ابكي تحت الليالي والخوف ملو الضلوع قلبي يابلاد غريبة بتنورها الدموع… لغاية هنا وكلام الابنودي خلص لما كان بيتكلم عن احضان الحبايب ورميت نفسك في حضن سقاك الحضن حزن…لكن البكاء اليوم مختلف فالدموع تتحجر في الجفون وتأبى النزول وليتها تفعل لتغسل الاحزان ..فوراء كل صاروخ حكاية وتحت كل قذيفة تطلقها طائرات العدو الغاشم قصة وهناك اكثر من خمسين الف حكاية … فقد كانت دينا حكاية..هي ابنة صديقي ورفيق رحلة سنوات مضت اثناء الاحتلال الاسرائيلي كمال الدرة حيث كان شغلنا الشاغل هو الحديث الذي فرض نفسه ..كيف سوف نكمل تعليمنا في القاهرة بعد الثانوية العامة،؟ حيث السفر مع الصليب الاحمر والانقطاع عن الاهل طوال عام كامل اذ لابد ان نعمل باقصى طاقة ممكنة لنوفر مصروفات العام…وكنا نتعكز على بعضنا البعض حتى يمر العام وكان حديثنا الشاغل هل سوف يأتي اليوم الذي نتزوج فيه من احببناهم في سنوات العمر الجميلة الحالمة والتي كانت ترسمها لنا اغاني عبد الحليم وافلامه ورومانسية عمر الشريف ورقة وعذوبة فاتن حمامة وابتسامة عيون وشفاه السندريلا سعاد حسني… فقد كانت احلامنا تسابق اعمارنا واذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجساد..فكم جلسنا نهيم تحت سفح هواء صيف شاطئ العريش حيث يخترق هواه العليل مسامات اجسامنا البريئة ويغوص في كهوف خلايانا فيختبئ بين طياتها ليظل يعيش فينا …تخرجنا وفرقتنا الايام وتزوجنا ومنا من نال من احب في سنوات عمره الاولى ومنا من تعثر وصادفته الايام بنصيب اخر وكان كمال ممن نال ما اراد وانجب صبيانا وبناتا وكان الحديث بيننا موصول برغم شقة المسافات سواء من الاحتلال حيث عاش مضطرا في غزة او مابعده..وذات مساء هاتفني ليقول لي ان دينا ابنته قد فازت بمنحة لدراسة الطب في السودان بعد ان حصلت على مجموع عالي وفازت بمسابقة حفظ اجزاء من القرأن وكاد يطير فرحا بها فهي الوحيدة من بين ابنائه التي استطاعت ان تحقق حلمه وهي اصغر ابنائه…ودار بيننا حديث كما كان يدور بيننا في اوقات الشدة في السنوات العجاف حيث صعوبة الوضع والحياة في غزة وانه بقدر فرحته بدينا بقدر خوفه ان لايستطيع ان يوفي لتكمل تعليمها ووقتها رأيت دموعه تسبق كلامه فقلت له لاتقلق ياعزيزي ستكمل دينا كليتها كما اكملنا نحن اتذكر كيف كنا نقتسم مافي جيوبنا؟..وعادت ضحكته الخجولة وقابلت دينا في القاهرة اتية من غزة ومغادرة الى السودان وكان اول لقاء لها بي وكنت على عجلة من امري ففي نفس اليوم كان ابني الاكبر يجري جراحة استئصال المرارة ..وكانت سبحان الله اقرب في الشبه الى اباها وسلمت علي بالاحضان وكانها تعرفني منذ ولدت..واذكر كلماتها جبدا “حسيت فيك ريحة ابوي” وقالت ان ابي دائما كان يحكي لنا عن سنوات العريش والدراسة بالقاهرة وكان الحديث لايخلو ابدا من سيرتك….وظلت طوال سنوات الدراسة على اتصال دائم بي فقد اعتبرتها ابنتي وخاصة انها دخلت نفس مجال عملي وكانت تطوي السنين وتحاول الا تسافر في الاجازات حتى توفر المصاريف وقد شاءت الاقدار ان يتحقق الامل وتجتاز دينا سنوات الدراسة وتحمل بكالوريوس الطب والجراحة وفي حديث تليفوني قالت لي اسمح لي ان اقطع تذكرة للقاهرة ثم الى غزة فقد اشتقت الى اهلي وسوف ادبر ثمن استخراج الشهادات فيما بعد حيث ستبدأ بعد اجازة قصيرة التدريب العملي لسنة الامتياز ثم تحصل بعد ذلك على ترخيص مزاولة المهنة وتبدأ مشوار الحياة العملية ثم التخصص .. ومن فرط حساسيتها وشدة ضغط الدراسة والغربة اصيبت بمرض السكر حيث انزعجت كثيرا من الاعراض وهي لم تزل طالبة في بكالوريوس الطب ولكن عامل الوراثة كان حاكما فقد كان جدها لابيها ولامها من مرضى السكر وقد حاولت شد أزرها قدر ما استطيع وتحدثت الى احد اكبر اساتذة الغدد الصماء بالسودان الذي أحسن استقبالها وبدأ معها رحلة ضبط السكر وتهدأة روعها.. وكانت في تلك الايام قد استكملت حفظ القرأن مماخفف عنها صدمة المرض…وعادت دينا الى غزة لتبدأ سنة الامتياز في احضان والديها الذين طاروا الى السماء فرحا بها وانا كذلك شعرت ان هذه هي ابنتي التي لم انجبها فقد تعلقت بي وتعلقت بها..حيث انني لم ارزق ببنات…وقبل الحرب بايام اخبرتني انها على وشك انهاء عام التدربب في نهاية فبراير القادم وسوف تبدأ في دراسة تخصص الامراض الجلدية كما أوصيتها وتتخصص في التجميل…ولكن القدر كان له راي اخر ..فقد اطفأت قنابل العدو الغاشم نور زهرة تتفتح..فقضت عليها وعلى اسرتها فادمت قلبي تلك الفتاة الصغيرة التي كانت لي بنتا وكنت لها ابا تخبه كما تحب كمال الذي انجبها..وكانت دائما تفتخر ان لها ابوان احداهما مهندس انجبها واخر طبيب رعاها…ماتت دينا قبل ان يكتمل حلمها…ماتت دينا قبل ان ارى ثمرة الكفاح تنضج…ماتت دينا ولم اراها واباها الحبيب..ماتوا بلاجنازة ولاكفن ماتت الزهرة اليانعة وتحجرت الدموع في المأااق وسقطت الانسانية وهوت كل قوانين العدالة على اعتاب وطن يئن من ظلم انسان فاجر لاخيه الانسان المغبون وعند الله يلتقي الخصوم
دكتور صلاح سلام يكتب……دينا