دكتور أحمد محمد الشربيني يكتب..سيرة الأب الروحي لقراء صافوراء المحدثين سماحة الشيخ محمد محمد علي زينة
من أدب السيرة غير الذاتية
كتب راجي عفو ربه الفقير إلى الله د. أحمد محمد الشربينى..(( فى ليلة شاتية رياحها عاتية وأمطارها غزيرة ضافية كان مولد القيثارة القرآنية والموهبة الصافورية سماحة الشيخ محمد محمد علي زينة فقد تنسم هواء دنيانا فى١-١٢-١٩٣٤ ونشأ الطفل الصغير فى بيت قرآني منقطع النظير ولم لا وأسلافه العظام ينحدر إلى والدهم الإمام أبى زينة الذى استقدمته عائلة آل بدر من مسقط رأسه( بطنامل)؛ لأجل إمامة المسجد وكان ذلك فى عهد الشيخ العالم الندي الأزهري محمد محمد بدر الكبير فى عهد الباشا محمد علي..فتوارثت تلكم العائلة سجايا التقى والعرفان؛ فصاروا جميعًا من سدنة القرآن ودارسي سنة المصطفى العدنان….وكان والد الطفل يدعى محمد على أبو زينة ذلك الشيخ الورع التقي والطود الفتيِّ الذي لا يشق له غبار فى الفتوة وسجايا الرجولة والنخوة؛ حتى رُوى أنه صارع أحد صناديد القرية من عائلة كبرى، فصرعه وطرحه أرضًا عدة مرات وحمله بين ذراعيه كما يحمل الثُمامة- ولم يخش عائلته على كبرها وسطوة نفوذها آنذاك- حتى أسموه آنذاك بالشيخ المُصارع…!!
لكن القدر لم يمهله كى يربي طفله الذي لم يذق حنان الأبوة ولم لا وهو ابن سنتين؟!! فقد مات والده الشيخ فى عنفوان الشباب عن عمر يناهز الثانية والثلاثين من عمره فى شهر رمضان ..توفى ذلك الشيخ العفي ليترك ولده الوحيد مشرق الوجه والطلعة إلى تصاريف الدنيا وتقلباتها فنشأ يتيمًا رقيق القلب عظيم الشفقة والحب سمته التقى والورع لا يعتريه جشع أو طمع..هنالك أوصى جده لأبيه عمه الشيخ أحمد علي زينة( والد كل من أ. محمدأحمدعلي زينة وأ.صبري أحمد علي زينة وأ.عبد الحكيم أحمد علي زينة) ليضطلع بمهمة تربيته وكفالته قرآنيًاوماديًا وخلقيًا وتربويًا..فأكسبه سجايا أهل القرآن ..وبعث به فى صغره صوبَ منشأة صهبرة كي يتعلم على يد شيخها العالم الرائد والقارئ الماجد مولانا إبراهيم الباز وتصادف وقتها أن الشيخ الصغير كان رفيق كتاب وثلة أتراب أبرزهم صنوه فى الصوت الندي والنبر التقي والحضور الجماهيري فضيلة القارئ الشيخ عبد الوهاب إبراهيم السيد (نحرة)-رحمه الله- فنشأت بينهما ألفة ومحبة ووشيجة مودة امتدت عراها حتى مفترق العمر…وما أن تعلم الشيخ أبو زينة على يد الشيخ الباز أحكام التلاوة والتجويد حتى ييم وجهته تلقاء صافوراء؛ ليلتحق بكتاب الشيخة لظيمة تلك المحفظة الورعة التقية النقية الضريرة ذات النور الإيماني والفتح الرباني والبصيرة فتعهدته وعلى مدرستها القرآنية نشَّأته؛ إذ كانت معروفة فى صافوراء وما حولها بالحنكة والمهارة فى أحكام علم القراءات وكان جميع حفظة القرآن بالقرية يحسبون لها ألف حساب!!! والويل كل الويل لمن ذلت به شفته أو نأي به حفظه عن الجادة والقراءة المحكمة المعتادة!!؟
