دكتور أماني فؤاد تكتب..يتعيَّن أن نمتلك الشجاعة لقول: لا
تقدَّمت إحدى الشابات، لأحد أشهَر مكاتب المحامين، تُعلِن عن رغبتها في رفْع قضية على أُسرة والدتها، تطالب الشابة بمحاكمة أُسرة بكاملها، جدها، وعم والدتها، وخاليها؛ حيث قام الأربعة بقتل أمها منذ خمسة عشر عامًا، وكانت السيدة في العشرينيات من عمرها.
في حيثيات الورقة، التي كتبتها الفتاة، قالت: إنهم اغتالوا طفولتها حين حرموها من أمها، قتلوها دون سبب واضح، مبرر لم تستطع أن تفهمه على الإطلاق، طغمة من الظلمة، الذين يعتدون على الحياة وطبيعة البشر، أهل والدتها الذين لم يكتفوا بيُتْمِها حين استشهد أبوها، بل ساقوا أمها إلى قبرها حية، حفروه أمام عينيها، بعد أن قيَّدوها وكمَّموها، خدَّروها؛ لئلا تتفوَّه بأيِّ كلمة، ثم أطلقوا الرصاص، ودون أن يتيقَّنوا من مفارقتها للحياة، أهالوا التراب عليها، ومضَوا كلٌّ في طريق.
تتعجب الفتاة، لماذا تصمُت النساء، لماذا لم تنطلق أعلى الصرخات؛ لتُعلن رفْضها ووقوفها حائطًا ضد هذا الجُرم غير الآدمي؟
أرادت القتيلة – بعد وفاة زوجها بسنوات – أن ترتبط برجُل أحبَّتْه، وأن تحتفظ بابنتها في حضانتها، أبسط حقوقها في الحياة، رفَضت أُمُّ الزوج المتوفَّى وأهلُه زواجَها مَرَّة أخرى، راقبتْها وحوَّلت حياتَها لجحيم، ومساءلات متشكِّكة لا تنفَد، هدَّدت بسَحْب حضانة الطفلة منها، كما حرَّضت عليها أهلَها، واتهمتها، ودون جريرة، إلا أنها أحبَّت، وأرادت أن تعيش حياتها الطبيعية، مع زوج أحبَّتْه؛ أخمدوا أنفاسَها وهي حَيَّة، كانت الأم قد تفاهمت مع حبيبها على الزواج، بعد محاولة إرضاء الجميع؛ لئلا تفقد حضانة ابنتها، وتظَل تحتفظ برضاء أهلها، لكنهم قتلوها؛ لأنها التقتْه، فتَحْتَ مسمَّى الزَّود عن شرَف العائلة العربية، أو هكذا يسمُّونه، يُراق دم البريئات كل آن.
أشهرت الشابة في دعواها -ـ دون أن تدري – وثيقة إدانة لمجتمع بكامله، قامت بتعرية ثقافة ظالمة، بكل ما تتضمَّنه من انحيازات، كشفَت الكثير من البِنَى النفسية الظالمة والجاهلة، لشخصيات نعيش بينهم، شرائح كاملة من البَشر، لا تحمل في وعيها العميق أيَّ احترام لكيان المرأة، وحريته، واستقلاليته، وحقوقه. أعربت دعواها عن أن ثقافتنا العربيةَ، وتقاليد مجتمعنا، وموروثاتِنا، لم تُعامِل المرأةَ ككيان مستقِل، له رغباته وإرادته، التي تُغاير إرادة الثقافة الأبوية الذكورية، للمرأة حقوق تُغاير الأعراف، التي تتجمَّع كلها لمصلحة الرجُل فقط، هذه العادات والأعراف، التي تُشعل نارَ شرَفِ الرجُل، في اتجاه واحد فقط، وتطفئها، وتبرِّر له في كل اتجاهٍ آخَرَ، حيث ينحصر شرَفُه في الزَّود – من منظوره هو – عن النساء اللاتي يمتلكهن، نعم يملكهن، فالمرأة في الثقافة العربية – لم تَزَل – لا يتضمن وجودها معنى الاستقلالية، أو أنها كيان بمفرده، يستطيع أن يقرِّر لِذَاتِهِ.
حصرت الفتاة في دعواها محاكمة رجال أُسرة أُمِّها، التي تلوَّثت يدهم بدمائها، لكن ما ستدركه، ويدركه الجميع – مع الوقت – أن القضية يجب أن تُرفع على المجتمعات العربية بكاملها، أيْ مقاضاة الذهنية العربية بكل نسائها ورجالها، فلا أحد براء من إراقة دم أيِّ امرأة تُقتل بدافع الشرف العربي.
