دكتور أماني فؤاد تكتب..الانفجار بين الرؤية والرؤى”ما رأت زينة وما لم ترَ”
لهذا النَّصِّ: “ما رأت زينة وما لم ترَ” – لمؤلِّفه الروائي والأكاديمي اللبناني (رشيد الضعيف) – خصوصية فريدة؛ حيث حكَى ملابسات كتابته، أثناء كلمته في ملتقى الرواية العربية، الذي عُقِد تحت عنوان: “الخطاب البَصَري في الرواية”، في موسم “أصيلة الثقافي الدولي” بالمملكة المغربية، وفي هذا الملتقى فاز (رشيد الضعيف) بجائزة “محمد زفزاف للرواية العربية لعام 2023″، في دورتها الثامنة، يقول المؤلِّف: إنه – في البداية – كتَب النَّص سيناريو للسينما؛ بقصد إنتاجه كفيلم، ثم نتيجة للظروف الاقتصادية في لبنان، وتأثُّر شركات الإنتاج؛ تعثَّر التنفيذ، خاصةً مع تكلفته العالية؛ حيث يدور حول قصة سيدة وعائلتها في قلْب مَشاهِد انفجار المرفأ في لبنان 4 أغسطس عام 2020 ، وهو ما سيجعل إنتاجه باهظًا للغاية، ولذا أعاد المبدع صياغة السيناريو في صورة نَصٍّ روائي، وهو عمل عكْس الشائع والمتعارَف عليه.
وفي كلمته – التي تحدَّث فيها عن الفرق بين كتابة النَّص الروائي والسيناريو – ذَكَرَ: إنه يتحرَّى ألَّا يذكر أيَّ فِعل من أفعال الشعور – مثل “أَحَسَّ، أحَبَّ، كَرِهَ، تذكَّر، فكَّر” – في مشاهد السيناريو؛ بل يحوِّل اختياراتِه لأفعالٍ يمكن تصويرها، على خلفية اعتبار الشعور نمَط سلوك، حتى التفكير ذاته سلوك، فالأفعال التي تحملها حركات الجسد المرئية، وعلاقتها بالأشياء في المَشاهِد المتتالية، يمكنها أن تصِف المشاعر والأفكار، بحسْب تكوين المشهد وحركته.
تنهض بنية رواية “ما رأت زينة وما لم ترَ” على رسْم المشاهد بطريقة كتابة السيناريو، وتجسِّد هذه المَشاهِد فداحة الانفجار، وآثاره التي شملت الجميع: البَشر، والمدينة، ورؤية الحياة ذاتها، حيث تفصح البنية الدالة على أن كل الأحداث السابقة على الانفجار كانت حتما ستؤدي لحدث فارق ومدمر.
وأحسب أن بنية العمل، بكتابته سيناريو منذ البداية، انعكست بطُرُق متعددة على بنية النَّص الروائي، بداية من العنوان، وحتى آخِر مَشاهِد النَّص، وهو ما سأعرض لبعض تجلياته:
اختار الكاتب لرواية نَصِّه “السارد العليم” أو الفوقي؛ ليَهَبَه حرية الانتقالات السريعة في الأمكنة والأحداث، تغلُّبًا على معايير الواقع، كالكاميرا المتحرِّرة؛ لملاحقة الواقع بكل مأساويته، السارد الذي عرَض حالة الإحباط العام قبْل الانفجار، ثم الدمار، الذي شمل المدينة بَعده، ولاستبطان وجدان الأبطال والإفصاح عما بداخلها، حيث لا مساحة للحوار؛ لطبيعة الحدَث الرئيس.
كما أضفى الراوي على الواقع أبعادًا غرائبية، وحوَّلها لمَشاهِدَ يمكن أن تصوِّرها الكاميرا بتقنيات السينما الخاصة، تقول (زينة) لـ(سوسن) عن زوجها، وهي تتأمل البحر: “إني أرى ظِلَّه. الذين يموتون غرَقًا في البحر، ولا يُعثَر على جثثهم؛ يتحوَّلون إلى ظلال هائمة فوق المياه، يلمعون عندما تَحِلُّ العتمة.”
وهو إذ يحكي قصة (زينة) وابنتها (بُشرى)، وأختها (مريم)، وغَرَقِ زوجها الصياد في البحر، واضطرارها لإعالة ابنتهما، بالعمل مديرة منزل لدى (سوسن) و (فاضل)، منذ 25 عامًا؛ يقُصُّ على قارئه حكاية عادية، تحدُث للكثير من النساء، حكاية تسرد خيباتٍ كثيرةً، على المستوى الشخصي؛ حيث عجْز الشخصيات – (زينة) و(بُشرى)، و(مريم) الخالة المريضة – عن استكمال حياتهن بصورة طبيعية؛ نظرًا للظروف الاقتصادية، فتنقطع (بُشرى) عن الجامعة، وتضطر للعمل، كما يشير لأحداث عامة تصِف تحوُّلات المجتمع، نتيجة تخبُّط وفساد السياسات، والطائفية، والموروثات الاجتماعية، وانعكاساتها على الاقتصاد. تتجسد هذه الأجواء في المَشاهِد السابقة على انفجار المرفأ.
