في بعض الأحيان يكون من الأجدى أن لا تكون تعرف…فلربما جهلك بالشئ يجعلك تعيش كما يصور لك خيالك او على الاقل لايأخذك لسيناريوهات قاتمة قد خبرتها من قبل سواء تكون تعلمتها او قرأتها او حتى عشتها ….نعم احيانا يكون الجهل ببعض الأشياء نعمة…فأسوأ مريض هو الطبيب عندما يتعرض لمحنة المرض لأنه دائما يعرف الخطوة القادمة ويعن على خياله كل المضاعفات التي تعقب كل إجراء أما لأنه راه بعينه او قرأه في دراسته الطبية…هكذا كانت تجربة الألم الأولى التي مرت بي منذ سبع وعشرون عاما ..جلطة في الشريان التاجي لشاب لم يكد يبدأ يجني ثمار سنوات طويلة من الدراسة والتعليم والتدريب…ويتجلى سيناريو الرحيل شاخصا فالقلوب واجفة..والأطباء حولي لايستطيعون أن يداروا دموعهم في ذاك المستشفى البسيط القديم وقتها في مدينتي البعيدة التي لم تكن وقتها اخذت حظا من شئ غير الحروب والدمار ورب ضارة نافعة…فقد االيت على نفسي ان ابني فيها افضل مستشفى عام في مصر ما استطعت لعلها تكون صدقة جارية وكنت وقتها ابني مستشفاي الخاص واوقفت العمل فيه واكتفيت به سكنا ومازالت السلالم الداخلية بين الدور الأرضي والعلوي موجودة فيه حتى الآن وتم اغلاقها وتحويلها إلى مسقط ومازال شاهدا في مسقط راسي” العريش” …اذن ازفت الازفة…وتشاء الاقدار ان تنقلني سيارة الإسعاف إلى عناية القلب في مستشفى عين التخصصي بعد ساعات مرت أطول من العمر ذاته مع الأم الذبحة الصدرية وعجز المخدر عن وقف الالم…ثم ساعات ويتغيرالموقف وتدب الحياة من جديد… لتبدأ رحلة مع معاناة القلب وشرايينه والطب وسنينه وعمر جديد وفرصة أخرى للحياة….تذكرت هذه اللحظات عندما اخذت ضربات القلب ترتفع لتنذر بخطر داهم بعد يوم من إجراء الجراحة الأخيرة والتي استمرت وقتا طويلا فقد دلفت إلى غرفة العمليات في السابعة صباحا ونظرت إلى ساعة الحائط في غرفة الافاقة فكانت الرابعة عصرا… وكنت طوال ليلتها اقول لنفسي…كل مر سيمر…”ان مع العسر يسرا فإن مع العسر يسرا”فهذا قسم رب العزة ..ولكن النهار كان يحمل شئ اخر..فعندما تعالت الدقات ودق جرس الانذار بجناح المستشفى لنقلي إلى قسم رعاية القلب…تماسكت وكتبت رسالة إلى حسام وهو ابن صديقي رجل الاعمال “م.د”والذي يعيش ابنه هنا في شتوت جارد في ألمانيا والذي كان يرافقني كولدي… والذي سوف يأتي في موعده المعتاد بعد نهاية عمله..كتبت له..انا لست على مايرام هناك مشكلة في القلب….وكنت وانا اكتب تجول في خاطري كل السيناريوهات عما حدث وهل هناك جلطة جديدة بعد الجراحة الطويلة…انها هذه المرة قاتلة لامحالة فلربما تعيش مرتين ولكن الثالثة معجزة…اذن لابد من اخطار هذا الشاب فإذا قضت الاقدار بالنهاية الطبيعية يجدوا من يتحدثون اليه فقد تأخرت تأشيرة دخول ابني ليرافقني وهو الآن الابن…واجدني اردد مع نفسي”ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم مافي الارحام وماتدري نفس ماذا تكسب غدا وماتدري نفس باي أرض تموت أن الله عليم خبير” وهي نفس الآيات من سورة لقمان التي كنت ارددها وانا في طريقي لدخول العمليات…وتتم الفحوصات سريعا ثم يهدأ كل شيئ..ويخبرني الجراح” ghozen”الذي قد أصبح صديقا فقد عرفته عن طريق احد الزملاء في القاهرة والذي دلني على صديقه ونفس تخصصه من الإسكندرية وضيفه الدائم أيضا والذي لم اكن اعرفه بالطبع ولكني وصلت اليه عن طريق احد نبلاءواساتذة طب النساء في عروس البحر المتوسط “ع.د”..هذا الرجل استقبلني على بوابة المستشفى ودعاني على فنجان قهوة مع فريقه الجراحي والتخدير في اليوم السابق للعملية… وكان دائم المرور علي قبل أن يبدأ عمله وبعد الانتهاء منه يوميا على مدار تسعة أيام حتى في أيام العطلات الرسمية”الويك اند” لم يسافر لاسرته وهم في مدينة هايدلبرج على بعد ساعة من المستشفى….أخبرني هذا الصديق الجراح الألماني من أصل تركي ان التمريض يبدوا انهم لم يعطوك الجرعة المطلوبة من مثبطات ضربات القلب وانه بمجرد ماتم إعطاء الجرعة كل شئ عاد كما كان…لنستكمل باقي أيام الألم… فمايحدث بالنهار يحدث عكسه بالليل وبين تصوير بصبغة وبدون وسرير يتنقل بين ردهات المستشفى يحمل جسدا يتمتم بالدعاء ولم يبقى فيه وريد سليم لأخذ عينات الدم او إعطاء علاج وتمريض اللغة الانجليزية تشكل عقدة الخواجة لديهم..فقليل منهم من يتحدث بها فهم يشعرون انهم سادة أوروبا ولابد أن ينطق العالم كله بالالمانية…ومع كل عثرة اقول لنفسي لاتنسى انه كل مر سيمر…وماهي الا ساعات واترك المستشفى إلى فندق قريب لاعود بعد حين لعمل بعص الفحوصات والمراجعات كتبت هذه الكلمات