آراء حرة

دكتور  أماني فؤاد تكتب..بافتراض أنها رواية أصوات.. “طوفان الأقصى”!!‏

 

 

لو تخيَّلنا أن روائيًّا شرَع في كتابة نَصٍّ سردي عن أحداث فلسطين الأخيرة، ‏منذ عملية “طوفان الأقصى”، واعتمد على تقنية رواية الأصوات المتعدِّدة، أيْ ‏التي يقوم بسَرْد الأحداث فيها مجموعة من الشخصيات مختلفة المَشارِب ‏والأيديولوجيات، شخصيات مَحلية وإقليمية وعالمية، أحسب أن البعض منهم ‏سيتحدَّث عن العملية باعتبارها مقاوَمة مشروعة، بَلْ واجبة؛ للتخلُّص من ‏سيطرة المحتَل الإسرائيلي، وتحرير الأراضي الفلسطينية. في حين قد تسميها ‏بعض الأصوات الأخرى – من الداخل الفلسطيني والعربي والعالَمي – مقامرةً ‏مجنونة، إهدارًا لحياة البَشر، واستخفافًا بالإنسان؛ فموت ثلاثين ألف إنسان، ‏وجرح ضِعفهم، وتشريد أكثر من مليون ونصف غزاوي، ونزوحهم من بيوتهم، ‏ودمار وتهدُّم بنية مدينة بكاملها أمرٌ غير يسيرٍ ولا منطقي. في حين تراها ‏شخصيات من حماس – والفصائل السياسية الدينية المنضوية تحت لوائها – ‏مقاومةً واجبة، مقاومة حرَّكت القضية على المستوى العالَمي، وأعادتها على ‏سلَّم الأولويات، كما أنها أظهرت الغطرسة الإسرائيلية على حقيقتها، من حيث ‏القُدرات العسكرية على أرض المعارك، حيث لم ينتصر أحد من الفريقَين، كما ‏لم ينهزم أحد. ‏

وقد يراها بعض الشخصيات من أهالي غزة كما تراها حماس، وينظر لها ‏الكثيرون – في غزة نفسها – على أنها سببٌ لدمار حياتهم وأمْنهم، وموت ‏أولادهم وذويهم، واحتمالية شتاتهم القادمة الأكثر وجعًا. وتراها شخصيات – ‏تجسِّد القُوَى الدولية السياسية المختلِفة – عمليةً إرهابية، ويقولون: إن ‏شعوبهم تتعاطف فقط مع قتْل الأطفال والنساء والشيوخ، والدمار الذي لَحِق ‏بكل أوْجُهِ الحياة، ولذا يساند السياسيون إسرائيل بكل الوسائل المُمكِنة. في ‏حين تذهب شخصيات دولية أخرى بإسرائيل إلى محكمة العدل الدولية؛ لارتكابها ‏إبادات جماعية، وهكذا ..‏

أحد شخصيات هذه السردية المفترَضة قد يتساءل: هل أصابت أعيُنَنا الغشاوةُ؛ فلَمْ ‏نَعُدْ نرى بوضوح ما يُحاك في الإقليم من خطط ممنهَجة، موضوعة بعناية من ‏قِبَل إيران، هل يتعيَّن عليها دائمًا ألا تكترث بالمدنيين، بل تسحقهم بدم بارد؛ ‏لينتصر وكلاؤها في البلدان التي تفرض سيطرتها عليها، مثلما فعلت بالعراق ‏وسوريا واليمن ولبنان، فماذا لو مات ثلاثون ألفًا من الأبرياء، الذين لا علاقة لهم ‏بالهيمنة والاستحواذ، ولا هوَس وعنْف ودموية الوسائل والأدوات، التي تمارسها ‏وتتخذها إيران لإعادة الحضارة الفارسية القديمة متصدِّرة المشهد، لتعيد صحوتها ‏وسيادتها على الإقليم؟

وقد يتساءل آخَر: هل من أهم أولويات إيران تدمير المدن والعواصم والحضارات ‏القديمة، كأنها تقتَصُّ لثأر قديم، وهي تضع يدَيها الاثنتين في قفازات من الحرير، ‏في حين ينوب عنها الوكلاء؛ مَن تمسَح أذهانَهم، وتُعيد شحْنها بالشعارات ‏والمقولات الرنانة حينًا، وحينًا آخَر بالعطايا وبَيْع الكثير من الأوهام، في كل ‏البلدان التي وضَعت يدها عليها، ثم في جولتها الأخيرة مع حماس في غزة – ‏فلسطين!؟

