دكتور أماني فؤاد تكتب..الرجوع هاجسُ كُلِّ مَن يغادر
تترك الحروب والنزاعات – وما تسبِّبُه من نزوح وشَتات، وحَيرة بين الهُوَيَّات المختلفة – تشوهاتٍ غائرةً في النفْس البشرية، وفيما لا يدركه مشعِلو الحروب، أو بالأحرى يتجاهلونه؛ ترسِّخ لجروح عميقة لا تلتئم مهما بدا جسد الفرد سليمًا ظاهريا، كما لا يستطيع الزمن مهما امتد أن يطبِّبَها.
تغنِّي (ليلى) “العراقية – الفرنسية” بالعربية، التي سعت بدأب لتعلُّمها في فيلم “من عبدول إلى ليلى”:
اسمي فلانة/ كالريح أمشي/ عيوني عراقية، عربية/ روحي عراقية بقلْب أبيض في زمن أسود/ حزني من الموصل، بغداد، غزة، دمشق/ لملمت أشجاني بحثًا عن ملجأ/ رفيقي ياللا نحن سويًّا كالريح سنمشي/ كالطير سنرجع.
(الرجوع)، الرجوع هو الهاجس المُلِح، الذي يسكن كل من يغادر وطنه، لغته، ثقافته، وموروثه، كل من يشعر بأنه عالق بين عالَمَين وثقافتَين، العودة إلى الأصول، والحنين إلى الأرض الأم، شيء بداخل كل إنسان حُر يرفض الجبر والعدوان، وانتهاك البعض لحرية البَشر وعيشهم الآمن، واغتصاب الأرض وثورات الأوطان، اغتصاب الحياة ذاتها، الرجوع هو اللحن الذي يظل يعاود تكراره في كيان وأذن كل من يضطر إلى الرحيل رغمًا عنه.
عُرض فيلم “من عبدول إلى ليلى” بمهرجان الجونة 2023 في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، إخراج، وكتابة، وتمثيل (ليلى البياتي)، التي تحمل الجنسيتَين العراقية والفرنسية، وفاز الفيلم بجائزة “نيتباك” المخصَّصة للسينما الآسيوية.
يدور الفيلم حول فتاة تفقد ذاكرتها بعد حادث سَير في ألمانيا، تتماثل للشفاء، ثم تبدأ في البحث عن ذاتها، ترمِّم جسدها وذاكرتها بالغناء والموسيقى والرسم، الغناء الذي تعلن – منذ الوهلة الأولى – أنها تعشقه، كبديل أفضل من الكلام، لكنها تشعر في أعماقها بشيء يناديها إلى الأب والعراق، تعرفت في ألمانيا على عدد من العرب المقيمين في أوروبا، هجَّرتهم الحروب المأساوية في العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها من دول، جميعهم يعانون المصير ذاته، حتى أن أحدهم أخبرها: إنه لم يعد يتأثر بالموت، الذي أصبح ملازمًا لقصصه وتكوينه؛ جَرَّاء الحروب التي عايشها؛ فتبكيه ليلى، وتبكي ذاتها، تنتحب على الجميع، ليلى الفلسطينية والسورية والليبية والسودانية واليمنية، تقرر السفر إلى فرنسا لزيارة أبيها الذي يرسل إليها أشعاره، وتعلم اللغة العربية، وإعادة الفحر في التاريخ.
