دكتور أماني فؤاد تكتب..طه حسين روائيًّا
قد يتساءل البعض لماذا يلجأ بعض المفكرين الكبار، والنقاد، والفلاسفة ــ في الغرب والشرق ــ إلى كتابة السرد، الرواية والقصة القصيرة، وأحيانًا المسرح، وبعضهم قد يمارس الشعر وأشكال من الفنون التشكيلية، وقد يتفرَّع التساؤل لبُعد آخَر، هل يمثِّل هذا النوع المختلف من ممارسة الإبداع ثنائية في حياة المفكر والناقد والفيلسوف؟
وأحسب أن هذا التنوع في الإبداع أمر طبيعي ووارد، حيث يقع كل المنتَج الفكري الفلسفي والنقدي في نطاق الإبداع أيضًا، وتأتي الكتابة السردية – لدى بعضهم – لإرضاء رغبة الكاتب في الإبداع الحيوي، الذي يتخلى نسبيًّا عن الأكاديمية والتنظير، فيكتب السرديات لاستكمال مشروعه الإبداعي الكبير، ولا أتصور أن في هذا النهج ثنائية، فأحيانا ما فكرت في أن بعض المفكرين يريدون أن يشهدوا أفكارهم التنظيرية ومقولاتهم النقدية منغمسة في نَصِّ الحياة، الأفكار وهي محمولة على شخصيات من لحمٍ ودماء وعواطفَ، ووفق صراع متعدد المحاور، يطرحون فيه القِيم المطْلَقة، الحب والكراهية، الموت والحياة، العدالة، الحريات، الموروثات، ضمن مجال الديناميكية الحياتية، ووفق رؤية مكتملة للوجود.
يسترجعون أيضا في سردياتهم الزمن ويستحضرون الماضوية، كما يستكملون بمخيلتهم وتصوراتهم بعض الفجوات الزمنية، ويعيدون النظر في التاريخ وتأويل المحكيات والأساطير، ويختبرون حقيقتها، كما يستكملون بنيات شخوص التاريخ، ويسلِّطون الأضواء على مساحات لم تكن ظاهرة في تلك الشخصيات، أو لم يُلتفت إليها. وأحسب أن كل هذا، وأكثر، فعله باقتدار (طه حسين) المفكر والناقد والمبدع الروائي في كل رواياته وقصصه.
فلقد تضمَّنتْ مسيرة طه حسين سِت روايات، والكثير من القصص القصيرة، أشهرها رائعته “دعاء الكروان”، أتذكر أنني قرأتُ أنه بَعد كتابة هذا العمل، وتحويله لفيلم سينمائي، تساءل الكثيرون ما هذه القدرة الفائقة عند طه حسين في تصوير الواقع ونقده، ومساءلة المجتمع، وفي جرأة اختيار موضوع الرواية؟.
في “على هامش السيرة” الذي كُتب بين 1933-1943 في ثلاثة مجلدات، والذي قدَّم فيه الكثير من القصص المأخوذة من كتب السيرة النبوية بطريقته غير التقليدية، بنى طه حسين عالَمًا سرديًّا وروائيًّا بين السيرة والمتخيَّل، وطرَح الأفكار التي يختبر فيها المبدع تلك الإمكانات القُصوى، التي تستدعي أسئلة الفكر والتراث، وتاريخية الحوادث أو أسطوريتها، وهو إذ يفعل هذا؛ يرمي – بأفكاره تلك – إلى لَفْت انتباه القراء والمثقفين على وجْه الخصوص لإعادة التفكُّر في مقولات تجربة هذا الحاضر المعيش.
لقد استطاع طه حسين في جُل سردياته، سواء الروايات أو القصص القصيرة، أو حتى السيرة الذاتية أو الغيرة، أن يشكِّل عوالِم سردية متنوعة، ما بين الراوي العليم، والسرد عن طريق الرسائل، والراوي المشارِك، وفيها يشكل ويبني شخصياتٍ روائيةً إشكالية، ذاتَ خصائصَ فريدةٍ ومركَّبة، فكلنا لن ينسى (آمنة) في دعاء الكروان، أو صديقه بطل رواية “أديب”، أو هو ذاته في “الأيام” 1929-1955، هذه الشخصيات تبقى علامات متفردة في التكوين البشري، لطبيعتها المتفردة، وتراكُب أقدارها ودراميتها.
كما برع طه حسين، في جرأة، منذ أول كتاباته في تقديم نقْد تشريحي لثقافة المجتمع المصري، وكشْف مفارقات هذا الواقع، وألوان ظُلمه، الذي يقع على شرائح من المجتمع، وخاصة المرأة، في ظِل ثقافة عامة راكدة المفاهيم والموروثات، وأوضَح في أعماله كيف أننا بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في العادات والتقاليد، والمقولات الاجتماعية، مع اختبارها وقياسها مع قِيم العِلم والعدل والمساواة والتسامح وحقوق الإنسان، وتعرَّض أيضًا في مروياته لأثر الجهل والفقر على شرائح واسعة من البشر، وأشكال التديُّن الشعبي، وإيمان المصريين بأولياء الله الصالحين، وبتسليمهم بكل ما جاء في الخطابات الدينية السلفية، دون إعمال للفكر النقدي، وأشار للمركزية الصارخة بين العاصمة وباقي مدن القُطر المصري، وخاصة في الصعيد، مثلما جسَّد في عناصر المكان، والزمن، والطقوس الخاصة لرواياته “شجرة البؤس” 1944، و”دعاء الكروان” عام 1934، و”المعذبون في الأرض” وأيضا سيرته الذاتية “الأيام”.
كما نسَج في “الحب الضائع” مفهومًا أكثرَ اتساعًا للعواطف البشرية، واختلاف الثقافة وأثرها في التوافق مع متغيرات الحياة وتقلُّباتها الدرامتيكية.
في جُل سرديات طه حسين يعتمد على لغةٍ بسيطة، منغَّمة، تحتفي بالحوار الذي يصوِّب لتجسيد دراما واضحة، ولم يلجأ طه حسين لأشكال من السرد الروائي التجريبي، الذي قد يُستغلق على بعض التلقي؛ لإيمانه أن لديه رسالة فكرية، عليه أن يقوم بتوصيلها، ونشْر حيثياتها في صورة فنية وذات دلالات واضحة؛ لغة تتراوح بين التقريرية والاستعانة بالمجازات الجميلة الموضِّحة لأفكار شخوصه وحالاتهم الوجدانية، لغة منغَّمة وقريبة من النفس؛ تخلُق التواصُل المَرجوَّ بين الإبداع والتفاعُل معه.