تنطلق إحدى الشخصيات قائلة: لماذا لم تصوِّب إيران – إن كانت صادقة – تجاه ‏إسرائيل مباشرة دون وكلاء، لماذا لم تنفتح بطن طائراتها مَرَّة واحدة لتُلقي بقذائفها ‏فوق إسرائيل، بكل إمكانات جيشها وحرَسِها الثوري، لقد مَللنا آلاف المرَّات من ‏سماع شعاراتها المكرورة بالسعي لتحرير القدس وفلسطين؟ ثم ماذا بعد الهيمنة ‏على خَمْس دول عربية كاملة، وتشكيل وكلاء مخلصِين بها، تتلاقى أهواؤهم مع ‏إيران؟ ‏

فيقول أحد الشخوص: لماذا لا يجب أن توافِق مصر على ترحيل أهل غزة ‏وحماس إلى سيناء، ويُصِر الشعب والقيادة على موقف واحد؟

لتجيب عليه إحدى الشخصيات: هل مِن العقلانية إدخال إيران عن طريق وكلائها ‏إلى الأراضي المصرية، وكلنا يعرف رغبات النفاذ، التي سعَت لها مرَّة بعد أخرى ‏للدخول إلى مصر، وآخِرها سنة حُكم مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، ‏حين تسلَّلت بعض العناصر الإيرانية لشراء المحلات التجارية والأراضي، ونَشْر ‏المذهب الشيعي في القاهرة، ألا يتعيَّن أن نفطن إلى الصِّلات والتوافُقات الوثيقة ‏بين حماس وإيران، هل مِن المنطقي أن يوافِق بعضُنا على دخول فِكر جماعة ‏الإخوان المسلمين لمصر ثانية، أو فِكر ومنهج المَلالي، بأيِّ شكل أو عن طريق ‏أيَّة جنسية!؟ ‏

ليجيب رأيٌ جمْعيٌّ وكأنه كورال يأتي من خلْف الأبنية: نتفاوض من أجْل ‏الفلسطينيين يجوز، نساعدهم إنسانيًّا نعم، لكن يتعيَّن ألا ننسى ما فعلته حماس ‏مِن قبْل في مصر وسيناء عام ٢٠١١ وبعدها.‏

ويتساءل آخَر: هل من المنطقي أن تفتح مصرُ بواباتِ خلافات ستستمر مع ‏الجانب الإسرائيلي للمَرَّة الرابعة والخامسة؟ فلو انتقل الفلسطينيون إلى سيناء ‏ستنتقل معهم حماس، ومن ثم نعود لندور في دائرة صراع أزلية، يتهاوَى فيها ‏اقتصاد مصر المُنهَك من الأساس، بسبب إرث حروب خاضتها مصر في ‏السابق من أجْل القضية الفلسطينية، واعتبارات أخرى؟

وتتساءل إحدى الشخصيات: هل ما أنجزته حماس – بعملية طوفان الأقصى – ‏بطولة؟ وتضيف: ما هو قدْر البطولات أمام مشهد أب يصرخ وهو يحمل أشلاء ‏أطفاله في أكياس بلاستيكية بعد القصف؟ ما هو منطق المقاوَمة أمام مشهد طفل ‏يحمل أخاه الرضيع في حقيبة مدرسته، وراء ظَهْرِه، بعد أن مات أمه وأبوه وكل ‏عائلته، كما دُمِّر بيته الذي كان يأويه، ما هو المنطق أمام موت وجوع الأطفال ‏والنساء والرجال وشعب بأكمله، ما هي المكتسبات الخيالية التي جَنَتْها المقاوَمة ‏بعد موت 30 ألف مواطن، وجرح أضعاف هذا الرقم، ونزوح أكثر من مليون ‏ونصف فلسطيني من غزة، في أقسى ظروف العيش؟

لينطلق صوت شخصية أخرى: ما البديل لكل هذا الموت والدمار، هل يَقْبَل ‏الوطنيون بالعيش مدى الحياة محتَلِّين ومدجَّنين، مجرد بَشر تحت التحكم ‏المباشر، والغير مباشر من سُلطة الاحتلال، تُغتصب أراضيهم يومًا بعد آخَر، ‏وتُبنى فيها المستوطنات، والأراضي في الأصل فلسطينية، لا يستطيعون السَّفر، ‏ومن يسافر لا يُسمح له بالعودة، يُعتقل بعضهم لأكثر من ثلاثين عامًا، تفتقر ‏حياتهم لحرية الحركة، ما الداعي من العيش تحت اغتصاب الأرض والحقوق ‏والحريات، الموت أرحم من هذا الجحيم تحت الاحتلال؟

لتقول شخصية أخرى: وهل ترى ما فعلته حماس بطولة، يتعيَّن على الجميع ‏الإشادة بها، هل لكي نكون عروبيين ووطنين ومناصرين للقضية الفلسطينية علينا ‏التسليم بما لا يتَّسِق مع الإنسانية؟ هل من المُستبَاح الإغارة على المدنيين من ‏الإسرائليين وقتْلهم وأَسْرهم وترويعهم، وأيضا دون مراعاة حياة أهل غزة أنفسهم، ‏حيث لم تؤمِّن حماس ولا فصائلها ولا قادتها خططًا للحفاظ على أرواح أكثر من ‏مليونَي مواطن، وهي تعلم جيدًا أن العدو الذي تواجهه تنعدم في حساباته حقوق ‏الفلسطينيين المدنيين، ولا تأخذه رحمة بهم، بل تظَل من مصلحته إبادتهم ‏جميعهم، عدو يعتمد على أقوى الدول التي تدعمه بالأسلحة وتحرِّك من أجْله ‏أساطيلَها، لأنها مَن زَرَعَتْه في المنطقة، ألم يكن بإمكان حماس بجوار أكثر من ‏‏800 كيلو متر أنفاق قامت بحفرها، إقامة بعض الملاجئ للمدنيين، وتأمين ‏كميات من الأطعمة والدواء لأهالي حماس!؟ هل الدولة الفلسطينية في عُرف ‏حماس هي أفراد فصائل المقاوَمة فقط، واحتياجاتهم اللوجستية والأمنية؟ هذه ‏المقاوَمة والفصائل – التي تتحدَّثون عن بطولتها – لم تحسب خسائر الأرواح، ‏ولا قدْر الخراب، ودمار مدينة بكاملها، وهدْم كل مؤسساتها ووسائل العيش بها!‏

‏ هل توقَّعت حركة المقاوَمة – حماس وفصائلها – أن تقتل وتَأْسِر المدنيين العُزَّل ‏من العدو، وتروِّعَهم، ثم لن يكون هناك رد فِعل من إسرائيل، رد فِعل عسكري ‏عنيف، سيطال الجميع، وأولهم سكان غزة؟ ألم تَرَ المقاوَمة إلا الاكتراث ببعض ‏المكاسب السياسية والعسكرية المحدودة، دون النظر لحياة البَشر، واستمرار ‏مقوِّماتها التي تحفظ أرواحهم وتبقيهم آمنين، دون النظر أيضًا لقدْر الدمار ‏والخراب الذي لَحِقَ بغزة، والذي يقول المراقبون: إن أكثر من 85 % من البنية ‏العمرانية في غزة قد تهدَّم؟

لتنطلق شخصية أخرى، وتقول: من العار عليكم الآن الحديث عن حماس على ‏هذا النحو، فهذا الوقت ليس لتقييم ما لحماس وما عليها، على الجميع أن يراها ‏باعتبارها المقاوَمة التي تملُكها فلسطين فقط. ليصيحَ شخص آخَر: كأننا حين ‏نتحدث عن حماس نخون العروبة والقومية والتاريخ؟ ما هو هذا الإرهاب الذي ‏تمارِسه الأغلبية حين ننتقد ما أقدَمت عليه حماس، وخاصة ما تسببت فيه من ‏قتْل ودمار ونزوح لأهالي غزة؟ ‏

لينطلق صوتٌ آخَر، يتحدث عن التفاوض، يقول: ألم يكن من الأفضل خلْق رأي ‏عام عالَمي بشأن قضية فلسطين، وشرْحها على كل وسائط التواصل الاجتماعي ‏بلغات عِدَّة، والإعداد لمبادرات سلام دولية تحضرها القوى العالمية المؤثِّرة؛ ‏ليعرِض الفلسطينيون مطالِبَهم، والسعي الحثيث للتوصُّل لصِيَغ عادلة يمكنها أن ‏تصل لحَلِّ الدولتَين!؟ ‏

هكذا هي الحياة التي تحتمل كل التناقضات والمتجاوِرات، وهكذا هي الرواية ‏التي تنبني على تقنية تعدُّد الأصوات، أو تعدُّد الحقائق، الحقيقة التي تتعدَّد ‏بتعدُّد الناظرين إليها. ونستكمل مقولات أطراف الصراع وتبايُنها في المقال القادم.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى