آراء حرة

دكتور أماني فؤاد تكتب..فن المعمار بين القديم والمعاصر، التجاور دون مفاضلة

 

 

‏ في الثامن من أكتوبر الماضي، دُعيت للحديث عن أدب حرب أكتوبر في ‏مكان أثري عريق، يُدعى “بيت الست وسيلة”، “بيت الشعر” حاليًا، وهو ‏بيت أثري يقع في منطقة مصر القديمة، للبيت معمار مميَّز يعود إلى ‏العصر المملوكي، بُنِي منذ أكثر من 250 عام؛ حيث المشربيات، ‏والأبواب الخشبية الصغيرة المشغولة، التي تُفتح للداخل، ثم باحة متوسطة ‏المساحة للاستقبال، مزخرَفة الحوائط بالنقوش الإسلامية الملوَّنة، التي ‏تتكرر وحداتها الهندسية، من أشكال النباتات المختلفة. تتضمن هذه الباحةُ ‏حجراتٍ صغيرةً، ثم تليها باحة أخرى كبيرة، تُطِلُّ على الأفق المفتوح دون ‏سقف؛ لتضْمن لأهل البيت قطعة من السماء، وتتوسطها فسقيَّة بها نافورة ‏مياه مزخرَفة، وبعض الأشجار الخضراء الموزَّعة داخل البيت، حيث ‏الماء، والخضرة، والأفق المنفتِح على السماء، كما أن هناك قاعةً مزيَّنة ‏بالقُبة المزخرَفة بأجمل النقوش الملوَّنة، عدا المشربيات الخشبية المشغولة ‏بوحدات هندسية فريدة، تزيِّن شبابيك البيت جميعه، وحجرات الدور الثاني ‏حيث الحرملك، وبعض الشرفات التي تُطِل على الباحتَين. ترَك لي هذا ‏المكانُ التاريخي أثرًا داخليًّا، لم أحدِّد كُنْهَه الغامض، حيث امتدت خيوطٌ ‏شفيفة من المكان بعمقه التاريخي الممتد إلى ذاتي، خاصةً وأنا أتحدَّث عن ‏انتصارات المصريين في ذِكرى حرب أكتوبر. ورغم أن البيت بحاجة إلى ‏ترميم فني متخصِّص؛ يحافظ على الأثر الفريد، ويُبرز جماله المعماري، ‏ويعيد رونقه، فإنه يُضفي طابع العراقة على كل الأنشطة الثقافية التي تقام ‏به، كما يشي بقدرتنا على البناء والبقاء في الزمن إن أخلصنا، حيث ‏الإصرار على الفعل والانتصار، ومقاومة التلاشي والهزائم.‏

وحين تساءلت عن توقيت الانتهاء من الترميم، ذكر الشاعرُ والكاتب ‏‏(سامح محجوب) مدير بيت الشعر والدينامو المثقف: إننا بحاجة ماسة ‏إلى إعادة النظر في منظومة الإدارة في مصر؛ لنتمكَّن من القدرة على ‏الإنجاز السريع، وأضاف أنه يمكن التغلُّب على نقْص الميزانيات، بالإدارة ‏الجيدة والتنسيق بين الجهات والمؤسسات.‏

‏(2)‏

في الحادي والعشرين من أكتوبر، من الشهر ذاته، شاركت في ملتقى ‏الرواية العربية، وكنت قد تلقَّيت دعوة من مؤسسة “منتدى أصيلة” في ‏المملكة المغربية، من معالي وزير الثقافة والإعلام السابق دكتور محمد بن ‏عيسى، ومنسِّق الملتقى د. شرف الدين ماجدولين؛ للمشاركة في محور ‏‏”الرواية العربية والخطاب البصري”، حيث عُقدت جلسات المؤتمر بمَقر ‏جامعة المعتمد بن عباد المفتوحة، ومنذ أن تطأ قدماك أرضَ المكان؛ ‏تشعر بالتاريخ الممتد يحتويك، ويظلِّلك ذات المعمار الشرقي القديم، ‏بالفلسفة ذاتها، التي شيَّدت “بيت الست وسيلة”، تخطو منذ عبورك فوق ‏فسيفساء من السيراميك باللونين الأزرق والأبيض المعشَّقَين، فسقية الماء ‏نفسها، والأشجار، النقوش الإسلامية ذاتها، التي تعتمد على الأشكال ‏الهندسية التجريدية، ووحدات الشكل النباتي التي تتكرر على الجدران، ‏وبراعة النحت في الرخام والجص والخشب.‏