فكانت نموذجًا للمرأة العالمة الحصيفة والفلاحة النقية العفيفة، التى تعيد إلى الأذهان ذكرى نساء صدر الإسلام كالصحابية المحدثة والسيدة المعلمة نسيبة بنت كعب- رضى الله عنها- ثم يمم الشيخُ الصغيرُ وجهته إلى مدرسة قرآنية ثالثة رُبانها الشيخ أبو طه( جد أستاذنا الخلوق أ. عبد البارى فودة)
فارتشف من فيضِ علمه ونهلَ من بحر خلقه واقتبس من علا ورعه..وتمضى الأيام سراعًا ويلتحق الطفل بالمدرسة الأولية للتعليم الإبتدائى بصافور ( رقم ١) وما أن أتم المرحلة الابتدائية حتى تلقته- من جديد- يد عمه الشيخ أحمد على أبو زينة بالتنقيح والتشذيب ؛ فعلمه القراءات وأحكامها وأعده جيدًا لتحمل صروف الحياة وأعبائها ومواصلة رحلة القافلة القرآنية لهذه العائلة المباركة…وصدق حدس الشيخ أحمد؛ إذ لم تخيِّبْ الأيام ظنه المأمول وحلمه المنشود فى نجل أخيه اليتيم حيث صار من أعلام القراء فى صافوراء وما حولها تتقاطر عليه الختمات والمآتم من بعيد ونائل ..والسميعة من كل حدب وصوب إليه يأتون وعنه يسألون ولسماع تلاوته يطربون …وقد آلى على نفسه إعداد أجيال من حفظة القرآن وفق القواعد والأحكام فأقام كتابًا في حيه بمنطقة السراجية حيث يسكن، وكان الكتاب وقتئذٍ بجوار منزل الشيخ عبد الغني الإمام – رحمه الله – وكان مفتتح تلك السقيفة القرآنية في صيف عام١٩٥٥م وكان الشيخ وقتها فى شرخ الشباب وكم تخرج على يديه أساطين قراء صافوراء فيما بعد من الرعيل الجديد كالشيخ ياسر عبد الحافظ والشيخ ياسر سيد أحمد والشيخ ياسر سرايا… وهلم جرا.
هذا وقد تزوج الشيخ من زوجته الوفية ورفيقة دربه التقية الأصيلة الرضية الحاجة ألحاظ أحمد كشك وأنجب منها أولاده الثلاثة (نجله الخلوق الأستاذ سمير محمد أبو زينة وأختيه بارك الله فيهم…).
كما عمل الشيخ لفطنته وتمكنه وخبرته ودربته كمحفظ للقرآن الكريم فى صافور الإعدادية ( بنظام التعاقد ) فنال شرف التدريس و حظى بوسام لقب معلم ليجمع الحسنيين ويحوز الفضيلتين: فضيلة التربية القرآنية، والتعليم تحت مظلة الوزارة المصرية…وكم عاش الشيخ مكافحًا راضيًا قانعًا؛ فبارك الله فى ماله وعياله وحفدته؛ فهذا اليتيم الذي لم يرث شيئًا عن أبيه استطاع بكده وعرقه وصبره ووافرحلمه أن يشتريَ فداني أرض وأن يُشيدَ بيتًا وسيعًا وينشأ فيه ولدًا مطيعًا…وقد أدى شيخنا فريضة الحج من ماله الخاص عام ١٩٩٥م برفقة رهط من أبناء صافوراء الأوفياء نحو الأستاذ بدوي فياض والأستاذ متولي السواح والحاجة السيدة أم العنين..وفى ١٨-٧-١٩٩٩ لبى الشيخ نداء السماء فانتقل إلى جوار ربه في ليلة غراء بعد أن أمَّ الناس وصلى بهم فى مسجد البيلى ( السادات) حيث فاضت روحه وشروق الشمس لتسطع فى ملكوت الأطهار وترفل فى سندس الأبرار و تصعد إلى جنان الأخيار مع النبي المصطفى المختار….وقد اتصف شيخنا القارئ المبدع بسجايا وخصال عدة منها(١) الورع والتقوى والحياء الجم؛ فقد ألفيناه مسبحًا لله ذاكرًا لأنعمه، له ورد قرآني يومي لا يحيدُ عن قرا ءته وتعهد مراجعته وتدبره وكم كان حياؤه مع الله دليلاً على سمت حيائه مع الخلق؛ ومن فرط هذا الحياء أن الشيخ- كما يروي نجله الخلوق- لما بنى بعروسه ليلة زواجه كان من عادة والد العروس أن يطمئن على عفة ابنته ولا يتحرج فى سبيل ذلك من رؤية شعار عفتها( فلاحها) فسأل الزوج وقال له ماذا صنعت البارحة طمئني بالله عليك..فقال الشيخ العفيف لم نصنع شيئًا…هنا استشاط والد العروس غضبًا وقال؛ إذا فلتدخل بها الآن وسأنتظر نتيجة ماكان وإلا لن أبرح هذا المكان..فأجابه الشيخ الصافوري بجواب قرآني(( إنى أخاف الله))..فغضب حماه وتغيظ عليه وقال له والشرر يتطاير من عينيه( إذا لماذا تزوجتها…ألتعد لك الطعام وتغسل الثياب ولا شيئ دون ذلك!!؟) فتبسم شيخنا واستضاء وجهه ورفع رأسه قائلاً يكفيني هذا منها الآن حتى يأتى الأوان. …ولم يكن ذلك الموقف هو الوحيد إذ تعرض الشيخ قبل زواجه لفتنة يوسف عليه السلام نظرًا لجماله وسمته وحسن خلقه وروعة صوته و عذوبة منطقه….فكان مطمعًا لمن يردن شرف الزواج بهذا اليتيم الرحيم ذي الوجه الوسيم ..لقد كان يغشى البيوت لتلاوة الختمات المعهودات وذات مرة تعرضت له سيدة جميلة بكلام يعبق برائحة الغزل والمراودة بلا حجاب ولا خجل فقال الشيخ بقلب وجل:” يا سيدتى معاذ الله….ما كان لي أن أعصي ربي”
وخرج لتوه قبل أن توقعه فى شركها ببركة القرآن وحفظه لحملته…بل الأعجب من ذلك أن الله عزوجل قد قيض من النساء من كن يدافعن عن الشيخ ففي إحدى المرات دُعى لإحياء ختمةٍ قرآنية فى إحدى القُرى المجاورة وكان الشيخ يقرأ بالمنظرة ويبدو أن رجل البيت كان مريضًا فصرخ فى زوجته كي تأمر الشيخ بالانصراف والرحيل عن البيت فى التو والحال ولما سألته عن سبب هذا المطلب الفج قال:” إننى يا امرأة مريض وطريح الفراش وأحسب أن هذا الشيخ وصوته الجميل قد يعجل بموتي وقبض روحي لأن الملائكة إذا سمعته حضرت وأنصتت وفى دارنا قبعت وتربعت ريثما يفرغ هذا الشيخ الصافوري من تلاوته ومن يدري فلعل عزرائيل يأتي برفقتهم ساعتها لن يعود صفر اليدين إذا وجدنى على تلك الحال وكما قيل فى الأمثال: فرح بجانبه طهور”
هنا استشاطت الزوجة غضبًا قائلة لبعلها المريض :” يارجل لكل أجلٍ كتاب فلا تبتئس بهذا المُصاب…!! “
لكن الزوج أصر على مطلبه فما كان من الزوجة إلا أن عمدت إلى ( المقشة) ونذلت بها على ماتعرى من أطراف زوجها وأوسعته ضربًا ولسعًاوهى تجأر وتصيح فى زوجها الكسيح مالك وأهل الله مالك والشيخ البركة؟…وما أن سمع الشيخ هذا الجدال حتى نادى على أهل البيت طالبًا زيارة ذلك المريض وبالفعل دخل عليه وربت على كتفيه وقرأ ما تيسر من القرآن فقام هذا المحسود وكأنما نشط من عقال!!!
(٢) قناعته وزهده وذلك السمت معروف عنه؛ حيث إن جميع الصافوريين – وأناواحدٌ منهم- يقرون بذلك السمت التقي والقلب النقي الذى لم تلوثه يومًا أعراض الدنيا وزائف زخرفها وخادع بهرجها…وحسب الرجل أنه لم يطلب من أحد أجرًا معينًا أو نصيبًا معروفًا محددًا، فما دُس فى جيبه لا ينظر إليه ويستحي أن يسأل عن مقداره أو يجادل ويفاصل وينازع ويطاول كما يصنع بنو جلدته وأرباب صنعته ورسالته للأسف في هذا الزمان.!!!
ومن دلائل ذلك السمت الذى لا يعتريه عوج أو أمت مارواه نجله الخلوق ونبته الصدوق من أن أباه دُعى يومًا فى أحد العزاءات الصافورية وقد زور فى نفسه صاحب المأتم القيم على تنظيمه وتحمل تكاليفه أن يعطي الفقيه الضيف( الغريب عن البلدة) خمسين جنيهًا أما شيخنا الصافورى الندي السمح التقي فانتوى أن ينقده عشرين جنيهًا…وبالفعل انتهى المأتم فى المساء وها هو الشيخ أبو زينة قد فرغ لتوه من قراءة الربع الثانى والختامي كما هو المعتاد وبدأ أصحاب الفراشة والصوان يعمدون إلى إخلاء المكان وتنظيمه كما كان..وبدأت المصابيح الكهربائية تطفأ والقناديل البلورية تنزع وتنزل والفرش والبسط تطوى وتنقل والستائر ترخى و تسدل…وبدا المسرح التراجيدي خالي الوفاض ماخلا صاحب الصوان والشيخين وبعض عمال الفراشة المتناثرين فى ظلام المكان تسمع أصواتهم ومناداتهم على استحياء…وقد حان الميقات ليأخذ الضيفان حظهما من النقد… فبدأ بجيب الشيخ الضيف قبل جيب شيخ القرية القنوع..ودس فى سيالته خمسين جنيهًا كما انتوى أما شيخنا أبو زينةفقد تقاضى أجرًا أقل بكثير مما أزمع رصده سلفًا لطلته المباركة..فقد أخطأت يد القيم على المأتم طريقها إلى الجيب الأمين حيث العشرين وسلكت طريقًا آخر لتخرج للشيخ مبلغًا زهيدًا قدره وكان من سمت الشيخ وحسن سجيته ألا ينظر فى المبلغ الذى يتقاضاه بل يدسه فى جيبه دسًا فلا تدرى شماله ما تقاضت يمينه …كما اعتاد أن يخرج ما فى جعبته ويضعه فى حجر زوجته دون أن يعرف قدره….ولما سألته زوجته هذه المرة كم تقاضيت…؟ قال لها قولته المعتادة:” قسمة الله أخذت وبها رضيت..”
ولكن الزوجة تعجبت من ضآلة هذا العطاء فقال متعجبة لا حول ولا قوة إلا بالله أقيمتك يا بعلي خمس جنيهات فى تلاوة سورة يوسف؟!! ياله من ثمن بخس يتقاضاه الماهر بالقرآن فى هذا الزمان!! فأجابها بقوله المعتاد بلا جدال وعناد :”ياحاجة البركة فى القليل وتلك قسمتى ونصيبى!! “…. وقبل أن يفرغا من حديثهما المعهود و نقاشهما الودود إذا بالباب يطرق على غير موعد فيدلف الشيخ إلى دهليز الدار ليفتح الباب وإذا به يجد صاحب المأتم قد حضر لتوه على عجل يلهث من هرولة المسير قائلاً بصوت خجل حسير ونبر وجل كسير:” عذرًا يا مولانا فقد حدث خطأ غير متعمد وها أنا ذا قد جئتك لأصحح الالتباس وأرد عليك حقك غير ملتاث لأعلي قدرك على العين والراس”؛ فقال الشيخ أي حق ياهذا تريد فلا تزد فى ذاك أوتعيد.. فقد أخذته والحمد لله السميع المجيد؟..فقال الضيف الطارق والزائر الطارئ:”لقد التبس علي الأمر فأعطيتك خمس جنيهات ونصيبك المرصود ونقدك المنشود عشرون جنيها فخذ الخمسة عشر جنيهًا وأقلني من مغبة المساءلة والحساب والشبهة والارتياب يوم العرض والحساب!!!فنظرت الزوجة على الفور إلى شيخها فرحة مستبشرة وألقت إليه بنظرة استعطاف وكأنها تستميحه ليأخذ أجر ما قرأ ….لكن الشيخ ألجمها والضيف بنبر واجع وجواب قاطع ومنطق جامع مانع مد يدها نحو الشيخ، لكن فقيهنانظر إلى ذلك الزائر الذى مد يده بالمبلغ فرد يمينه فى حياء وقناعة قائلاً :((لقد صنعت زوجتي أرز معمر ولن تبرح المكان قبل أن تأكل منه…أما الخمسة عشر جنيهًا فخذها ولا تخف واجلس للمائدة ولا تقف فقد أخذت قسمتي ونصيبي ولا أرجع فيما قيضه الله لي فالبركة فى القليل ياضيفي الجليل ))..يقول راوي الخبر إن ذلك الموقف كان سببا فى خير وفير ومال كثير ناله الشيخ من حيث لا يحتسب!!! فما أجمل القناعة! ويالبركة الطاعة والسماحة!!!
(٣) جمال الصوت فقد أوتى الشيخ أوتارًا ذهبية وحنجرة إيمانية وكأنما وُهب مزمارًا من مزامير داود؛ فتستمع إليه بقلبك قبل سمعك؛ فتزرف دمعك ويخشع فؤادك وتقر عينك وتطيب روحك وصقال وجدانك، وكم كان نبره الإيمانى وتطريزه الصوتى ووقفه الإلهامي ينساب فى حنايا صدور السامعين وجماهير المنصتين المعزين فيذكرهم بالفتوحات الربانية لمشاهير القراء لاسيما الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ حمدي الزامل….وقد أطلق عليه الشيخ الزامل نفسه لقب (الزامل الصغير) لجمال صوته وبراعة نبره وبيان وقفه …ففي مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم دُعى الشيخ أبو زينة ليقرأ بجوار العملاق ضيف صافوراء وقارئ الإذاعة الغراء الشيخ حمدي الزامل فى عزاء جد الحاج صبري أبي المعاطي حيث أقيم صوان مهيب وفراشة رحيبة احتقبت جنباتهامئات المعزين والمستمعين المحبين لسماع القرآن لاسيما إذاكان نابعًا من قيثارة القرآن الشيخ الضيف الفنان، فحشر الناس عصرًا وجاؤا من كل حدبٍ وصوبٍ يحدوهم العشق والحب وامتلأ الصوان الملاصق للطريق الزراعي المرصوف( الزراعية)عن آخره..وها قد صليت صلاة العصر ومضت ساعة إلا ربع ولما يأتِ الشيخ الضيف حتى الآن..إذ من المتعارف عليه بين أبناء الريف أن يبدأوا بالضيف كي يقرأ الربع الأول ثم يتبعه شيخ البلد ( القارئ الاحتياطي) كي يقرأ الربع الثانى ( الختامي) وهكذا الحال فى قرآن العشاء…ولما تأخرت سيارة الزامل اضطر صاحب الصوان أن يبدأ بشيخ البلد مولانا أبي زينة فألهمه الله التوفيق والسداد فقرأ بالقراءات المحكمات وانتزع التكبيرات والآهات فأبدع وأمتع وأسمع وأقنع ولما وصل الزامل بسيارته الفارهة توقف قليلاً بُعيد الصوان وفتح زجاج سيارته ليستمع إلى ذلك المبدع القروي الذى يطاول فى صوته كل طود إذاعي لكنه التقدير الإلهى!!
ثم ترجل عن سيارته وسار يشق الصفوف بقلب ملهوف حتى انتهى إلى مجلس شيخنا وتخته الرابض، هنالك شرع الشيخ الوقور الصافوري الصبور يختم تلاوته فها قد حضر الزامل لتعلو إثرها الهمهمة والوشوشة من بعيد ونائل..لكن الزامل أخذ مجلسه أمام شيخنا المبدع وأشار إليه بألا يهجع ولقراءته ألا يقطع..فواصل الشيخ القراءة وأفاض الله عليه من الفتوحات وبارع الجوابات..وما أن أتم تلاوته حتى هرع الزامل وقبل رأسه ونظر لرهط من المعزين الأماميين قائلاً:” يا آل صافور إذا كان بين ظهركم الزامل الصغير فلا حاجة لكم إلى الزامل الكبير بعد اليوم!!!”
ثم تلا ماتيسر من قرآن العصر ليخرج إثر تلك التلاوة وهو يمسك بيد الشيخ أبي زينة ليسيرا معًا جنبَا إلى جنب وسط دهشة الجميع وفرط عجبهم من تواضع ضيفهم وشدة إعجابه بقيثارة بلدهم…وكأنه يعلم بلدتنا أن تحتفي بشيخها الواعد وصوتها العذب الماجد…أو قل ليلقي على جماهير صافوراء وحسها الوضاء نظرة الوداع والرحيل بلا زماع… حيث قضت المقادير ألا يدخلها الزامل بعد ذلك المشهد الختامي؛ إذ وافته منيته بعد بضعة أشهر وهو فى ريعان الشباب وأوج الشهرة وذرى الألقاب في الثاني عشر من مايوم عام ١٩٨٢م..فعظم على أبناء بلدتنا المصاب وكم بكاه الشيخ أبو زينة؛ إذ كان الزامل له قدوة و نبراسًا وفى التلاوة مدرسةً وأساسًا…حتى قال الصافوريون حكمتهم الخالدة(( القرآن والزامل والحرث وأبو عامر)).
رحم الله شيخنا الجليل التقي الندي النبيل وأسكنه وسيع الجنان ورزقنا وإياه شفاعة النبي المصطفى العدنان.
بقلم د. أحمد الشربيني(أبو وهاد)
*************
مصادر المقال مرويات نجل الشيخ الأستاذ سمير محمد أبو زينة