دكتور صلاح سلام يكتب .. مصر الحضارة
في أعقاب نكسة يونية ١٩٦٧ دعا الرئيس شارل ديجول السيدة ام كلثوم للغناء في باريس في مسرح الاولمبيا حرصا منه على رفع الروح المعنوية حيث كان متعاطفا مع قضية الشعب الفلسطيني وحضر الحفل كل السفراء العرب وكثير من الأجانب وثلة من المهاجرين من بلاد العرب وقدم الحفل جلال معوض وقال تغني ام كلثوم اليوم في باريس وغدا تغني في القدس فاشتعلت القاعة وجاء مدير المسرح للسيدة العظيمة وقال لها ارجو الالتزام أن هذا المسرح للغناء ولامكان للسياسة فامرت فرقتها الموسيقية بجمع الالات للمغادرة وهذا معناه إفساد الحفل وضياع التذاكر…حيث قالت انا هنا من أجل المجهود الحربي ومن اجل مصر وجيش مصر فاعتذر مدير المسرح لها وقبل يدها لتعدل عن قرارها وعندما ظهرت على المسرح لم تشكر الرئيس ديجول ولم تعظم الشعب الفرنسي برغم تعاطفهم مع القضية العربية وكم طافت على بلدان العالم العربي وكان يستقبلها الرؤساء والملوك ولم تذكر منهم أحدا على المسرح وحتى عندما كانت تشكر الجمهور لم تتعدى حدود حفاوة الاستقبال وكذلك عبد الحليم حافظ الذي كان صديق الملك الحسن ويغني باللهجة المصرية والمغربية والخليجية لم تخنه زلات اللسان في أن ينطق بكلمة ربما تجرح شعور اي مواطن مصري ….هكذا كان زمن العباقرة عندماوكان الفن من أجل الفن وليس من أجل المال …الذين جابوا مصر شمالا وجنوبا وغنوا في الموالد والأفراح وركبوا الدواب ليصلوا إلى النجوع والقرى وصنعوا تاريخا فالتاريخ يصنع “بضم العين ” ولايشترى”بضم الياء” فمصر هي صانعة النجوم وكل فنانو الوطن العربي كانوا يأتون لأخذ جواز المرور من هذه البوابة ….ان بناء الأمم يأتي بالعرق والكفاح وقدح زناد قواه الناعمة والصلبة أيضا …ان الذي سمك السماء بلا سلم”يضم السين” قد بنى لنا بيتا فوق السحاب نحن لن نتغنى بأننا التاريخ وأننا ام الدنيا ولانريد أن نتعاطى هذه المخدرات صحيح اننا نفخر بالماضي وكان ظلام الدنيا يخيم على العالم ونحن في عز النهار كما ابدع المبدع محمود حسن اسماعيل في دعاء الشرق” كانت الدنيا ظلاما حوله وهو بهدي بخطاه الحائرينا….ارضه لم تعرف القيد ولا خفصت الا لبارئها الجبينا”…ولكن الواقع اننا صناع حضارة وسنظل نحرك الأحداث ورمانة ميزان الوطن العربي ليس بالقوة العددية والعدة العسكرية فحسب بل بعبقرية الشخصية المصرية …قد يمرض الوطن احيانا ولكنه لايموت وسوف يجئ يوم تهب فيه رياح الامل فتنفض كل غبار الكسل والتواكل ونتقدم الصفوف فليس بالمال وحده يحيا الانسان ولا الأوطان…يعز علي بل يؤلمني أن يتفوه البعض وهم ممن تربوا وترعرعوا في مصر وخيرها سواء كانوا من أصول مصرية او من اكتسبوا مصريتهم وهم على المسرح بألفاظ وعبارات تحت تأثير خمرة المال ورائحة الدولارات التي تفقدهم عقولهم فيتغنوا لولي النعم بما يريد حتى تزيد صرة الدراهم…وكأننا رجعنا إلى زمن الجاهلية او حتى زمن الخلافة الأموية اوالعباسية عندما انحدر بها الحال وكيف كان الخليفة يغدق على “الغواني” ومن يمدحه من الشعراء…فما الضير لو انك احترمت نفسك “ومظهرك” وفنك ووطنك وقدمت موهبتك فقط لتتحدث عنك…فالجذور هي الأصل ومهما طالت الاغصان قد تدبل او يقصها الحارس وسوف تزهر من جديد باغصان وورود ربما افضل مما كانت …ان المال هو عصب الحياة لاشك في ذلك ولكنه لايخلق العبقرية ولا يصنع حضارة ولايعيد كتابة التاريخ…قد يحدث طفرة شكلية ولكنها ليست جينية ولاوراثية…ان من سقطوا في بحر العسل وغاصوا فيه لهم من الشعب وقفة ومن حافظوا وتحفظوا فلهم في قلبه غبطة…فكل نفس بما كسبت رهينة…وسوف يظل النيل يجري ويحمل طميه ذرات تنبت رجالا من رحم الأرض الطيبة ..والطيب لايلد الا الطيب وسيذهب الزبد جفاء وأما ما ينفع الناس سيمكث في الارض