تشعر أن يدك تريد أن تمتد على كل مساحة وقطعة أثرية، الأرضيات ‏المشغولة بالسيراميك اليدوي الملوَّن، الجدران المنقوشة بأيدي التشكيليين ‏القدماء، الأبواب المقوَّسة، المقابض الحديدية؛ لتربت عليها وتحنو، تحثها ‏على الاستمرار ومقاومة الزمن، والتمسك بكياناتها قائمة وزاهرة.‏

تجد ذاتك تتطلع إلى الجدران في شغف؛ لعلها تسرد عليك حكايات من ‏عاشوا هنا، تُطلق أنفاسهم التي اختزنتها، صور أجسادهم التي تحركت بين ‏هذه المساحات، تستدعي مخيلتك الكثير من القصص الدرامية، التي رُويت ‏لنا عبْر كتب التاريخ، وأعلام وتراجم تلك الفترات الزمنية، ينساب إلى ‏ذاكرتك ما قرأت، تغيُّر أحوال حيواتهم، تردُّد أبيات الحب وعذابات الهجر، ‏رغد العيش أو العوَز، النزاع على المُلك والقيادة، وقصص الصراعات ‏الدامية وفصْل الرؤوس عن الأجساد، كل المآسي التي دُوِّنت في الكتب.‏

تتنفس وأنت في تلك البيوت التاريخية هواء ثقيلًا ورطبًا، يعبُر إليك من ‏جدران الماضي؛ فتشعر بأنك امتداد وجزء في شجرة إنسانية وارفة، محمَّل ‏بكل هذا الإرث البشري الحضاري؛ فتزداد ثقلًا وجدانيًّا، ربما لا تقبض ‏عليه واضحًا، لكنه شعور بالاتساع.‏

‏(3)‏

‏ قبل سفري للمغرب، كنت في زيارة لإحدى دول الخليج؛ للمشاركة في ‏فعالية ثقافية، مقامة في أحد المناطق المعمارية الحديثة المخصَّصة ‏للثقافة، متعدِّدة المباني والطرُز، وهناك تجولت بأحد المولات التجارية ‏الأحدث، فلاحظت انطلاق هذا المعمار المشيَّد بأحدث التقنيات الهندسية ‏من فلسفة أخرى، حيث الإبهار، والإعلان عن القدرة والرفاهية والفخامة، ‏جمال آخر شاهق، رغبة صناعة الوجود المميَّز – وربما التنافسي – ضمن ‏الكيان الدولي والإقليمي، حيث صناعة الحاضر والمباهاة به، تجلي ‏للفخامة والثراء اللذين ذكَّراني بفن عصر الباروك بطريقة أو أخرى، جَمال ‏التفاصيل ورُقي تنوعها وانفتاحه على ثقافات مختلفة؛ لكن في إطار مادي ‏يعلن عن ثرائه بصخب.‏

في هذا المعمار تشعر بمعطيات التحديث والمعاصَرة، قِيَم جديدة، تنحو ‏إلى التسلع والاستهلاك والبذخ، رفاهية الاستطاعة، وتجريب وارتياد التنوع، ‏تنوُّع شاسع في الديكورات الفنية، في السلع والأشياء أيضا، حيث تتحدث ‏المقدرة والتعدد عن نفسهما، ويعلنان عن التنافس، هوَس الأجمل والأكمل ‏والأكثر ثراءً، الأكثر قدرة على الامتلاك والاستطاعة، ويظهر على سمات ‏هذا المعمار الاتساع، فخامة الأبواب وضخامتها، تنوُّع الديكورات متعددة ‏التيمات: الشرقية والغربية، مجسَّمات وأنواع من الفنون التشكيلية، التي ‏تنتمي لثقافات غربية وشرقية ومتوسطية، تتوزَّع على تصميم مراكز ‏البرَنْدات العالمية، ومحلات الأطعمة التي تجسد هي الأخرى التنوع ‏الثقافي، كما يبهرك التنوع في الخامات والمواد الطبيعية، التي تصنع أنواعًا ‏من الكولاج المبهِر، لا يوجد في هذا المعمار حجُب أو حرملك أو ‏سلاملك؛ بل تتسع الأماكن، الشوارع والممرات والمحلات والمطاعم، ‏الحدائق والشرفات والنوافذ، النوافير الراقصة، الإضاءة الصاخبة الخاطفة ‏للأعين، النباتات الرائعة المستورَدة من مواطنها الأصلية، وترتفع الجدران ‏الزجاجية؛ حيث يرى المراقِب من خلْفها العالَم متسِعًا وشفافًا، متعدد ‏التيمات والثقافات، كما تزيِّن الأسقفَ أجملُ القباب متنوعة الزخارف، ‏تحمل توقيع أهم شركات البناء والتشييد العالمية. ‏

تشترك القباب في المعمار القديم والجديد؛ لكن الاختلاف يتبدَّى في ‏الفلسفة الكامنة بين البناءات القديمة والحديثة نسبيًّا، ففي القديم اعتُبرت ‏القُبة هي الله، هي الكون، هي الدائرة التي يملأ سبحانه كل أركانها، وفيها ‏يدور الإنسان، في ملكوته ورحمته ومعيَّته، القُبة حديثًا – في المعمار ‏المعاصر- تعلن عن قدرات الإنسان، تطويره للموروث، تمكُّنه من تشييد ‏الأفضل والأجمل، دون الوقوف للربط بين العقيدة والمعمار، فقط تُعلن عن ‏الثراء الذي بإمكانه شراء كل شيء، وامتلاكه، واستهلاكه، ثم البحث عن ‏الأحدث.‏

‏(4)‏

ودون أيِّ مفاضَلة بين المعمار التاريخي أو المعاصر، حيث أرى التجاور ‏أمرًا طبيعيًّا، فكلاهما، القديم والأحدث، يهَبان مشاعرَ وانطباعاتٍ مختلفةً، ‏ويعبِّران عن متغيرات العصور، أحدهما يحدِّثك عن الفلسفة الروحية الكامنة ‏في تشييده، وتطويع الخامات، والفنون الزخرفية؛ لتتَّسق مع عقيدة ‏المعماري، ومع الثقافة الاجتماعية المرتبطة بالعقيدة، القائمة على الحجب ‏والستر، حيث الرحلة في التاريخ، في مسارب الزمن وإمكاناته المادية التي ‏مهما توسَّعت؛ محدودة.‏

في المعمار القديم، غالبًا ما تلحظ ضِيق المساحات، واختناق الغُرف، ‏صِغَر الأبواب، وعدم انفتاحها على الطبيعة إلا بحدود، كما تبدو الطرُق ‏المؤدية لهذه البيوت صغيرة ومتعرجة، تواجهك محدودية معطيات الحياة ‏وإمكاناتها.‏

يُشعِرك المعمار الحديث – رغم كل جمالياته وفخامته واتساعه – أنه يتعيَّن ‏عليك أن تلهث طيلة الوقت؛ لتتمكن من عَيْش هذه الحياة، والاستمتاع بكل ‏تلك الوفرة، والسعي لامتلاك هذه السلع المتعددة، والتمتع بها ولو لحظيا. ‏

تسعى الدول الحديثة – الغنية بمواردها – لصُنع وجود فارق في اللحظة ‏المعاصرة، تعلن عن نفسها وقدراتها من خلال المعمار، تنافس؛ لتأخذ ‏مكانة الأفضل، بينما تستثمر الدول العريقة موروثها الحضاري المعماري، ‏وتدفع به حياة متجددة، ومن خلاله تسعى للنظر إلى المستقبل، ترسِّخ هُوَية ‏أصيلة، لكنها قادرة على استيعاب التعدد، والتحديث، توفق أحيانًا، ويخفق ‏بعضها في مساعيه، وكلاهما يصنعان ثراء بشريًّا يترك علاماته على ‏الوجود، فالعيش على الماضي فقط يُفقدنا المساهمة في الحاضر، ‏والمستقبل. وعيش الحاضر باعتباره استهلاكًا وتملُّكًا للأشياء فقط، يفقدنا ‏الأبعاد الروحية التي تميِّز الإنسان.‏

بقي أن أشير إلى أن فنون المعمار، وكل ما شيَّده الإنسان بتنويعاته ‏الهندسية، وتنوُّع خاماته وفنونه، القديمة والحديثة تظهر آثارها في أيِّ نَصٍّ ‏روائي؛ وذلك لبديهية تجلِّي تقنية المكان في السرد، فكل معمار خاص ‏بالمكان، يؤثِّر بشكل من الأشكال على البشر، يتفاعل مع البنية ‏السيكولوجية للشخصيات. ووفق فلسفته؛ تتأثر ملامح الشخصيات ‏وطبائعهم الداخلية والخارجية، كما يفصِح المكان، وشكل المعمار، عن ‏طبيعة الحياة الاقتصادية للمجموعات البشرية، وطبيعة علاقاتهم ‏الاجتماعية، رؤاهم للمستقبل، أو الاختناق بماضيهم.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى