عبد الحليم قنديل

دكتور عبدالحليم قنديل يكتب.. “جنين” عاصمة الحلم الفلسطينى 

 

    عشرون عدوانا إسرائيليا شاملا فى الستة شهور الأخيرة وحدها على مخيم “جنين” الصغير، الذى لا تزيد مساحته مع جواره على كيلومتر مربع واحد ، ومع العدوان الأخير الأوسع الأشرس ، وبهدف اجتثاث أسطورة مقاومة “جنين” وبنيتها التحتية ، صمدت عاصمة الفداء الفلسطينى الحاضر ، واضطرت قوات النخبة فى جيش الاحتلال إلى الانسحاب مؤقتا ، بعد يومين من هدم المنازل وتجريف الشوارع وقتل المدنيين المسالمين ، والقصف بالطائرات والصواريخ والمدافع ، وودعت “جنين” شهداءها فى جنازة مهيبة ، ولكن من دون أن ينكسر حلم “جنين” ، ولا إلهامها العفى ، وصناعتها العبقرية لأبطال عظام ، يتناسلون جيلا فجيل ، منذ أن كانت “جنين” صخرة تكسر عندها هجوم عملية “السور الواقى” لصاحبها المجحوم “شارون” ، قبل أكثر من عشرين سنة ، وقتها ، كان فدائيو “كتيبة جنين” الحالية أجنة فى بطون أمهاتهم ، اللاتى شهدن تدمير جيش الاحتلال لبيوت المخيم الفقيربالكامل ، ولكن من دون أن تهزم روح المقاومة السارية وجيناتها ، فى مخيم يلخص أحزان المأساة الفلسطينية ، ويطل من موقعه الجغرافى الفريد على قلب الداخل الفلسطينى المحتل فى نكبة 1948 ، وينتسب بأرضه إلى شمال الضفة الغربية المحتلة فى عدوان 1967 ، ويجسد الهم الفلسطينى بكافة مراحله وكامل أوصافه ، ويلد من أصلاب الرجال والشهداء أطفالا موسومين بوشم المقاومة ، ما إن يذهب الواحد منهم إلى مصير الشهادة الجليلة ، حتى يصير مثالا يحتذى عند رفاقه ، ويجعل من “جنين” وجوارها ، صداعا لا يهدأ فى رأس كيان الاحتلال ، يذكره على الدوام بجرائمه وهمجيته ووحشيته ، وينذره بخطر المقاومة التى ولدت لتبقى ، وبأن “جنين” هى عنوان فلسطين الأسيرة بكاملها ، وبأن الآباء الذين قهروا “شارون” ، الذى كانوا يسمونه “ملك إسرائيل” ، ستظل قادرة على هزيمة وقهر خلفائه من المجرمين وأرباب السوابق فى حكومة “بنيامين نتنياهو” الراهنة ، وما يأتى بعدها ، وكما ذهب “شارون” إلى حتفه بعد غيبوبة دماغه لثمانى سنوات متصلة ، فلن يكون مصير “نتنياهو” والوزراء ” يوآف جالانت” و” بتسلئيل سموتيريتش” و” ايتمار بن غفير” وغيرهم ، لن يكون أفضل من نهاية سيدهم ومعلمهم “إرييل شارون” رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق .

  نعم ، ستظل “جنين” عاصمة للحلم الفلسطينى ، الذى يولد من رحم المأساة ودمارها ، ولن يكون العدوان العشرون عليها هو الأخير ، ربما لأن مساحتها الضيقة تتمدد فى الوجدان والقلوب ، وتسرى بعدوى المقاومة الأسطورية إلى جغرافيا فلسطين بكامل عذابها واتساعها ، فبرغم تغير ظروف الوضع الفلسطينى على مدى العشرين سنة الأخيرة ، وتدهور مؤشراته السياسية العامة ، وملاحقة السلطات الضارية لخلايا الفدائيين فى القدس والضفة الغربية بالذات ، برغم كل القيود والمهانات والتراجعات والانقسامات ، بدت “جنين” العنيدة كأنها تمضى فى الاتجاه المعاكس ، وكأنها قلعة المقاومة الصامدة المتجددة تلقائيا ، وبدا مقاوموها فى وحدة لا تهزها انقسامات السياسة ، وجمعوا فدائيى “حركة حماس” و”حركة الجهاد” و”حركة فتح” فى عروة وثقى لا تنفصم ، بدت حركة “الجهاد” وجناحها العسكرى “سرايا القدس” فى وضع المبادر بالسنوات الأخيرة ، وكونت النواة فيما يعرف باسم “كتيبة جنين” ، التى ضمت إليها عناصر مما كان يعرف باسم “كتائب شهداء الأقصى” الجناح العسكرى لحركة “فتح” ، ثم دخلت فى الصورة عناصر “كتائب القسام” الجناح العسكرى لحركة “حماس” ، وفى “جنين” لا يختلفون ولا يتمارون ، فالقضية مباشرة وظاهرة وساطعة ، وعند الكل قناعة واحدة ، أن جلاء الاحتلال لا يكون بغير الدماء ، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها ، وأن الإبداع الكفاحى المسلح هو سبيل التحدى ، وبدأوا على طريقة “غزة” التى تختلف أوضاعها الميدانية ، فى جمع السلاح وتطوير صناعة العبوات الناسفة والمتفجرات والقذائف ، وإلى أن بلوروا ما كان يبدو مستحيل التصور ، وجعلوا تقليد كتائب المدن والجهات ينتشر وتتصاعد وتيرته ، بدءا بمدن شمال الضفة فى “نابلس” و”وطولكرم” وغيرها ، ثم فى مدن وقرى وسط الضفة الغربية وجنوبها ، وإلى أن تكاملت دوائر وبؤر مقاومة محلية فى أغلب الجهات ، ربما تنتظر خبرة التنظيمات الأقدم والأطول باعا ، ربما لإحكام طرق العمل والتنظيم السرى وبناء جيش المقاومة الجديد ، فى منطقة خطرة مكشوفة مراقبة كل لحظة من جيش الاحتلال ، ومن أدوات تجسسه واختراقاته البشرية والتكنولوجية ، وفى كل الضفة الغربية التى يطلق عليها العدو اسم “يهودا والسامرة” بحسب التاريخ التوراتى ، ويعتبرها قدس أقداسه ، وقلب مشروعه الاحتلالى الاستيطانى الإحلالى من حول القدس ، والمقاومة الفلسطينية المسلحة فيها وانطلاقا منها ، هى أخطر ما يفزع كيان الاحتلال غريزيا ، ويدفعه لمضاعفة عنصريته وعدوانيته وبطشه وحرقه للمدن والقرى وتنكيله بأصحاب الأرض ، عبر قوات جيش الاحتلال أو من قطعان المستوطنين وعصاباتهم الإرهابية الدموية المسعورة ، وبما يزيد فى المقابل من اشتعال جمرة المقاومة وتدافع حضور دواعيها الساخنة ، دفاعا عن حق الحياة فوق قداسة الأرض ، ويحفز سعى الجيل الفدائى الفلسطينى الجديد لتكثيف العمل المقاوم ، وفى بيئة شعبية حاضنة بأغلبها لنداء المقاومة المسلحة وجماعاتها التلقائية أو المنظمة ، بعد أن انتهت اتفاقات “أوسلو” وأخواتها إلى بوار نهائى ، وبعد أن سقطت كل رهانات التسوية الخادعة ، وبعد إغلاق سوق المفاوضات العبثية قبل عشر سنوات ، وبعد أن توارت كل الأقنعة المستعارة ، وأعلنها “نتنياهو” أخيرا بوضوح صارم ، وقال أن هدف حكومته وجيشه ومستوطنيه لم يعد يخفى ، فلا مكان عنده لما يسمى “حل الدولتين” ، ولا مناص ـ بحسب تصوره ـ من اجتثاث فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة ، ومن ضم الضفة الغربية ـ مع القدس ـ بكاملها ، وأن مصير “السلطة الفسطينية” لا يعنى عنده شيئا كثيرا ولا قليلا ، ولا بأس أن تبقى فى حدود إدارة ذاتية محلية ، وهكذا هدم “نتنياهو” كل معابد “أوسلو” ووعودها ، وأشهر وفاتها بجرة قلم ، وقد لا يكون ذلك جديدا فى مضامينه ، لكن إعلان “نتنياهو” الوقح ، حرق مراكب المساومين جميعا ، ونزع ورقة التوت عن عورات الحكومات العربية المطبعة ، وكشف نفاقهم الرسمى اللزج ، وأحاديثهم الاستغفالية عن التفاوض كطريق لإقامة دول فلسطينية عاصمتها القدس المحتلة ، فلم تعد من معانى لهذه الكلمات المحنطة ، ولا من مصداقية لخرافة التعويل على الراعى الأمريكى ، الذى أعلن هو الآخر ـ بوضوح قاطع ـ تأييده للعدوان الإسرائيلى الأخير على “جنين” ، واتفاقه المسبق مع كيان الاحتلال على شن العدوان ، وبدعوى اجتثاث “إرهاب جنين” ، فيما اكتفت الحكومات وجامعتها (العربية) باستنكارات باهتة للعدوان ، وكأنه لم تصلها الرسالة الجهيرة السافرة لكيان الاحتلال ، الذى يزدرى وساطات حكومات التطبيع ، ويعتبر ما يفعله فى القدس والضفة وغزة شأنا داخليا خالصا له ، وليس لأحد حق التدخل فيه ، إلا بالخضوع والتسليم لكيان الاحتلال بما سرق ، ومن دون سلام ولا كلام عن “الشرعية الدولية” وقراراتها ، التى صدرت وتراكمت بالمئات ومن دون تنفيذ ، وتحولت إلى حبر جف فوق الورق ، فالحقائق على الأرض تصنعها القوة ، ونصرة الحق الفلسطينى لم يعد لها سوى سبيل وحيد ، هو المقاومة التى تنهك قوة الاحتلال ، والدم الذى يهزم السيف ، وهذا هو طريق “جنين” وأخواتها ، وكل تخلف عنه يعنى العكس بالضبط ، فكل تطبيع هو خدمة مباشرة لكيان الاحتلال ، وكل تعويل على تفاوض ذهب مع الريح ، وقد أعلنت “السلطة الفلسطينية” نفسها ، وقف كل اتصال أو “تنسيق أمنى” مع جيش وحكومة الاحتلال ، وهو ما نأمل أن يكون صحيحا ونهائيا هذه المرة ، وليس امتصاصا موقوتا لسخط وغضب شعبى ، فلا يكفى وقف التنسيق “الأمنى” ، حتى لو صدق الوعد واستمر ، ولا ترديد أوهام من نوع طلب “حماية دولية” للفلسطينيين ، يعرف من ينادون بها أنها مجرد “طق حنك” ، فلن يحمى الشعب الفلسطينى سوى طلائعه المقاومة ، ولن ينقذ الأمة من عارها سوى وقف تطبيع الحكومات فى الحد الأدنى ، ولن ينقذ الحلم الفلسطينى سوى التوحد على كلمة “جنين” واختيارها ، وما من قيمة كبيرة ولا صغيرة لانتخابات فلسطينية ، أو غيرها من عناوين تطرح عادة كشروح لانقسام سياسى فلسطينى ، وتقدم كأعذار وخلفيات لدوام الاحتراب السياسى بين حكومة غزة وحكومة رام الله ، ومفتاح الاتقاق الفلسطينى على كلمة سواء فيما نظن ، هو المقاومة وحدها ، وبكل السبل الشعبية والمسلحة ، والعودة إلى هدف تحرير فلسطين على مراحل ، وبعث كيان جديد جامع لمنظمة التحرير الفلسطينية ، يوحد جماعات الفداء الفلسطينى فى ساحاتها جميعا ، فلا تحرير ولا خلاص من الاحتلال بالكلمات والشعارات المتخشبة ، بل بتحدى وإنهاك قوة الاحتلال ، وإلى أن تزيد تكلفة بقاء الاحتلال على مزاياه المتصورة عند أهله ، وهذا هو طريق كل الأمم والشعوب الحية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى