دكتور صلاح سلام يكتب..سنوات الملح
لم تحظ أرض سيناء القاحلة بزخات المطر وكثافة الغيوم مثلما أرض فلسطين التي تلتصق بها جغرافيا وكأن إسراء سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله….تتوقف حدود البركة المذكورة عند الحد الجغرافي …فقد اعتاد اهل هذه البلدة الحزينة في السنوات العجاف الرحيل إلى أرض فلسطين في موسم الحصاد في النصف الأول من القرن العشرين وبالذات إلى مناطق بئر السبع وامتدادها الشاسع وكانوا يسمونه موسم” الحصيدة” ويعملون في اراضي الغير ليعودوا محملين بما تيسر من الحنطة على ظهور جمالهم ودوابهم…وبالطبع كانوا يسعون نحو الشمال في قوافل من الابل والنياق …ولكي تكون الرحلة مجدية فقد كانوا يحملون معهم كميات من الملح فهو المنتج الوحيد الذي تجود به أرضهم فيجففون مياه البحر ويجمعون الملح ليقوموا بتصديره بطريقتهم البسيطة ومن المؤكد انه الملح الخام والذي اقامت عليه فيما بعد شركة النصر للملاحات صناعات متعددة في مصانع سبيكة على مقربة من العريش بعد الزمان بزمان وبفارق خمس عقود تقريبا او اكثر …والغريب في الأمر هو أن الحكومة الرشيدة في ذاك الوقت كانت تعتبر هذا التصرف نوع من التهريب…نعم والله..انا لا امزح فقد كان من الجائز أن يقبض عساكر الهجانة على احد المواطنين متلبسا بتهريب الملح…والناس كانت غلابة وبحسن نية تشكي الى ربها ثمن النشوق كما يقولون في الأمثال فبدلا من أن تذهب قوافلهم خاوية لتحمل ماطاب لهم بعد الجهد الجهيد من حبوب تؤمن لهم معيشة العام فكانوا يبتاعون منتجهم من الملح بقروش قليلة بالكاد تغطي نفقة البطون من الانس ومايركبون …ولكن هيهات …حتى الملح ممنوع وكأنه ثروة قومية لايجب التفريط فيها ويجب تركها بين موجات البحر حتى لاتشتكي قبرص واليونان من نقص اليود اوحتى نقص صبغة اليود….كنت اسمع من والدتي هذه الحكاية التي هي أقرب إلى الهزل من الجد ولا أكاد أصدق نفسي…الا يكفي الزمن وجفافه وشظف العيش…لنزيد الطين بلة بهذه التهمة السخيفة المضحكة…وكأن الملح أصبح نوع من المخدرات…”يعني انتوا والزمن علينا”هذا كان لسان حالهم…وعندما استولى الصهاينة على تلك الأماكن في حرب ١٩٤٨ اقتصرت رحلة الحصيدة على الأرض التي ربما تنال حظا من المطر في مطلع الشتاء في بعض مناطق وسط سيناء واحيانا لاتجود…. فكانوا يذهبون إليها في مطلع الصيفية لجمع الشعير والقليل من القمح وربما بعض البطيخ الذي كان مختلف ألوانه من الداخل حيث يميل للصفرة ويمتاز بكميات اللب ويكون في غير أوان البطيخ القادم من وادي النيل ومختلف في اللون والطعم…وبالتأكيد لم يكن هناك جدوى من تهريب الملح لوسط سيناء فالحال من بعضه…حتى تهريب ارخص سلعة في وقتها على مر التاريخ توقف….وانقضت سنوات الملح