دكتور أماني فؤاد تكتب..لماذا لا تُكتَب ملحمة أكتوبر برؤى جماعية!؟
بعد مرور خمسين عاما على نصر أكتوبر يصبح لزاما أن تظل روح هذا النصر في وعي الأجيال الجديدة، وأن تبقى روحه تعيش ضمن معطيات الهوية المصرية، وتظل أسباب ودلالات هذا الانتصار في الوعي الجمعي المصري يقظة وحيوية، يتعين علينا الآن أن نتلافي القصور الذي حدث في كتابة تلك الملحمة، حين لم تُقنِع تلك التحولات السياسية – التي خاضها السادات بموضوعية وعقلانية ـــ المثقفين ولا المبدعين المصريين والعرب قبل الحرب وبعدها، فارتبط نصر أكتوبر بقائده الذي وضع الحلم الذي نسج طبقاته عبد الناصر ضمن معايير الواقع، الزعيم الذي طالما دغدغ آمالهم المحلقة، وتعامل مع الواقع بمنظور يعتمد أكثر ما يعتمد على الاستعراض، والخطابات العاطفية الصاخبة التي لم تنتج سوى النكسات على أصعدة متعددة، أدركوها لكن كرهوا أن يعترفوا بها، شعروا بالاهتزاز بعد مفارقة الأحلام أو الأوهام السابقة، فأعلنوا رفْضهم؛ وهاجر بعضهم أو نُفِي، واعتُقِل البعض الآخَر، ولذا لم يتعاملوا مع نصر أكتوبر بما يليق به، لأنه من وجهة نظرهم لم يكتمل منذ بدأ السادات التفاوض مع العدو؛ خوفا على أرواح الجنود في الجيش الثالث، ولمنع العدو من دخول العمق المصري، هذا مع الشعور بالخطر بعد تدخل أمريكا في الحرب وإمداد إسرائيل بالطائرات والأسلحة، في جسر جوي مفتوح.
كما رفَض أكثرهم مبادرة السلام، واستاؤوا من قرارات الانفتاح، الذي تحوَّل على عكس ما أراد السادات للانفتاح الاستهلاكي “السداح مداح”، وهو ما قلَّب تربة الطبقات المصرية، وأفرز على السطح بعض الفئات الطفيلية، التي غيَّرت كثيرًا من منظومة القِيَم المصرية الأصيلة، وتسببت في حدوث تغيُّرات للشخصية المصرية. فحمَّل المثقفون الساداتَ الآثار الاجتماعية ومظاهر الفساد، التي طفت على سطح المجتمع.
مع الانفتاح، ومبادرة السلام المصرية الإسرائيلية، أُجبر المثقفون على ترْك مواقعهم الثقافية والصحفية، التي كانوا يشتغلون بها، وتسبَّب كل هذا في تكوين موقف معادٍ من بطل الحرب والسلام، وهو ما أثَّر على موقفهم من تقبُّل هذه الحرب.
بعد نكسة 1967 اهتزت مبادئ الإشتراكية في وعي شباب الجيل وقتها، وهناك شهادة للأستاذ محمد عبد القدوس يقول فيها:”اتجه العديد من الشباب إلى التدين والإقبال أكثر على ربنا .وشجعت الدولة في البداية هذا الاتجاه، وكانت تظن أن هذا الأمر سيبعد الشباب عن السياسة، بما يعني أن التدين على النطاق الواسع بدأ في عهد “ناصر” وليس في عصر “السادات” كما يقولون..
وكانت هناك قوافل من الدعاة يتم إرسالها إلى الجبهة لشد أزر المقاتلين!
وحدث اهتمام كبير بالمناسبات الدينية ولأول مرة يحضر رئيس الجمهورية بعضها، وبدأت الصفحات الدينية تظهر في الصحف، ولم يكن هذا الأمر معروفاً من قبل”
كما أخرج السادات أيضًا الإخوانَ والتياراتِ الإسلامويةَ من السجون؛ ليوقِف تمدُّد الفكر اليساري والناصري في المجتمع المصري، وهو ما أزعج الكتاب والمفكرين المصريين، وفتَح لديهم الطريقَ لعلامات استفهام وتشكيك.
لكل هذه الأسباب، بالإضافة إلى أن الكثير من كواليس الحروب والمعاهدات والمفاوضات، تظَل سِريَّة، ولا يُعلن عنها إلا بعد عقود، شعر المبدعون بضبابية المشهد وغموضه، ولم يستطيعوا تكوين رؤى شاملة لحيثيات وملابسات الواقع الحربي والسياسي.
كما أن الرواية والسرديات الملحمية ليست فِعل إبداع لحظي كالأغنية مثلا؛ بل تظل من الأنواع الأدبية التي تحتاج تأملًا، وقراءة للأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية؛ ليتمكَّن الروائي من تخليق أدب يحيط بهذا الحدث الخطير في محاوره المتعددة؛ وذلك ليتجاوز الأديب وأدبه مرحلة الرصد والتوثيق، لمرحلة الإبداع والتفكر، التأمل وربْط الأحداث والوقائع بملابساتها المتنوعة المصادر والرؤى، حيث لم تكن المعلومة متاحة عن طريق وسائط التواصل البشري، كما في حياتنا المعاصرة الآن؛ حيث تقنيات المواكبة والإحاطة التي نعيشها اليوم.
ويظل السؤال – بشكل آخَر – قائمًا: هل استطاع الأدب أن يعبِّر عن لحظة مضيئة في عُمْر التاريخ المصري، الانتصار بعد العمل والتخطيط ودراسة كل الظروف المحيطة بالحرب لفتح الطريق لاسترداد أراضينا؟
هذا مع ملاحظة أن أدب الحرب ليس تصويرًا لجبهة القتال والمعارك والانتصارات أو وصف الهزائم، ليس حشد ووصف المعارك التي قامت بها القوات المختلفة الجوية والبرية والبحرية، فهذا عمل الوثائقيات، ليس قصص الأفراد الدرامية التي تشارك بالحرب منفردة، كل هذه الحكايات هي الجزء السطحي الظاهر؛ لكن الجزء العميق الذي بإمكانه أن يصنع ملحمة ورؤى متسعة، يتشكل بوصْف وتجسيد شبكة العلاقات الإنسانية التي وراء الأفراد القادة والجنود، وراء المجموعات معا والظروف الإنسانية المتشابكة، التي تترتب على الحروب وتداعياتها، ما ينقص الأدب بالفعل سردية تتداخل فيها وقائع هذه الحرب بجيوشها المتعددة، ومعارك أفرع القوات المسلحة وتنسيقها فيما بينها؛ لتنفيذ الخطط الحربية بنظام محكَم، حيث لا يقبَل أيَّ خلل أو تهاوُن، كل هذا مضفور ومحمول على القصص الإنسانية، الفردية والجماعية، التي كانت خلف هذا السطح، المعارك التي انتصروا فيها، أو استُشهِد فيها الكثيرون، أو جُرحوا وبُتِرت أعضاؤهم، أو فُقدوا، تجسيد وتصوير تبعات تلك الحروب على المجتمع، واقتصادياته، ومنظومته الأخلاقية القيمية، سرد الحكايات الإنسانية التي من شأنها شحذ عناصر الهُوَية المصرية الوطنية وإبرازها واضحة جلية.
ما بين الرجاء واليأس قضى شباب مصر في حروب 67 و 73 أكثر من تسع سنوات في جبهات القتال، ما بين التدريبات والرغبة في أخْذ الثأر من العدو الذي اغتصب الأرض، تركوا حيواتِهم الطبيعيةَ، وكانوا رهنًا لمِصرَ وكرامتها والزود عن أرضها، أذكر أن أحد أعمامي ظَل تسع سنوات كاملة على جبهة القتال، وسمعته يحكي إنه بالرغم من تأخُّره في العمل والزواج وإنجاب أولاده، إلا أنه لم يبخل على وطنه بأغلى ما يملك؛ بسنوات عمره، كان سعيدا لأنها تُوِّجت بنصر أكتوبر، فانسابت الأناشيد والأفراح في روحه وأرواح الجنود المصريين.
