آراء حرةعربي ودوليفن وثقافة

دكتور أماني فؤاد تكتب.. قصة جديدة (في عالم آخر)

دعاها للجلوس في حجرة الموسيقى؛ أراد أن يُسمعها مقطوعة يعشقها لشوبان، ‏تتلفَّت؛ فتَجِدَ نفْسها تملأ جدران الغرفة الأربعة، أشار لفوتيه أحمرَ ‏وحيد من الجلد، يتوسط المكان؛ فجلست. أدار الجرامفون بمقطوعة “عالَم آخَر”، ثم جلس ‏إلى اليمين على مقعد خشبي صغير يكاد لا يُرى، تشعر بالمتعة حين تنفذ ‏الموسيقى من مسامها إلى جوهرها، ومنها إلى الفوتيه الضخم، وتكوين ‏المساحة العجائبي، وكل مستنساختها التي على المرايا.

بمجرد انتهاء المقطوعة؛ قالت: تليق بك هذه الغرفة، طالما عشقتَ حضورك المهيمن على كل شيء، أُرجِّح أنك مَن صمَّمها. أومأ بالإيجاب، ثم قال: منذ شهور تنحني المرايا معتذرة كلَّما دخلتها، وتنتحب الجدران، فكياني صار أخفَّ من أن ينطبع فوقهما. 

توجَّهتْ نحوه، قبَّلت رأسه تطمئنه: “لا عليك”، تلك ‏هي الحياة، فلكل شيء “عالَم آخَر”؛ وجود قد يكون مفارقًا لأسئلتنا المعلقة، ربما بعض من صور الحياة التي نعرفها، باغتته ما الكيان الذي تود أن تكونه لو أن بعثا آخر هناك؟

 ضحك ساخرًا، ثم قال: هكذا الحالمون، يرفضون النهايات، فيشكِّلون هذا الآخَر، ثم يصدِّقونه، لا شيء بعد الحياة.

‏طالما شغَلها “الما بعد” الذي ينكره تماما؛ تُرى ماذا بعد النهاية؟ تمنت كثيرًا لو أن حياةً أخرى ‏هناك، قد يجد الذين ظُلموا في هذا العالم بعضَ العدل. 

تتعجب مما تقرأ أحيانا، كيف سنزداد حضورًا في الموت، على أيِّ منطق يستندون!؟ فالجسد ليس حجابًا، أسقط الفلاسفة تلك الثنائيات منذ زمن، على الأرجح تختلف الاحتياجات هناك؛ نحو التوق نهرول.

‏الآن مِرارًا تحاول استدعاءه؛ لتسأله: ماذا وجدتَ؟ بعد انتظار طويل، صرخت من فوق قمة الجبل البعيد تناديه أن يجيب، دقائق وسمعت صوته عميقًا ينفذ إليها، لا تعرف من أين يأتي، أَمِن السماء أم الكهوف السحيقة!؟ ربما لا يأتي إلا منها.‏

قال: ستجدين ما اعتقدتِ فيه. استوضحته، فلطالما نفرت من العيش في الأوهام التي نخلّقها لأنفسنا، قال: إنه سابح في غيم أبيضَ بلا نهاية، ‏كلَّما رفَع يديه ليتحسَّس شيئًا؛ لم يرَ أصابعه، لا شيء سوى فراغ شاسع، ازداد كيانه خفة ولم يَعُد مرئيًّا على الإطلاق، قال: لا شيء هناك. 

‏قبل رحيله سألته عن الغرفة التي صممها، مركزية الفوتيه الأحمر الكبير، ‏شوبان ومقطوعة “العالَم الآخَر”، عن وجْهه الذي يحتل المرايا والوجود من حولها، سألته عن الموت؟ يتعجَّب من أسئلتها التي لا تتوقف؛ يضع يده في مواجهتها ويقول اهدئي: في هذا الفراغ الهائل ستجدين ما اعتقدتِ فيه، لا أحد يفنى، لا أحد يتكرر، في سديم شاسع نسبح، لا نموت ولا نحيا، في الكون نهيم.

حين تفكر فيما اعتقدت؛ وجدت أنها لم تصمم غرفتها الخاصة، لم تؤسس لمثل هذا المقعد المركزي الراسخ، لم تشعر بهيمنة وجودها على أيِّ شيء، لم تعشق وجهها، فضلت لو أنها بعض البحر، بعض النخل، بعض الريح أو البرق، قمة الجبل البعيد، تمنت كثيرًا لو أنها في حياة أخرى كانت عدلًا، محبة، سؤالًا يتوالد، بعضًا من نور يضيء حلكة طريق مظلم. 

فكرت لو أنها بعض الموت، ماذا ستفعل؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى