دكتور أحمد محمد الشربيني يكتب..أمراء البيان وعثرات اللسان
لقد عني كثير من اللغويين قديماً وحديثاً بالفصاحة اللغوية ومناهضة الأخطاء المتفشية بين الأدباء والمبدعين لاسيما أقطاب الشعر الرصين حتى طالعنا كتابًا تحت عنوان
(عبث الوليد) لأبي العلاء المعري حيث ينقد فيه بعض أخطاء البحتري ويعدد سقطاته نحويًا وصرفيًا ودلاليًا والغريب أن أول طبعة رأت النور كانت من تحقيق أديبين سامقين هما الشاعر: شكيب أرسلان و الكاتب محمد حسين هيكل
وتلك ليست أول مرة تُخصص فيها المؤلفات لتتبع هنات الشعراء وسقطاتهم، حيث انشغل المحدثون أيضاً بتتبع أشعار القدماء والمحدثين على السواء ونقدها دلاليًا وفكرياً ونحوياً وصرفياً
فمثلاً تراهم يتساءلون فيما بينهم:هل أخطأ الشاعران الحكيمان :زهير والمتنبي في تقدير الظلم في النفس الإنسانية ؟
فهذازهير بن أبي سلمى يقول :
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه. **يهدَّم ومن لا يظلم النَّاس يظلم
وذاك أبو الطيب المتنبي يقول :
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
** ذا عفة فلعلة لا يظلم.
كذلك عابوا على المتنبي أخطاء صرفية متناسين الضرائر الشعرية منها استخدام (بوقات) جمعاً لكلمة بوق على غير القياس
ومما هو معروف أن المتنبي شاعر كبير ملأ الدنيا وشغل الناس، لكنه كسائر البشر ، يخطئ ويصيب، والشعر ميدان رحيب ولا أدري ما الذي انتقده هؤلاء المتجادلون عليه في هذا البيت تحديدًا؟وثمة كتاب يقيل تلك الهنات الشعرية مثل(( ضرائر الشعر)) لابن عصفور
بل تراهم قد ألفوا كتبًا كاملة عن أخطاء المتنبي في الدلالة والمعاني واتهموه بالسرقات الشعرية ، بل أخذوا عليه أشياء في الدين والعقيدة، ولا يخلو إنسان من أعداء ونقاد يغيرون عليه بالحق والباطل، فما بالك بأساطين الشعراء الكبار من أمثال أبي الطيب؟!
فلا يمكن القول إنه معيار للخطأ والصواب حتى في اللغة والشعر؛ لأن المتنبي ممن جاءوا بعد عصر الاحتجاج اللغوي؛ إذ مات في القرن الرابع الهجري، كما أن ضرائر الشعر تشفع لهؤلاء العَمالقة
كذلك لم ينج أمير الشعراء من مقصلة النقد اللغوى فللأسف الشديد هناك كثير من الحاقدين على شوقي ناصبوه العداء فتفننوا في النيل منه وتشويه صورته..
ووجدوا ضالتهم في البيت القائل:
أنا من بدَّل بالكتب الصِحابا،
** لم أجد لي وافيًا إلا الكتابا..!!
واعتبروا تلك سقطة لغوية ماكان ينبغي لشوقي أن يقع فيها!!!
والحقيقة أنهم لم يتفهموا ماوراء اللفظ الشعري من دلالة فكرية وعاطفة داخلية فعمي عليهم مقصود أمير الشعراء ..
إما عمدًا أو جهلاً..
؛ ذلك أن المعنى المراد:
بعد أن عاب علي هؤلاء الذين تركوا الكتاب وانشغلوا بالأصحاب ..
أيمكن أن أكون واحدا منهم ذات يوم؟؟!!
فالأسلوب استنكاري على تقدير همزة استفهام محذوفة.
والتقدير:
أأناممن بدلوا بالكتب الصحابا، حقيقةلست منهم لأنني بحكم تجربتي لهؤلاء وهؤلاء لم أجد لي وافياً الا الكتاب.
ولعل هذا الفهم في رأيي هو الأجمل في المعنى والأنسب للسياق.. كما أنهم اتهموا الكثيرين من القدماء والمحدثين بالتوعر والمعاظلة وتناسى هؤلاء أن الشاعر ابن عصره ومعجمه الشعرى ما هو إلا صدى لبيئته ومحيطه الاجتماعي والثقافي وإلافما بال هؤلاء مثلاً إذا قرأوا قصيدة
الشاعر الجاهلي الليث بن فاز الغضنفري :
ومدركل بالشنصلين تجوقلـت
عفص له بالفيلطوز العقصـل
ومدحشر بالحشرمين تحشرجت
شرا فتـاه فخـر كالخزعبـل
والكيكذوب الهيكذوب تهيعهت
من روكة للقعلبـوط القعطـل
تدفق في البطحاء بعد تبهطـل
وقعقع في البيداء غير مزركلِ
وسار بأركان العقيش مقرنصاً
وهام بكل القارطـات بشنكـلِ
يقول وما بال البحاط مقرطمـاً
ويسعى دواماً بين هك وهنكـلِ
إذا أقبل البعراط طـاح بهمـةٍ
وإن أقرط المحطوش ناء بكلكلِ!!!
أعتقد أن النقاد واللغويين المحدثين سيتهمون هذا العربي القح بعيوب الفصاحة من ثقل الألفاظ والغرابة والتوعر متناسين أن اللغة العربية تعكس عصرها وتعبر عن بيئة أهلها في كل زمان ومكان وإلا ما وجدنا اختلافاً بيناً بين شعراء الريف والبداوة وأهل المدنية والحضارة منذ القدم.
دكتور أحمد محمد الشربيني