دكتور أماني فؤاد تكتب..مهرجان الجونة السينمائي لأن الثقافة والوعي ليسَا ترفًا
تلقَّيت دعوة لحضور فعاليات مهرجان الجونة السينمائي، في دورته السادسة، برئاسة الأستاذ: انتشال التميمي، راقتني التجربة الأولى لحضور مهرجان سينمائي، حيث الأدب والسينما لا ينفصلان، وهُمَا عالَمي الأثير، كما رغبت أن أقفز بعيدًا عن حالة حزن عامة، أتطلَّع إلى عوالِم الآخَرين، خارج مساحة عينَيَّ، خارج الحزن والرتابة والتكرار، فللحظات الدهشة والمتعة شغفٌ، مشاهدة بلاد بعيدة متنوعة، وثقافات أخرى، موائد ممتدة من السِّحر على الشاشات الكبرى، حيث الصور التي تأخذك لعالَمِها؛ فتتحد معها دون أن تدري، تقتحمك الموسيقى وتتسرب من مسامك، لتسكُن أعماق كهوفك الأبدية، وتُعيد الرسوم على جدرانها.
منذ بدأ مهرجان الجونة السينمائي؛ كان محلَّ اهتمام وإثارة للجدل على الصعيد الإعلامي، وبعيدًا عن السجادة الحمراء، التي رأيتها دومًا صناعة سياحية واقتصادية واسعة، هناك على الجانب الفكري والجمالي عالَم ثري، حيث يحظى هذا المهرجان بإدارة واعية مثقَّفة، ساهمت في تأسيس عددٍ من المهرجانات العالمية. ومنذ الدورة الأولى، يحشد (انتشال التميمي) – لمهرجان الجونة – أقوى وأكثر الأفلام تميُّزًا في العالَم، شرقًا وغربًا؛ لإتاحة هذه المتعة السخية، تلقيك للحيواتِ البشريةَ، حالة نبضها واشتباكاتها، في أشد حالات صراعها، أو انسحابها، تدمع عيناك أو تبتسم شفتاك، وتصحبهم جميعا معك وأنت تتنقل بين عدد من قاعات السينما في مدينة “الجونة”، مدينة الحلم الجميل في صحراء الغردقة. تشاهد وتستمع، تشارك في الندوات والمحاضرات، التي تُعقد بالتوازي مع عرْض الأفلام، أو تشتبك في حوارات ثرية مع الأستاذ إبراهيم العريس، الناقد السينمائي والكاتب القدير، والأستاذ سعد القرش الكاتب والروائي، والروائية عزة كامل، والمخرج مجدي أحمد علي، والعديد من المهتمين بالسينما والأدب عربيا وعالميا، هذه الحوارات التي تدعم التواصل الإنساني الراقي.
قدَّم مهرجان الجونة هذا العام دورة استثنائية، حيث الاقتصاد في المظاهر الاحتفائية، وتقليص الاحتفالات؛ لظروف فلسطين وما يَحدُث في غزة، أراد القائمون عليه الانتصار للإنسانية، للتواصل لا التقاتل، للبرهنة للعالم على استقرار مصر وأراضيها، والانتصار للفن والثقافة، للكلمة والصورة واللون، للموسيقى والأفكار، ومواصلة الإبداع الإنساني، للنقد وإقامة الجسور لا هدْمها، اختارت لجنة المهرجان أن تحضر فلسطين رغم الدمار، فعرَضت – على مدى أسبوع لكل ضيوف المهرجان من العالَم كله – السينما التي عالجت القضية الفلسطينية، فأعادت عرْض الأفلام الفلسطينية، ودَعت مخرجيها ومبدعيها، وفي هذا السياق تم عرْض فيلم “رجال الشمس” بجُزئَيه، للمخرج المبدع (يسري نصر الله) عن رائعة رواية (إلياس خوري)، التي حمَلت نفس الاسم. وهو ما سيكون له مقال مفصَّل بمفرده.
كان قد تم تأجيل المهرجان لشهرَين كاملَين؛ نظرًا للأحداث التي يعايشها كل لحظة مواطنو فلسطين الأبرياء، لكن استقر رأيُ القائمين على المهرجان على أنَّ الفن عمومًا، والسينما – على وجْه الخصوص – ليست نشاطًا بشريًّا زائدًا يمكن إلغاؤه؛ فكل ما يقدَّم في إطار الإبداع الإنساني هو مساهمة في تكوين الوعي العميق للبَشر، وجعْلهم أكثر فهمًا واستيعابًا للحياة، أكثر تواصلًا؛ وهو ما يسهم في ترقية الذات البشرية وتهذيب غرائزها، وخلْق مساحات من التفاهمات والمشترَكات التي تغلب السلام وتنبذ الحروب، لذا كان قرارهم الذكي بتغليب الوعي والتعقل، وتهذيب الوجدان.