تلك القصة تتكرر كثيرًا في كل البلدان العربية، على التقريب، حَدَثَتْ في الماضي، ولم تَزَلْ تحدُث في الوقت الراهن.
فكَّر المجتمع، وانحاز للرجُل الذي مات، قررت العقلية الاعتبارية الذكورية المحافِظة على أملاكه السابقة، واستمرار التحكُّم في أرملته، فكَّروا في عائلته، ومشاعرهم التي قد تُضَار لو تزوجت امرأتُه آخَرَ، فكَّروا في أبناء الرجُل الذي مات، فكَّروا أيضًا في نزْع الحضانة إذا تجرأت الأم، وأصرَّت على الزواج ثانيةً. وبدورهم لم يدافع رجال أسرة الأرملة عن ابنتهم، ولا راعَوا أو طرحوا أيًّا من حقوقها الطبيعية.
ربما علينا أن نطرح أسئلة من نوعٍ آخَرَ: هل فكَّر أحد في امرأة لم تَزَلْ تعيش، امرأة تتنفس، وتحتاج للحب والتواصل، ورفقة الحياة، امرأة لها حاجتها البيولوجية، مثلها مثل الرجُل، الذي يدعوه الجميع للزواج مباشرة بعد وفاة الزوجة؟
هل فكَّر أحد أنَّ تنشِأة أطفال مع أُمٍّ سعيدة، تحيا حياة طبيعية؛ أفضل كثيرًا من أُمٍّ حُكِم عليها بالموت، وهي لم تَزَل على قيد الحياة؟
هل فكَّر أحد أن على أهل المرأة ألَّا يخجلوا من وجودها وإرادتها، بل يتعيَّن عليهم دعْمها، والوقوف معها؛ لتحقيق سوائها النفسي والطبيعي؟
أطرح هنا طبيعة عادات المؤسسة الاجتماعية، والوعي الجمعي الموروث، وكيف يحيل المرأة لمجرَّد كائن تابع، عليه الانصياع لإرادات الآخَرين من الرجال وأعرافهم، والتعتيم التام على مشاعرها وإرادتها.
لعل السؤال الذي قد يُطرَح، لماذا لم يفكر أحد في النساء في الوعي الجمعي الموروث؟
هل لأن من فكَّروا وطرحوا الحلول في الماضي من الرجال، رجال لم يكن يخالطهم النساء ليفصِحِن عمَّا يُرِدْنَ، وإن خالطْنَهم؛ ليس لهن أن يقولوا أو يتجرأوا برفْع أصواتهن، أو التعبير عن احتياجاتهن في الحياة، احتياجاتهن التي هي احتياجُ مُطلَق الإنسان، الحب، والتواصل، والرفقة، والشعور بالمعية المتفهِّمة الحانية؟
هل لأن الرجُل – حتى الآن – يَعتبِر المرأةَ مِلْكِيَّةً له، أيْ أنها إضافة لأرضه، وبيته، وأمواله، رقعة امتداد ليس إلا، ولذا ليس للشيء ولا ما يُملَك أن يبوح بما يريد، أو يفعل من تلقاء نفْسه.
فلم يَزَل الرجُل – في الوعي الجمعي العام؛ رجال ونساء – يشعر بالسيادة، وأن المرأة التي تحيا في محيطه تابعًا لا شريكًا، فيفرض هيمنته عليها: ابنة أو أخت أو زوجة أو أم، ويعاقبها ويقتلها إن هي أرادت شيئًا غير إرادته، يسانده في هذا موروث ثقافي وفلكلوري، إن عَمَدْنا إلى حصْره؛ لن نستطع الإلمام به؛ لامتداده رأسيًّا في امتداد عميق متوغِّل في التاريخ: الأساطير التي تتناقلها الشعوب، الأمثال الشعبية، الحكايات والفلكلور الموروث، بعض التفسيرات للنصوص الدينية، حيث تكرِّس كل تلك الموروثات لسيادة الرجُل، وتُبرِز تفوُّق إمكاناته، وتُعلِي من قُدراته على العمل، وتصريف أمور الحياة، واتخاذ القرارات، مقارنة بالمرأة، ومن ثم استحقاقه للسيادة وتحكُّمه في النساء.
أحسب أنه يتعيَّن أن نمتلك الجرأة والشجاعة لقول: لا. والتصدِّي بكل ما أوتينا من منطق وعقلانية وقانون؛ لإثارة الرأي العام، وخلخلة أخطائه، لابد من الخروج على رأي القطيع والجموع؛ لأن ما رسَّخوا ثباته هو الظلم ذاته.