ويهيِّئ الروائيُّ القارئَ – من خلال تقنيات السرد، وطقْس الأحداث – لانتظار شيء خطير سيحدُث؛ فطقْس ما قبْل الانفجار ينبِئ بأن أمرًا غير متوقَّع يرتسم في السماء، وفي البحر، في الزحام والطُّرُق، في تضخُّم الأسعار، وتحوُّل العيش لمعاناة حقيقية، في فنجان القهوة الذي تكسَّر، في الأجساد الساخنة التي تُعلِن عن نفْسها متمردة في الطُّرُق والمقاهي، وعلى الجدران، في انقطاع المياه والكهرباء، والاستيلاء على المدَّخرات في البنوك، وتقييد النساء في ميراثهن، والافتقار لوسائل العيش الأساسية.
كما يرصد الروائي تحوَّلات مدينة بيروت، الزحام، الشوارع التي تفقد هدوءها وجَمالها، وتصبح شوارعَ تجاريةً استهلاكية صاخبة. ويلحظ أيضًا زوالَ أهمية الزواج في حياة الفتيات، وعدم التفكير فيه، باعتباره فرصة تُشعِرها بالكفاية والأمان، وهو ما تجلَّى في رؤى (بُشرى) وأخريات لتلك العلاقة.
كما تتداعي الذكريات محمَّلة بشَجَن الفقد والعجْز، يقول الراوي: “كيف تنساه؟ كيف تنسى (زينة) زوجَها الشاب، وقد كانت حُبْلَى بابنتها يومَ غرقت الباخرة، التي كان مسافرًا على متْنِها.” وتأتي الحوارات النادرة في النَّص، لتحمل بين طيَّاتها توجُّسًا ما؛ تقول (سوسن): “رأت بحَّارة ينزلون إلى الشاطئ من مراكبَ بمجاديفَ، ويتوزَّعون مجموعاتٍ صغيرةً، ويتخلَّلون المدينة، ويختفون فيها، … ثم تساءَلَت: هل يجيئون من أزمنة قديمة إلى أيامنا هذه عن طريق بحرنا وشواطئنا؟”، تُحفز المناطق البينيةُ الشبحية تلك طقسا غامضا واحتماليا لدى القارئ، وتدعم حالة من التشوّف.
كأن هذه الشخصياتِ الشبحيةَ تعكس، وترمُز لشخصيات أخرى مدمِّرة وكارهة لبيروت الحضارية. ومن خلالها يشكل الروائي إشعاراتٍ ضبابيةً غامضة لشيء يمكن أن يحوِّل الواقعَ إلى جحيم فِعلي.
يقول الراوي واصفا وقت الانفجار: “اهتز كوكب الأرض قاطبة! اهتز بصمت، بلا أن يُصدِر صوتًا. كأن الأصوات اختفت من الوجود، لحظة اهتزت الأرض. وقد اهتز البيت، واهتز المبنى، واهتز الحي، كأن ذلك في حلم مرعب، وتبعت هذا الزلزال الصامت أصواتٌ هائلة من الزجاج المتحطِّم والمتساقِط والمتهاوي، بحيث أن الزمان امتلأ بها.”
أثناء انفجار المرفأ، سقط باب المنزل فوق (زينة)، يحكي الرواي أنها رأت أشياء من موقعها، وأحست بها، (زينة) أيضًا لا يمكنها أن ترى أشياء ومَشاهِدَ، لكنَّ الكاتب يَصِفها تحت عنوان “ما لم تَرَه (زينة)”، ومن هنا نفسِّر عنوان الرواية، “ما رأت زينة وما لم ترَ”؛ فحين فَقدت (زينة) الوعيَ والرؤية، ساعتها رأت عينُ الراوي، وعين الكاميرا مجموعةً من المَشاهِد المأساوية شديدة الفجيعة، يقول الراوي: “لم تَرَ (زينة) ما حَلَّ بالأم الشابة وبطفلها. اختلط صوت ضحكها فجأة، بأصوات تطايُر الزجاج، وعبَر في اللحظة ذاتها لوحُ زجاج، وفَلَقَ طفلَها الذي بين يدَيْها فلقتَين، وشقَّه قسمَين.” ، الواقع الجحيمي هنا يفرِض الرؤية، سواء استطاع الإنسان أن يرى أم لم يستطع.