تتجمع حكايات ومَشاهِد الفيلم الانتقائية، التي تتداعى بحُرية، وبأصوات متنوعة؛ لتفصح عن معاناة ليلى، بطلة العمل السينمائي، ليلى ابنة أب عراقي كان من أعضاء حزب البعث، نُفي مع صدَّام إلى القاهرة بعد اعتراضه على سياسات الحزب، وإيمانه بأن الديمقراطية هي الحل للكثير من مشكلات العراق والمنطقة العربية، ثم عاد إلى بغداد؛ فسُجِن وعُذِّب، خرَج من سجنه ليختفي فترة هاربًا في وطنه، ثم هاجر إلى باريس، التقَى عبدوك بفتاة فرنسية وتزوجها، وعاشا في الريف الفرنسي، خلَق عبدول وطنه العراقي هناك، زرَع الزيتون والنخل، الذي يحكي عِشقه له، يتلذَّذ وهو يصِف حركة سعْف رأس النخلة الراقصة حين تهُب الرياح، النخلة المحتفية بذاتها، يشبِّهها براقصة شرقية تتمايل مزهوة بحركتها الموسيقية، هذا العشق للنخيل الذي يمتد إلى العراق، الذي يخاتله طيلة الوقت.
تتوزع مَشاهِد الفيلم، الذي تروي أحداثه البطلة ليلى مع أصوات أخرى، مثل “عبدول” الأب، والأم الفرنسية، وبعض الأصدقاء، مَشاهِد للتوثيق، توثيق رحلة هذا التاريخ الطويل، واستدعاءات من الذاكرة، التي لم تزَلْ نشطة، ويتم عرْض هذه المَشاهِد بطريقة التداعي الحُر؛ أيْ ليس وفْق نمط تصاعدي لزمن الأحداث. كما تأتي بعض المَشاهِد الأخرى حوارية، مثلما يشرح لها موجِّه مصري- في القاهرة أثناء تسجيل الأغنية – معنى “I am somenone”، كانت ليلى تظنها: “أنا لا أحد”، فيوضِّح لها أن المعنى هو “أنا شخص ما، لي اسم لا يهم أحدًا، وعليكم التعامل معي كإنسان”. غنَّت كلمات أبيها بلكْنة غربية، لكنها مشحونة بالصدق والرغبة في الوصول إلى جذورها.
من أجمل ما راقني في هذا الفيلم، قدْر الوعي الذي يتسم به الحوار، الحوار بين الشخوص، أو حوار الذات مع نفسها، حيث تحكي ليلى عن أنها حُرة، لا تريد أن تعيش في حِضن رجُل، لكنها تريد العَيش في أمان، تغنِّي، وتتعلَّم العربية، وتغنِّي بها، تدرك ليلى ما تريد، تقول: “أحتاج إلى التواصل مع ما فاتني”، من تاريخ العراق، ومن اللغة العربية. بهذا الدافع الذاتي أحبَّت الكلام مع الناس في الشوارع في مصر، حيث تعيش أختها وحيث يقضي والداها فترة الشتاء، وأن تسمع الناس يتكلَّمون – على الرغم من الفضول المصري وأسئلتهم: من أين؟ تعيشين وحدك؟ متزوجة؟ – أو حوارها مع معلِّمتها، التي تدرِّبها على العربية.
يعتمد وعي ليلى على القدرة على الاستقلالية، وإدراك احتياجها العميق للرجوع إلى جذورها، وأحسب أن تربية هذا الوعي تتأتَّى من التعليم والثقافة الحقيقية التي تلقتها بفرنسا، الثقافة غير الادعائية.
وتعتمد تقنيات صناعة هذا الفيلم على تضافُر أنواع مختلفة من الفنون، حيث الأفلام المصنوعة بضَفْر الغناء والموسيقى والرقص والرسم.
لفَت انتباهي في الفيلم الرسومات التي تقوم ليلى بتخطيطها وتلوينها طيلة الفيلم، والتي عادةً ما تعبِّر عن امرأة بلا رأس، بلا ذاكرة، فتاة يخرُج من عينيها وجسدها خيوطٌ ممتدة، تتجه إلى لا طريق، الفتاة التي ليست ذات ملامح واضحة، حيث لا تركِّز عليها الكاميرا، ذات التوجُّه الذي اختارته المخرجة لملامح شخصية ليلى الواقعية، ملامح غير محدَّدة، تمد خيوطها للخارج، للتاريخ والواقع؛ علَّها تجِدُ هُوَيَّتها اللغويةَ والثقافية، وقد تلتصق بهما.
فحين تطمس أحداث التاريخ ذوات البعض، ممَّن عانوا ويلات النزاعات والحروب، وتتسبَّب في تشظِّيها وتشتُّتها؛ يدافع الإنسان عن وجوده، ويتشبَّث بجذوره، يوجد معنى ومسوِّغ لوجود له هُوَية خاصة.
كما تجدر الإشارة إلى أن الفيلم لا يعتمد على دراما صارخة، ولا التباكي على ما كان، قدْر ما يوضِّح بطريقة إنسانية فنية راقية قدْر العذابات، التي تترُك أثَرَها على البَشر، الذين تتفكك أوطانهم.
في هذا الفيلم الإنساني، الذي يعتمد على مهرجان من المُتع لأنواع فنية متنوعة “غناء ورسم وموسيقى”، تظهر بعمق آثار سياسات الانفراد بالسُّلطة المطلَقة، والقمع والتعذيب والنفي من الأوطان، آثار احتلال أمريكا للعراق، وكيف انطبع هذا على حياة البَشر البسطاء العاديين، حيث تتركهم هذه الممارسات بإعاقات متعددة، إعاقات نفسية عميقة تحفُر في الروح الضياعَ والخوف، وضبابية الرؤية، كما يتركهم الشتات مزدوَجِي الهُوَيَّات، يبحثون عن أصولهم التي تخاتلهم؛ لكنهم لا يعرفون عنها شيئًا، يشعرون بعدم الأهمية التي تجسدها الأغنية، التي ظلَّت تتردد طيلة الفيلم: “أنا لا أحد، أنا لا أعرف الحقيقة من الوهم.”
تتعجب أم ليلى، المدرِّسة، من عدم تدريس اللغة العربية في المدارس الفرنسية، على الرغم من كثرة أعداد الجاليات العربية، مقارنة بلُغات تدرَّس في فرنسا كالإسبانية والبرتغالية. وتشير إلى أن هذا النقص، يربك جيلًا جديدًا يجهل جذوره جهلًا قد يغذِّي العنفَ. كما تشير الأم الفرنسية إلى إن أبناء العرب في باريس يتعلمون العربية عن طريق شيوخ الدين، وفي نطاق حفْظ الآيات وبعض التفسير البسيط، لا يتعلَّمونها بتتابعها ومنجَزها الحضاري؛ لذا لا يشعرون بانجذاب إليها، كما أنهم لا يشعرون بتضمُّنها لقيمة كبرى، لذا أصبحت الأجيال الثانية والثالثة غير مهتمة بها.
ما دفَع الحيوية – في هذا الفيلم، في اعتقادي، رغم عتمة مَشاهِده، ومأسويَّتها العميقة، واعتمادها على التوثيق للأحداث التاريخية، التي حدثت بالفعل، ويمكن توقُّعها – غِنَى الصورة، وتنوُّع الإيقاعات والأغاني، التي تشكِّل بنية السيناريو السينمائي ذاته، وأيضًا المَشاهِد التي ترسم فيها ليلى نفسها، وتستحث ذاكرتها العودة والقدرة على البوح، فتضرب بفرشاتها في كل الألوان، كما أنها في أحد المَشاهِد تنشب أظافرها في اللوحة وألوانها، في الفراغ والمظلل؛ لتحفُر قِصتها، وحكايات البشر، الذين عانوا من الشتات والهجرة عن الأوطان، بأجيالهم الأولى والثانية، وربما الثالثة. كما أنَّ الانتقالات المكانية والزمنية السريعة، والتقافز بين الحكايات بتعدُّد الأصوات؛ أعطَوا الفيلم حيوية ودهشة تجعل المُشاهِد منجذِبًا للمتابعة، ومأخوذًا بهذا التنوُّع والثراء في القوالب الفنية.