صعد الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” إلى أزهى أيامه ، وحقق فوزا كاسحا فى الانتخابات الروسية الأخيرة ، وحصل على 76 مليون صوت بنسبة تناهز 88% من إجمالى المصوتين ، وصار الأطول عمرا على مقعد القيادة الروسية فى المئتى سنة الأخيرة ، وتجاوز سنوات رئاسة القائد الروسى الأشهر فى القرن العشرين “جوزيف ستالين” ، وقد نسبت إلى ستالين ـ ذى المولد الجورجى ـ فظاعات مرعبة ، لكنه كان البانى الأعظم لدولة الاتحاد السوفيتى ، التى تفككت أوائل تسعينيات القرن العشرين ، دخلت روسيا بعدها فى نحو عشر سنوات متصلة من الهوان المفزع ، كان عنوانها الرئيس المخمور دائما “بوريس يلتسين” ، الذى استقال فجأة فى أوائل 1999 ، ليصبح بعدها “بوتين” رئيسا بالإنابة ، ثم أصبح رئيسا رسميا لفترتين متتاليتين حتى عام 2008 ، انتقلت الرئاسة بعدها لفترة أربع سنوات إلى “ديمترى ميدفيديف” صديق “بوتين” وظله الشخصى ، وخلالها جرى تعديل دستورى ، زاد مدة الرئاسة إلى ست سنوات ، حكم فيها “بوتين” مجددا حتى عام 2018 ، وفى فترة رئاسته الرابعة ، أجرى “بوتين” تعديلا دستوريا مضافا عام 2020 ، كفل له فرصة الترشح لمرتين إضافيتين ، فاز أخيرا بأولاها حتى عام 2030 ، وعمره 71 سنة ، ولديه فرصة ترشح سادسة حتى عام 2036 .
وقد يقال لك ، أن الانتخابات الروسية ليست حرة ولا نزيهة ، وأن نسبة المشاركة فى التصويت البالغة نحو 77% ، كلها “أرقام مخترعة” بحسب تعليقات الدوائر الغربية ، ومعها دوائر معارضة صغيرة هاربة إلى عواصم الغرب ، من نوع أنصار المحامى المعارض “إلكسى نافالنى” ، الذى توفى فى محبسه قبل أسابيع من الانتخابات الأخيرة ، وأعرب القيصر “بوتين” فى “خطاب النصر” عن حزنه لوفاته ، وقال أنه كان مستعدا للإفراج عنه مقابل مساجين روس فى عواصم الغرب ، وإن سخر مما يقال عن قوة المعارضة المقموعة ، وقال بأنه لم يكن لها تأثير محسوس فى التصويت ولا فى النتائج ، رغم شن أجهزة مخابرات غربية لعشرات آلاف الهجمات “السيبرانية” خلال الانتخابات ، وقد صار معتادا ، أن تتبادل موسكو مع واشنطن وعواصم الغرب الأخرى الاتهامات بمحاولات التأثير على الانتخابات ، عبر صور من الحروب “السيبرانية” الموازية لحروب السلاح بين روسيا والغرب فى الميدان الأوكرانى ، وكانت نجاحات “بوتين” فيها ، هى كلمة السر فى صعود نجمه الشعبى ، فلم تختلف خرائط منافسيه الانتخابيين الجديين هذه المرة عن سابقاتها ، لكن حظه كان الأفضل بما لا يقاس ، بينما كانت الحظوظ الأقل من نصيب مرشحى أحزاب معارضة ، أظهرها “الحزب الشيوعى” ، الذى أسسه قائد الثورة البلشفية المنشئة للاتحاد السوفيتى “فلاديمير إليتش لينين” ، لكن “فلاديمير بوتين” بدا تكوينا مختلفا عن “فلاديمير لينين” ، الأخير كان شيوعيا حالما على طريقته ، بينما “فلاديمير بوتين” قومى روسى ويحظى بتأييد هائل من الكنيسة الأرثوذكسية ، وبديلا عن صيغة الاتحاد السوفيتى الأيديولوجية ، راح “بوتين” يصوغ هدفه فى صورة “الاتحاد الروسى” الجديد ، الذى يعطى أولوية للعمل وتمتين الصلات فى الفضاء السوفيتى السابق آسيويا ، ولكن مع منح الامتياز للفضاء السوفيتى السابق أوروبيا ، فجعل العلاقة مع “بيلاروسيا” ـ المستقلة ـ فى مقام الوحدة العضوية ، وخاض حربا خاطفة مع “جورجيا” المستقلة ، وانتزع منها إقليمين عام 2008 ، ومنع انضمام “جورجيا” إلى حلف شمال الأطلنطى “الناتو” حتى تاريخه ، ووضع نصب عينيه وضع أوكرانيا وحدودها الطويلة وتداخلاتها العميقة مع التاريخ والنسيج الروسى ، وشن ضربة خاطفة ، استعاد بها لروسيا شبه جزيرة “القرم” عام 2014 ، وكان القائد السوفيتى ـ أوكرانى المولد ـ “نيكيتا خرتشوف” ، قد نزع تبعية “القرم” لروسيا الاتحادية عام 1956 ، وأضافها لأراضى أوكرانيا السوفيتية ، تماما كما جرى ضم منطقة “الدونباس” الصناعية لأوكرانيا فى بداية الحقبة السوفيتية ، ومن هنا نفهم دواعى “العملية العسكرية الروسية الخاصة” فى أوكرانيا ، التى دخلت حربها عامها الثالث ، وعانت روسيا فى أولى سنواتها من ضعف ظاهر ، ربما دفع إليه استهتار الجنرالات الروس ، ومصاعب قواتهم اللوجيستية ، لكن “بوتين” الذى كان يراقب ما يجرى فى هدوء أعصاب حديدية ، راح يراجع ما يجرى ، ويستقى الدروس بسرعة ، على طريقة ما جرى فى حروب روسيا الوجودية الكبرى ، من حملة “نابليون” على روسيا أوائل القرن التاسع عشر ، وإلى حملة “بارباروسا” التى شنها “هتلر” على روسيا بأكثر من أربعة ملايين مقاتل ، وفى الحالتين ، كان الروس يهزمون فيهزمون ، لكنهم ينتصرون أخيرا على نحو ساحق ، وقد لا تكون الحملة الحالية على روسيا أقل وطأة ، فكل دول “الناتو” تشارك بها ، إضافة لآخرين من توابع الغرب وسباياه ، و54 دولة بقيادة أمريكا تحارب روسيا “البوتينية” ، وقد دفعت للميدان الأوكرانى بفيضان عارم من أكثر الأسلحة تطورا ، وقدموا الدعم بمئات المليارات من الدولارات ، وبالمشاركة المباشرة من وراء قناع الجيش الأوكرانى ، وبهدف جهير هو هزيمة روسيا وتفكيكها ، وخنق اقتصادها بعقوبات غير مسبوقة فى التاريخ ، بلغت فى جملتها نحو 18 ألف عقوبة ، كان الهدف هو اعتصار روسيا ، وجعل أوكرانيا “أفغانستان ثانية” للروس ، يكون أثرها كما كان أثر “حرب أفغانستان” فى تسريع تفكيك الاتحاد السوفيتى السابق ، وعبر 25 شهرا من الصدام الكونى ، كانت النتائج حتى اليوم ، أن “أوكرانيا” كادت تتحول إلى “أفغانستان ثانية” للأمريكيين والغرب كله لا للروس ، ونجحت موسكو فى إنهاك خصومها ، وساقتهم من خيبة إلى خيبة ، فلا هم نجحوا فى عزل روسيا عالميا بدعوى اعتدائها على أراضى جارتها أوكرانيا ، ولا هم فازوا فى حرب خنق الاقتصاد الروسى ، وقد انكمش قليلا فى أوائل أعوام الحرب ، ثم عاد إلى نمو مفاجئ فى عام 2023 ، واعترفت المؤسسات المالية الغربية نفسها بنمو الاقتصاد الروسى ، وقدر “البنك الدولى” فى يناير 2024 ، أن الاقتصاد الروسى مرشح للنمو هذا العام بنسبة 1.3% ، وفى العام المقبل ـ 2025 ـ بنسبة 9.% ، وإن بدت الأرقام أقل مما يعلنه الروس بكثير ، فقد نجح “بوتين” فى إعادة صياغة الاقتصاد الروسى ، وقاد خطة اكتفاء ذاتى شامل فى الزراعة والطاقة والابتكار والصناعات التقنية ، ولم تكن إصلاحات “بوتين” محصورة بحدودها ، ولا بثروات بلده الطبيعية السخية فى مجال الطاقة بالذات ، بل استثمر “بوتين” فى حقائق العالم المتغيرة ، واستغنى عن العلاقة المدمرة مع الغرب بعلاقات أوثق مع الشرق ، ومع الصين بالذات ، ومع حيتان “أوبك” فى منطقة الخليج العربى ، وضاعف حجم العلاقات التجارية مع دول الشرق والجنوب العالميين ، وقاد مع الرئيس الصينى حملة توسيع منظمة “بريكس” وكسر هيمنة الدولار الأمريكى ، واستوعب مغزى “حرب أوكرانيا” على خرائط التطور العالمى ، فقد جرت تحولات كبرى قبلها فى موازين الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا ، جعلت تفكيك الهيمنة الأمريكية الأحادية هدفا واردا ، وجاءت حرب أوكرانيا لتكشف ـ لا لتنشئ ـ ما يجرى ، وهو ما وعاه “بوتين” بعلاقة بلا ضفاف مع الصين الصاعدة اقتصاديا إلى عرش العالم الجديد متعدد الأقطاب ، ودمج “بوتين” طموحه “الروسى” فى قلب الدراما العالمية الجارية ، مدركا أن نجاح التحول مرتبط بمصائر حربه ، وواصل عملية إعادة تنظيم واسعة للجيش ، وعدم الاكتفاء بالتفوق الروسى الحاسم فى الأسلحة النووية والصواريخ بعيدة المدى فرط الصوتية ، بل الاتجاه لتطوير وتحديث مقدرات روسيا فى الأسلحة التقليدية وتحت النووية ، وقفز بالصناعات العسكرية إلى حدود مخيفة ، جعلت روسيا ـ كما تقول المراجع الغربية ـ تفوز فى سباق إنتاج الأسلحة ، فروسيا تنتج وحدها نحو 3.5 مليون قذيفة حربية سنويا ، بينما لا ينتج الغرب كله سوى 1.2مليون قذيفة ، كذا فى سباق إنتاج الطائرات والصواريخ والسفن والطائرات المسيرة الانتحارية ، وهو ما كان له أثره المباشر فى الميدان الأوكرانى ، وقلب المعادلات كليا ، ليس فقط بإفشال ومحو آثار الهجوم الغربى المضاد من وراء القناع الأوكرانى ، بل فى التقدم الروسى بعده إلى قضم تدريجى نشيط للمدن والبلدات فى مناطق “الدونباس” و”زاباروجيا” و”خيرسون” ، ربما على سبيل التمهيد لهجوم روسى شامل فى الشهور المقبلة ، وهو ما دفع أصواتا غربية إلى التحذير من عواقب الانتصار الاستراتيجى للروس ، وإلى إعلان الرئيس الفرنسى “ليونيل ماكرون” عن ضرورة إرسال قوات “الناتو” إلى أوكرانيا لتوقى الهزيمة الشاملة للغرب ، وهو ما بدا مشهدا كوميديا بائسا ، تهزأ به روسيا وتتعهد بتدميره ، بينما تعارضه دول الغرب الأكبر ، ربما لأنها صارت تدرك جيدا ، أن اللعبة انتهت أو كادت ، وهو ما يعترف به تقرير أجهزة المخابرات الأمريكية السنوى الأخير لعام 2024 ، الذى يصف روسيا بأنها “خصم مرن” قادر على تقويض مصالح أمريكا والغرب .