.. وعندما نزور القاهرة سوف نراها.
وفى أحد الأيام، جاءتني مكالمة في الصباح من مديرة الدار، تبلغني بوفاة “أم الشهداء”، وأنها فشلت في الوصول لأي من أبنائها، وتخشى دفنها في مقابر الصدقات. فأسرعت إلى الدار، وبعد اتصالات عديدة، عرفت مكان مقابر الأسرة، فأرسلت من قام بتجهيز المدفن، بينما أقمنا صلاة الجنازة في الجامع القريب من دار المسنين، وشيعنا جثمانها إلى مثواه الأخير، وأنا معها وحيداً … فقد اعتذر ولداها عن عدم إمكان الحضور، أما ابنتها فكانت مع أولادها بالإسكندرية للمشاركة في مسابقة رياضية!
وللمرة الثانية في حياتي، بعد وفاة والدتي، تسيل دموعي بغزارة، على من أفنت حياتها لتربية أولادها على أعلى مستوى، وخدمت أكثر من 1000 أسرة من أسر شهداء مصر، وكُتب عليها أن يواريها التراب وحيدة. وبعدها بأسبوع اتصلت بي مديرة الدار لتبلغني بحضور ابنتها لتتسلم شهادة الوفاة، لإقامة دعوى إعلام الوراثة، لتحصل هي وأخواها على التركة الكبيرة التي تركتها لهم الأم. وتسلمت شهادة وفاة الأم، والتي اعتبرتها، في هذه الحالة، شهادة وفاة القيم والأخلاق في عصرنا الحديث.”