دكتور جمال زهران يكتب.. الوعي والحرية والاستقرار والقوة
يعتبر مفهوم “الوعي”.. من المفاهيم المركبة التي تتجاوز أحادية الجانب، بل هو نتاج روافد عديدة تصب جميعها في تشكيل ما يعرف ب “الوعي”. فالوعي هو حصاد عمليات مختلفة تتعلق بالتنشئة عبر وسائلها وأدواتها، فيها الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية، بل هو حصاد فترات زمنية مختلفة، تبدأ بالميلاد، وبداية تشكيل منظومة الوعي، مرورًا بما يتم ترسيخه داخل الأسرة والأقارب ثم المدرسة وحتى الجامعة، وحولهم البيئة المجتمعية من رفاق، ووسائل إعلام…. الخ.
ولذلك فقد استقرت الدراسات العلمية بأن “الوعي” لدى الإنسان يظل في حالة تشكيل وعدم استقرار، بما يعرف بالمراهقة الفكرية، حتى سن الـ (25) سنة، وبعدها يستقر الوعي بمفهومه الشامل، سواء بصورة إيجابية ومحورها الاهتمام بالشأن العام، أو بصورة سلبية ومحورها السلبية واللامبالاة!!.
إذن، فالوعي هو ما استقر في عقل ووجدان المواطن، عبر سلسلة العوامل المؤثرة في تشكيله، والتي تدفعه إلى سلوك معين في فترات زمنية مختلفة. فالمواطن الشاب الذي يذهب إلى صناديق الانتخابات للإدلاء بصوته قبل أن يبلغ الـ (25) سنة، في الغالب، يكون قراره متأثرًا بالجانب العاطفي وليس العقلي، لأن وعيه الكامل لم يتشكل بعد.
وهنا فإن وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل وعي المواطن ما دون الـ (25) سنة، ويقع تحت تأثيرات هذا الإعلام، بغض النظر إن كان إعلامًا حرًا، يبعث برسائل موضوعية، تمثل الجوانب المختلفة في قراءة الظاهرة، سواء من مع.. ومن ضد..؟؟.
ولذلك فإن الإعلام الحر، الذي تتوافر به مساحات الحرية، يصب في دعم فكرة المواطنة السليمة، ويسهم في خلق المواطن المتوازن، والابتعاد بالمواطن عن فكرة “تزييف الوعي” بادخال معلومات غير حقيقية، حيث يستمع المواطن للرأي والرأي الآخر المعارض، وتجاوز الأحادية، وأعتقد أن الوعي الناتج عن “توازن وموضوعية” الرسالة الإعلامية، تسهم في دعم الوعي الشامل لدى المواطن، عبر الانضاج المستمر للجانب العقلي لديه، ومن ثم فإن ذلك من شأنه أن يسهم في دعم الاستقرار الشامل، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا. ولا يعني الاستقرار هنا، الجمود وعدم التغيير، إنما يعني الاستقرار عبر التغيير المنظم والمنضبط، طالما ارتبط ذلك بالحرية على كافة الأصعدة السياسية والإعلامية والثقافية والاجتماعية. وهنا نذكر أن التغيير لا يتم بالفجائية والتطور وبالتسلط، إنما يتم عبر الحوارات، وعبر الزمن بفترات زمنية معينة. وكل تغيير يتم عبر الأوامر والقرارات الأحادية وتسلط السلطات في أي بلد، يكون مآله الفشل، وردود الفعل الشعبية الواسعة، التي تعوق عملية التغيير من هذا النوع.
ولعل قراءة ما حدث في الكيان الصهيوني، حيث حاول الـ “نيتنياهو”، أن يمرر بقرارات حكومية أحادية، تغيير قوانين السلطة القضائية، للسيطرة على هذه السلطة، تحقيقًا لحسابات سياسية، وهو الشخص رهن التحقيق والمساءلة هو وزوجته، ويخطط للإفلات من ذلك، وعدم دخول السجن فور خروجه النهائي من السلطة، مثل سابقيه!!. فماذا كانت النتيجة؟!.. خرجت المظاهرات الشعبية أيامًا وأسابيعًا ومستمرة حتى الآن بشكل متقطع، وكانت النتيجة هي إيقاف هذه التغييرات الأحادية، وسط سياسة الشد والجذب!! ولم يفلح خطاب السلطة الحاكمة، في الضغط على المتظاهرين بمبررات واهية، أن هذه المظاهرات قد تؤدي إلى الضرر بالدولة “الصهيونية” ومستقبلها!!
والنموذج الثاني، ما حدث في فرنسا منذ فترة، حيث قرر ماكرون إحداث تغييرات في قانون التأمينات والمعاشات، وكانت النتيجة رد فعل شعبي واسع لأسابيع، حتى وعد ماكرون، بإعادة دراسة الموضوع، فهدأت الأمور. إلا أنها اشتعلت خلال الأيام الماضية بسبب آخر وهو مقتل مواطن فرنسي من أصل جزائري، على يد الشرطة الفرنسية، فتحولت الشوارع والمدن المختلفة في باريس وغيرها، إلى جحيم بشري، يهدد بحرب أهلية!!
هنا أقول، أن التغيير الشامل، لا يتم بالأوامر والسلطات، ولكن يتم بهدوء وعبر فترات زمنية وأجيال، شرط اقتناع الغالبية من الشعب. أنظروا مثلاً إلى رفض الشعب المصري للتطبيع مع الكيان الصهيوني، رغم مرور ما يقرب من نصف قرن على زيارة السادات للكيان الصهيوني (1977) وما تلاها من اتفاقيات كامب ديفيد وأخواتها!! وقد أشرت من قبل لدراسة علمية أكدت ذلك، وأثبتت رفض الشعب المصري بنسبة تفوق الـ 95%!!
وختامًا: أقول أن الوعي السليم، هو نتاج الحرية، وهو أساس للاستقرار عبر التغيير المنضبط، وأن ذلك من شأنه تقوية الدولة وقوة الوطن، وأن مصير “المتلاعبون بالعقول”، ومن ثم بالوعي هو الفشل الذريع، والواقع يؤكد ذلك.
د. جمال زهـران