لا يُعد الفيلم السينمائي – فيما أعتقد – بكل تقنيات تكوينه، سيناريو وإخراج وتمثيل، مجرد عمل فني اجتمع فريق كامل من الفنانيين – في مجالات مختلفة - لإخراجه إلى حيِّز المُشاهَدة، ليس أيقونه فنية تُنتَج لتُشاهَد لحظيًّا، ثم توضع تحفة فنية على أحدِ أرفف المكتبات أو حبيسة الأدراج، بعض الأفلام تمثِّل حجرًا كبيرًا يُلقَى في بُحيرة الذهن البشري والمجتمعي، حيث يُحدِث ما يشبه مجموعة من الموجات والارتدادات، التي تهز الوعي العام، فتدفع لإعادة النظر، والتفكر في الحياة ومتغيراتها، كما أن بعضها الآخَر يبتكر ويطوِّر القِيَم الجمالية الخاصة بحرفية صناعة السينما، حيث يتبارى الجميع في الإبداع، فكرةً وصورةً، على شاكلة غير مسبوقة.
وصَل هناك معدَّل مشاهدتي في اليوم الواحد لأربعة أفلام، عوالم ورؤى ومعالجات جميلة ومتباينة، هذا التنوع والثراء هو ما أطلَق الأسئلةَ والمقارنات، انبهرت بأفلام، وشعرت بالملل من أخرى، ازداد اعتقادي بأن السينما والأفلام ليست مجرد متعة وتزجية للوقت، السينما فتْح لآفاق متسِعة، ومعرفة فوق معارف، وتشريح للعالَم البشري وكوامنه، وكشْف عجائبه ومدهشاته التي بلا حصر، المتعة التي تُغني حواسك كلها؛ حيث تحاوِر العقل، وتخلب العين، وتطرب الأذن، وتطلق الروح لسماوات أرحبَ، السينما أي شغف الأفكار مجسَّدة ونابضة، كتَّاب ومخرجون وفنانون يؤمنون بما يقدِّمون؛ فيقبضون على الهارِب من القصص الإنسانية، يأخذونه شرائح جمالية وفنية، يوقفون فيها إيقاع الزمن ويُدخلونه عدساتهم وشرائطهم الدوارة؛ ليبوح البشر بحيواتهم، كما يعكفون على مهارات فريدة، حيث تجديد التقنيات الفنية وتوظيفها لتطوير وتحديث كل تخصصات إنتاج الفيلم السينمائي، فتعم المتعة والفائدة معا.
عُرض بمهرجان الجونة ثمانون فيلمًا، ما بين الروائي الطويل والقصير والوثائقي، شاهدت بعضها، الذي تراوَح بين الممتاز والجيد والضعيف، وكان الفيلم الفرنسي ”تشريح سقوط” من أجمل ما شاهدت، يدور الفيلم عن (ساندرا) المتهمة بقتل زوجها، وهي كاتبة ألمانية تعيش مع زوجها (صامويل)، وهو الآخَر كاتب، وابنهما (دانيال) المصاب بعمى جزئي نتيجة لحادث سير، كان السبب فيه تقاعُس والده عن الذهاب إليه وإحضاره بنفسه. يموت الزوج في ظروف غامضة بعد سقوطه من أعلى البيت، ويصعب على التحقيقات تحديد إذا ما كانت وفاته انتحارًا، أم حادثًا مفتعَلًا.
يتركك الفيلم في حالة شك دائم حتى المشهد الأخير، حالة قلقة وحائرة، لا يمكن القبض فيها على يقين أو حقيقة، وتترسخ تلك الحالة عبْر تكاتُف عدد من التقنيات: الحوار الفذ، وطريقة تراتبية عرْض مَشاهِد الفيلم، الذي يصدمك كل آنٍ بحقائقَ وأحداث جديدة، تخلُق حالة من التشويق الدائم، ثم الأداء المُبهِر لبطلة الفيلم، طبيعة علاقات جميع الشخوص مع البطلة، واحتمالية تحيُّزهم لها، سواء ابنها وشهادته، أو إعجاب المحامي بها من قبل الحادث، والذي لم تكن تعرفه، أيضًا توفُّر الدوافع للجريمة، لكنها أيضًا ليست الدوافع التي تؤدِّي إلى القتل، كل الظواهر قد تُثبِت أنها القاتلة، وكلها يمكن أن تجعل الحادثة مجرد احتمال.