ولا أتصوَّر أن يقول قائل: هذا خروج على التقاليد والأخلاق، أو أننا نحرِّض على بدعة، فكل بدعة ليست ضلالة كما المتوارَث، بل كل بدعة دعوة للتفكير، وإبداع ما يُعلي شأن الإنسان وإرادته وحريته، لا تكفين بالحياة بالاتباع؛ بل على العكس، نحن نقوِّم ما اعوَجَّ وفارقه الإنصاف والعدل.
ما المانع من المواجهة الحقيقية، أسوة بالشابة صاحبة القصة، لماذا لا ترفع كل امرأة متضررة قضيةً، تُنظَر في المحاكم، لتكون محطَّ نقاش في الرأي العام والميديا؛ لنستطيع تقليب هذه التربة العفنة الراكدة في الوعي الجمعي العام؟
لماذا نترك مقولاتٍ وأفعالًا تمُر، وكأنها طبيعية، وهي ليست كذلك، حيث تتضمَّن تحريضًا وإشاعة العنف ضد المرأة، فترْكها سيجعل المجتمع يستحِلُّها، ويتصوَّرها عادية، فحين يتبرع الكثيرون لدفْع مصاريف الترافُع عن قاتل نيرة، ويقال إنه شهيد، وأن رائحة كفنه كانت ذكية، أو يقام له عزاء، ويذهب له الكثيرون، وتنطلق أصوات النساء، قبل الرجال؛ لتعزية أهله في الميديا، ويتبدَّى التعاطُف معه، فتلك جريمة رأي عام، جريمة يتعيَّن على الجميع طرْحها وتفنيدها، فالمرأة كيان حر، تلْبس الحجاب أو لا، تعمل أو تظَل بالبيت، تختار من تتزوجه، أو تنفصل عمَّن تريد، فهذا شأنها، وليس شأن شخص آخَر، وعلى الطرف المقابل احترام إرادتها وليس ذبْحها.
لماذا نترك مقولاتٍ – تتمسح بالدين والأعراف الظالمة – تنتشر في المجتمع، وتَلْقَى رواجًا، وتتنقَّل بكثافة دون التصدي لها، وتحليلها، وتقويض منطقها الظالم، بسبب ما تتركه من انتقاص لكيان المرأة وحرياتها، وعدم تبعيتها العمياء لأيِّ كائنٍ آخَرَ؟
فحين ينتشر منشورٌ، يحلِّل فيه أحدُ أبناء ثقافة رجعية السببَ الرئيسَ في خراب البيوت، من وجهة نظره، فيقول:
”السبب الرئيسي لخراب البيوت الأيام دي، والكلام هيزعَّل ناس كتير، البنت اليوم في بيت أبيها تعيش في قمة الرفاهية، لا يعلِّمونها معنى قوامة الزوج، وحقوقه، وطاعته وحُسن التبعُّل له؛ فتتزوج وعقيدتها: أنا حرة، أنا شريكة، أنا صاحبة قرار، أنا مساوية له… فالبنت لا تعلم أنه شرعًا سيِّدُها ورئيسها وكبيرها، وهي مأمورة بطاعته، والحاكم عليها ومؤدِّبها إذا اعوجت، بل وأنها في كنَفِه ما دامت في بيته، ليس لها أن تخرج من منزله أو تأمر فيه إلا بإذنه، حتى لو أمرها أبوها؛ فطاعة زوجها، وتوقيره، مُقدَّمة بلا خلاف، هذا الذي ينبغي أن يسير عليه البيت المسلم، رجُل قوَّام وامرأة مطيعة، فإذا تبدَّلت الأدوار؛ فسَد النظام، وهذا معلوم ومُشاهَد.”
أحسب أن مَن دوَّن تلك الكلمات لم يعرف يومًا جَمالَ الاحترام، لا التبعية، فوائدَ الشراكة، لا الانصياع، قيمةَ الكرامة لا استعذاب الاستعباد.
إذا تركنا تلك المقولاتِ، التي تجعل من المرأة مجرَّد تابع، وملكية للرجُل دون مقاضاةٍ وردْع؛ فسنبقى شركاء في جرائمَ كثيرةٍ ستحدُث في المستقبل، ولن يتغيَّر في مجتمعاتنا شيء، مَهمَّتُنا تحليل هذه الظواهر، وتبيان الحقيقة، والوجْه الآخَر، العادل أمام الرأي العام، وأن تدركها النساء قبْل الرجال.
فإذا ما استمر وضْع المرأة وحقوقها جنينيًّا في رحم الوجود المجتمعي بجانب الرجُل؛ فحقوقها معرضة دائما للإجهاض، ووجودها الإنساني اللائق معرَّض دائمًا للوأد.