تسمع (زينة) أيضًا ما يقوله (جاد)؛ ابن (سوسن)، التي ماتت وقت الانفجار، يقول الراوي: “يخرج الصوت من الهاتف دون أن يمَس الهاتفَ أحدٌ، ثم يقوى هذا الصوت بقوة، وينتشر؛ حتى يحتل كل بيروت. يقول الصوت: حاطِّين قنبلة ذرية بنُص المدينة! عَمْ يِلعبوا يا (زينة)، عَمْ يِلعبوا. مفكِّرِين حالُن كُبار، مفكِّرين حَالُن عَمْ يصنعوا التاريخ! ويرافق صوتَ (جاد) منظرٌ مأخوذ من فوق بيروت، يجول بنا على الشوارع والساحات، والمباني والمساجد والكنائس، والآثار القديمة. صوت عظيم يملأ فضاء المدينة، ويتبع هذا الصوتَ الأسطوري المهيب مشهدُ انفجار المرفأ، بالصوت والصورة.” يقول الراوي: “في هذا الجوِّ المهيب الغريب اللامعقول… يحرِّك الأستاذ (فيصل) يدَه، ويوجِّه الريموت نحو التلفزيون المحطَّم، ويكبس على زِرِّ التشغيل؛ فتضيء الشاشة، ويصير التلفزيون في كامل هيئته، يعود جديدًا، كأنه مشترًى للتوِّ.”
مجافاة حدث الانفجار لكل منطق، ومباغتته، وآثاره المزلزِلة على البَشر، استدعت تلك التقنيات، التي تتسق ولا منطقية الأشياء والعلاقات، كما تحمل في طيَّاتها تقنيات فن السينما، وقُدرتها على ضَمِّ عناصرَ متباينةٍ داخل مشهد واحد، وأيضًا تفعيل قدرات المخيَّلة بما يوازيها ويحققها من التقنيات السينمائية المتطوِّرة.
وتتراوح لغة هذا النَّص بين مستويات متعددة، الفصحى واللهجات اللبنانية، ولُغته في المجمل تقريرية، لا تخلو من بعض المجازات أحيانًا، وخاصة في وصْف الانفجار المروِّع، وآثاره على البَشر والمدينة.
لغة الفجيعة، ومفردات الدمار، وانتهاك الإنسان، حياته وموته، مثل مشهد الجرذان التي تلعَق جسد الفتاة، التي غرقت في دمائها بعد الانفجار، أو مشهد الأم التي تحزُّ رقبتها على لوح زجاج بعد موت ابنتها، تموت (جِنِي)؛ فيصف الروائي حالَ أبيها، يقول: “وإذا بصوته يهز المستشفى، ويتساقط زجاج كثير بفِعل قوَّته، وتتهاوَى أبواب متهاوية، وأبواب لم تتهاوَ بعد، وتتهاوى شبابيك متهاوية، وشبابيك لم تتهاو بعد.”
للغة في النص طبقات؛ فهذا التهاوي، ما بعد الانفجار، كان نتيجة لتهاوٍ عامٍّ سابق، حيث ستتهاوى أبوابٌ أكثر لم تتهاوَ، ومثلها الشبابيك، هذا التكرار، وهذا التكوين الأسلوبي يشي برؤى الكاتب قبل الانفجار وبعده، والذي يصِف حالة بيروت تحت الانفجار، وإنذارا بالمستقبل.
كما حملت اللغة – في بعض الفقرات – السخرية المريرة، والاستنكار؛ يقول الراوي: “لا تدري (زينة) أننا في عصر حضارة الزجاج، التي تروِّج للشفافية. لم تنتبه (زينة) إلى أن البنوك جميعها من واجهات زجاج، تسمح للمارة جميعًا بأن يروا ما في الداخل. لا شيئًا خفيًّا إذًا في شئون المال. كل شيء واضح ويمكن رؤيته بالعين المجرَّدة من الخارج. الشفافية عدوَّة الفساد. والشفافية عدوَّة الشك طبعًا، وقد انتقلت للبيوت، شقق البنايات الحديثة، ينفجر فيها ضوء النهار، لأن حيطانها زجاج، … لم تَدْرِ (زينة) أن زجاج الشفافية والطُّهر انهارَ على الناس جميعًا، وقتَلهم قتلًا همجيًّا يندر مثيله.” ، فتلك هي اللغة التي تلتقط علاقاتٍ بين الموجودات الحياتية، والقِيَم والمعاني، فرغم شفافية الزجاج يتوفر انعدام الصِّدق، علاقات تُحيل لنوع من الرؤى المغايِرة لكشْف أشكال الحياة وتحوُّلاتها. ولعلَّنا نلحظ هنا طرفَي التشبيه في قوله واصفًا تداعيات الانفجار: “لأن المنطقة كانت أشبه بفوضى ما قبل إنشاء المنطق في كل شيء.” فالمشبَّه به هنا معنًى مفتوحٌ للتخيُّل، الذي قد يكون المنطق السياسي في لبنان، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي الثقافي، وهو ما يصدُر عن كاتب يصِف اللغة بأنها: تَقرأ الواقعَ على هواها.