هذا مع ملاحظة أن كل المتخصصين في تحليل مشهد السقوط، من باحثين جنائيين ظهروا في مشاهد المحكمة، وهم يُضمِرون إدانتها؛ لثقافة ذكورية تسيطر على الوعي العام، حتى في الغرب، ولممارستها علاقة مثلية نتيجة ابتعاد زوجها عنها بعد الحادث الذي أصاب ابنهما، ولعدم تحقُّقه في الكتابة، أو إنجازه لشيء مما يحلم به، تبدَّى الحوار – الذي تشاجرا وتكاشفا فيه قبل الحادث بيوم واحد – شديد العمق والأهمية، أعرب فيه الزوج عن ضيقه بانشغالها بالكتابة، وترْكِها مسئولية طفلهما له، خاصة بعد أن حمَّلته بداخلها مسئولية ما حدَث لابنهما، هذا عدا تعرية سنوات من علاقة زوجية تحتمل كل الخلافات والتنافس لاشتراكهما في مهنة واحدة.
تساءلتُ بعد مشاهدة هذا الفيلم الفرنسي عن نُضْج وعي هذا المجتمع، وثقافته المتحررة، عميقة الكشف والتحليل، التي أوجدت كاتبًا للسيناريو قادرًا على التعبير عن كل تفصيلة من المشاعر، وطبيعة الصراع العميق بين الزوجَين، علاقة الزواج ذاتها، والتقاط أدق الفروق بين المعاني، واستخدام المفردة المعبِّرة عنه، أحسب أن الكاتب – الذي بإمكانه أن يقبض على كل هذه التفاصيل في تشريح العلاقة الزوجية، والتنافس الدفين بين الطرفين نتيجة مهنتهما الواحدة، ليعرضها ويصوغها بهذه الدقة والتمكن – لا يمكن أن يكون قد استسهل أيَّ تفصيلة، أو تعامَل معها بسطحية، بل أثق أنه عكف طويلًا يدرس ويحلل ويتأمل مثل هذه العلاقات، ويراقبها ليعبِّر عنها على هذا النحو، وتتجلَّى براعته الأكثر – هو والمُخرِج – في خلْقه لتلك المنطقة الملتبِسة، التي تترك المُشاهِد – حتى آخِر لقطة في الفيلم – حائرًا؛ هل مات الرجُل قتلًا أم انتحارًا؟
هذه الكتابة تشي بمعنى المسئولية والجدية، التي يأخذها الكاتب على عاتقه، تعبِّر أيضًا عن آثار الحرية الثقافية والاجتماعية، على قدرات الأفراد للوصول لعُمق المعاني، وتعريتها وتحليلها؛ لنفهم، ولتفهم البشرية نوازعها.
ولذا يُعد هذا الفيلم من الأفلام التي تجسِّد أدق حالات البَشر، وأكثرها حَيرة وشَكًّا، وتتجلَّى تقنياته لدفْع المُشاهِد للانغماس في عالمه.
لن أخفيكم سِرًّا، لقد شعرت بالحسرة مَرَّات وأنا أتابع تلك السينما القادمة من كل أنحاء العالم، وتساءلت أين نحن الآن – فيما نقدِّم – من هذا المستوى الرفيع؟
لقد سطَّح صنَّاع السينما الحالية الوعي العام للجماهير، خلقوا كذبة كبيرة وصدَّقوها، حين قالوا: إن تلك التفاهات التي تُقدَّم هي إرادة الجماهير.
لماذا صار الكثيرون متخاذلين وسطحيين؟
لو كنت المسئولة عن المقرَّرَات التي تُدرَّس لقسم سيناريو بمعهد السينما؛ لقرَّرتُ هذا الفيلم نموذجًا لسيناريو شديد الذكاء، حيث النجاح في تشريح العلاقات، وخلْق حالة تترك أنفاس المُشاهِد لاهثة مع الفيلم حتى النهاية.
ولنا عودة مع فاعليات أكثر في المهرجان بالمقالات القادمة