بعد انقضاء حرب 1973 أبدع (جمال الغيطاني) في تجسيد الشخصية المصرية، في نَصِّه “حكايات الغريب”، وسجَّل (يوسف القعيد) في بديعته “الحرب في بَرِّ مصر”، التداخل بين الحرب على الجبهة، وضرورة الحرب على الفساد. وتوالت نصوص (مجيد طوبيا) و(سعيد سالم) لتجسيد بعض البطولات التي وقعت، وأيضًا أثناء فترة حرب الاستنزاف، كما كتب نجيب محفوظ “يوم قتل الزعيم” وكانت حول أصداء الحرب.
فكَّرت أثناء كتابة هذا المقال، في اقتراح لتفعيل فكرة الكتابة الجماعية؛ لاتساع هذه الرقعة الزمانية التي حدثت بها التحولات والحروب، بداية من 1952 حتى يوم مقتل السادات، وذلك لتغطية توالي أحداث هذه السنوات ووقائعها الكثيرة المتوترة، وأيضا لاختلاف الرؤى والتفسيرات التي خرجت تفسر أو تشكك في الكثير من هذه الوقائع التاريخية وتفندها، فمن الممكن استغلال ما عُرف – في السنوات الأخيرة في كتابة الدراما – ب “ورشة الكتابة”، حيث يتشارك فيها عدد من الكاتبات والكتاب، وذلك لكتابة قصص تمثل أجزاء من هذه الملحمة الكبرى وتحويل هذه الكتابات لسيناريوهات لأعمال درامية حول نصر أكتوبر، ما سبقه، والأحداث التي توالت بعده، فبعد موت السادات، وتكشُّف خطورة الحركات والجماعات الإرهابية؛ خاضت الدولة المصرية ومؤسساتها الأمنية حروبًا جديدة، مع الإرهاب الأسود، مع التكفير والإقصاء واستحلال دم ومال وعِرض كل مَن خالَف فِكرهم وتوجُّههم العقائدي، بل وتكفير الدولة ذاتها بكل سُلطاتها ومؤسساتها.
لذا من الممكن أن تتبنى جهة إنتاجية كبيرة، بالشراكة مع الشئون المعنوية للقوات المسلحة للإعداد لهذه الورشة (التثقيفية ــ الكتابية)، وأن تضم أهم كتاب مصر، على أن يسبق عملية الكتابة توفير مجموعة من الوثائق والكتب والأفلام الوثائقية، تلك التي سجَّلت أحداثَ الحروب، التي توالت على مصر، وفتح نقاشات موسعة مع بعض القادة الذين عاصروا هذه الأحداث ومازالو على قيد الحياة، و أن يبدأ عمل الورشة بالقراءة والمشاهدة والنقاش، للإلمام بهذا التاريخ ووقائعه وأعلامه وحكاياتهم، ثم الشروع في الكتابة، كما يمكن أن يختار كل كاتب وكاتبة جزئية من الأحداث أو الوقائع أو أحد الشخصيات ليكتب عنها، ثم يتم ضَفْر هذه الحكايات والسرديات في ملحمة تليق بجهود أبطال مصر، وأيامهم العظيمة الفارقة في تاريخ الأمة.
ولا ينبغي أن نشعر بالقلق لأن هؤلاء الكتاب لم يعاصروا هذه الحروب، فليس من الضروري أن يعيش الكاتب الحربَ كي يكتب عنها، فكثير من المبدعين الذين كتبوا نصوصًا روائية تاريخية، قرأوا حول هذه الفترات من مصادرَ متعددة، ودرسوها جيدًا، ثم تمثَّلوا الأحداث، وحمّلوها على نماذجَ من الشخوص، شخصيات حقيقية أو متخيَّلة، وأخرجوا الوقائع والأحداث ضمن تكنيك ومسار فني وإنساني مميَّز، مبرزين لكواليس الحرب، التي من شأنها أن تخلِّق قصصًا إنسانية شديدة التأثير والوطنية.
كما أتوقع أن تبرز هذه الكتابات حجم التلاحم بين مصر والكتائب العربية، تلك التي شاركت من دول عربية متعددة مع الجيش المصري في حربه، وكيف أدرك الجميع أنهم معا لصون كرامة كل العرب.