ماذا يعنى كل هذا التدفق الغربى الهائل للمعونات والأسلحة إلى الميدان الأوكرانى ؟ ، الاتحاد الأوروبى سبق له التعهد بتقديم 50 مليار يورو ، واشنطن قررت بعد تلكؤ تقديم 61 مليار دولار إضافية ، وبريطانيا تعهدت بدعم إضافى قيمته 5 مليارات جنيه استرلينى ، إضافة لمنح مليارية من اليابان وغيرها ، والهدف القريب ظاهر فى ردع التقدم العسكرى الروسى خلال الشهور الأخيرة ، وربما الاستنزاف الكلى لطاقة روسيا العسكرية والاقتصادية ، فهل يبدو ذلك ممكنا ؟ .
ربما لا يحتاج الجواب إلى كثير من التخمين ، تكفى خبرة الحرب الأوكرانية المتصلة اليوم فى عامها الثالث ، وهى حرب ذات طابع عالمى تجرى فى الميدان الأوكرانى ، تواجه فيها روسيا منفردة تحالفا واسعا يضم نحو 54 دولة ، وقدم فيها الغرب السياسى وحلف شمال الأطلنطى (الناتو) مئات المليارات من الدولارات ، وكل الأسلحة الأكثر تطورا ، من صواريخ “جافلين” و”ستينجر” إلى “هيمارس” إلى “ستورم شادو” و”سكالب” و”أتاكمز” ، ومن دبابات ومدرعات “برادلى” و”تشالينجر” و”ليوبارد” و”أبرامز” ، ومنظومات الدفاع الجوى من “أيريس تى” و”ناستامز” و”باتريوت” وغيرها ، والملايين من المدافع والذخائر العنقودية والموجهة ، والطائرات المقاتلة بكافة أنواعها ، وينتظر إضافة مقاتلة “إف ـ 16” الأمريكية مع عشرات مليارات الدولارات المضافة ، فوق فرض سلاسل عقوبات اقتصادية ومالية فلكية على روسيا ، يفوق عددها إلى اليوم أكثر من 18 ألف عقوبة ، فماذا كانت النتائج ؟ ، لا شئ تقريبا جناه الأمريكيون والغرب كله ، اللهم إلا الخيبات والهزائم تلو الهزائم فى محصلة العامين والشهرين حربا إلى الآن ، فقد جرى دحر الهجوم الغربى المضاد فى عام 2023 ، وقد أملوا أن يستردوا بالهجوم أغلب أو كل الأراضى الأوكرانية التى سيطرت عليها روسيا ، وربما استعادة شبه جزيرة “القرم” التى ضمتها روسيا عام 2014 ، بينما روسيا التى تعرضت لانتكاسات عسكرية نهاية عام الحرب الأول 2022 ، وخسرت بعض الأراضى فى “خاركيف” وغرب “خيرسون” ، لكنها استوعبت الدروس بسرعة ، وأعادت تنظيم قواتها وخطوط دفاعها وهجومها فى أوكرانيا ، وزادت إنتاجها الحربى أضعافا مضاعفة ، وإلى حد أنها صارت تنتج الآن أكثر مما ينتجه الغرب كله ، وبالذات فى الذخائر والقذائف ، التى تنتج منها اليوم نحو 3.5 مليون قذيفة سنويا ، بينما ينتج الغرب كله 1.2 مليون قذيفة فى السنة ، إضافة لتفوق روسيا على الغرب كله فى إنتاج الدبابات ومنظومات الدفاع الجوى الأحدث ، والتوسع فى إنتاج الطائرات المسيرة (الدرونات) بمئات الآلاف سنويا ، فوق مضاعفة عدد قواتها العاملة فى الميدان الأوكرانى ، وكل ذلك من دون أن يغير الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” من وصف ما يفعله فى أوكرانيا ، فقد ظل يستخدم وصف “العملية العسكرية الخاصة” ، وابتعد عن صفة الحرب ، التى يلزمه إعلانها بحالة طوارئ عامة وتعبئة شاملة لقوات الجيش الروسى ، ومع ذلك ، كان التقدم العسكرى الروسى مطردا ظاهرا فى الميدان ، وبالذات فى الشهور الأخيرة بعد دحر الهجوم الغربى المضاد من وراء القناع الأوكرانى ، وتوالى سقوط قرى وبلدات منطقة “الدونباس” الصناعية خاصة فى مقاطعة “دونيتسك” ، فقبل الهجوم الغربى المضاد ، الذى بدأ أوائل يونيو 2023 ، كانت القوات الروسية سيطرت على “سوليدار” ثم “باخموت” ، وبعد دحر الهجوم ، توالى سقوط “ماريينكا” ثم “أفدييفكا” ، وقد كانتا من القلاع العسكرية شديدة التحصين ، وبعد نهاية معركة “أفدييفكا” أواسط فبراير 2024 ، مضت حرب أوكرانيا على وتيرة محسوسة ، لا يميزها سوى الاستطراد فى عملية قضم روسى تدريجى نشيط ، توالى معها سقوط “فوديان” غرب مدينة “دونيتسك” ، وسقوط “بيرفومايسكى” و”نوفوباخموتيفكا” وأخيرا “أوشرتينو” و”سيمينفكا” غرب “أفدييفكا” ، وتطويق “سولوفيفو” و”نوفوكالينوفى” ، بعد الاستيلاء على “إيفانوفسكى” و”بوجدانيفكا” وتطويق “كونستانيفكا” فى الطريق إلى “تشاسيف يار” غرب مدينة “باخموت” ، و”تشاسيف يار” هى المعركة الأهم فى عملية استكمال السيطرة الروسية على “الدونباس” ، إذ أنها تفتح الطريق لأهم المدن المتبقية فى “الدونباس” تحت السيطرة الأوكرانية ، وبالذات مدن “كراماتورسك” و”سلافيانسك” و”سيفرسك” ، وفى حال إكمال الروس السيطرة عليها ، تكون القوات الروسية قد ترجمت فعليا قرار “الكرملين” و”الدوما” بضم مقاطعتى الدونباس “لوجانسك ودونيتسك” ، إضافة لأراضى مقاطعتى “زاباروجيا” و”خيرسون” شرق نهر “الدنيبرو” ، ولا تتبقى سوى معارك أصغر ضد جيوب أوكرانية فى “رابوتينى” و”فيربوف” و”كرينكى” ، غير أن أحدا لا يثق فى توقف التقدم الروسى عند حدود نهر “الدنيبرو” ، وهو ما دفع واشنطن وتوابعها إلى حملة إنقاذ مضافة بمئات المليارات الجديدة ، وعلى أمل دعم صمود أفضل لقوات الجيش الأوكرانى ، ولعشرات الآلاف من عناصر الفيالق الأجنبية الغربية المتواجدة على الأراضى الأوكرانية ، وإرباك خطط التوسع الروسى ، والتنسيق فى شن هجمات بالصواريخ والمسيرات المائية على جسر القرم (جسر كيريتش) ، ومضاعفة معدلات الغارات بالدرونات على مناطق بالداخل الروسى ، والحيلولة دون إكمال الإعداد لهجوم روسى كاسح متوقع فى الصيف الوشيك ، فيما تبدو روسيا عازمة على إكمال عملها العسكرى، وتعد لمعارك ثأرية مع الأسلحة الأمريكية المضافة ، وبالذات مع طائرات “إف ـ 16” الأمريكية ، عبر استخدام أحدث نظم دفاعها الجوى “إس ـ 500” ، التى أعلن وزير الدفاع الروسى “سيرجى شويجو” أخيرا عن وضعها فى الخدمة ، ويبلغ مدى عمل رادارتها إلى 900 كيلومتر ، وتأمل روسيا أن تجعل من أوكرانيا مقبرة للطائرات الأمريكية ، تماما كما جرى مع أحدث الدبابات “ليوبارد” الألمانية و”تشالينجر” البريطانية و”أبرامز” الأمريكية ، وكما جرى مع نظام الدفاع الجوى “باتريوت” مفخرة الصناعة العسكرية الأمريكية ، والمعنى فى المحصلة ، أن روسيا قد تتعرض لبعض الضربات الموجعة فى الأسابيع والشهور المقبلة ، لكنها ـ أى الضربات ـ لن تؤثر نوعيا فى مغزى التقدم العسكرى الروسى ، وربما لن تعيق كثيرا خطط الهجوم الروسى المضاد ، التى قد تشمل إقامة مناطق عازلة فى مقاطعتى “خاركيف” و”سومى” بالشمال الشرقى الأوكرانى ، وربما وضع ميناء “أوديسا” فى عين العاصفة ، وبهدف حرمان أوكرانيا من إطلالاتها الأخيرة على “البحر الأسود” ، وتوقى موارد الخطر على جسر القرم وسفن الأسطول الروسى ، التى تعرضت لضربات متلاحقة ، تجرى بالطبع بتعاون وتنسيق تام مع أمريكا وبريطانيا بالذات ، وكانت روسيا قد حولت “بحر آزوف” إلى بحر روسى بالكامل بعد السيطرة المبكرة على مدينة “ماريوبول” الأوكرانية ، وقد تسعى لتكرار معركة “ماريوبول” فى “أوديسا” هذه المرة ، إضافة لتكثيف ضرباتها الصاروخية على مدن ومقاطعات أوكرانيا غرب نهر “الدنيبرو” من “كييف” إلى “لفيف” ، وبهدف تدمير واردات الأسلحة الغربية أولا بأول ، وشل حركة الكيان الأوكرانى ، بالنسف المنتظم لمحطات الطاقة ومخازن السلاح والمطارات ومراكز التدريب وقوات “الناتو” العاملة هناك دون إعلان ، وقد بنى الروس تصوراتهم على أساس خوض حرب استنزاف معاكسة ، تستدرج الغرب إلى تقديم فتدمير كل ما يملكه ويدفعه إلى الميدان الأوكرانى ، مع الحرص على استخدام الحد المتناسب من القوات والأسلحة والتقنيات الروسية ، وعبر توفير موارد مالية يبدو كأنها لا تنفد ، خصوصا بعد الفشل المدوى للغرب فى خنق الاقتصاد الروسى ، والتغيرات الجوهرية فى اتجاهات حركة الاقتصاد الروسى ، واستقواؤه بتحالف بلا حدود مع الصين ، فشلت الضغوط الغربية فى فصم عراه ، مع اشتراط الصين وقف تدفق السلاح الأمريكى والغربى إلى أوكرانيا ، وتقديمها لمصالحها الكبرى فى تمتين علاقاتها مع موسكو ، التى تكفل لها فرصا أفضل فى مواجهة أمريكا وتوابعها فى شرق آسيا ، وفى متابعة سعيها الصلب لاستعادة “تايوان” إلى البر الصينى الرئيسى ، وكلها ـ مع غيرها ـ مصالح صينية متعارضة بالجملة مع المصالح الغربية ، ومن مصلحة الصين تأكيد وتوسيع تحالفها مع روسيا ، وهو ما كان عاملا مؤثرا فى تحقيق الاقتصاد الروسى للمفاجأة ، وعودته إلى كسب معدلات نمو لافتة رغم نفقات السلاح المتضاعفة ، فقد حققت روسيا رقما ضخما فى احتياطياتها الدولية الأجنبية ، تجاوز حاجز 600 مليار دولار ، رغم تجميد أصول سابقة لها فى الغرب بقيمة 300 مليار دولار ، تحاول واشنطن والاتحاد الأوروبى سرقتها رسميا ، وإن كانت تتخوف من أثر هذا الإجراء على سمعة بنوكها وأنظمتها المالية ، وتتخوف أيضا من رد فعل روسى ، يهدد فى المقابل بمصادرة أصول لشركات غربية ، تناهز قيمتها 300 مليار دولار .
والمعنى ببساطة ، أن سباق الاستنزاف المتبادل ، لن تكون ضحيته روسيا على الأغلب ، بل ربما يكون الغرب ـ وجناحه الأوروبى بالذات ـ هو الضحية المختارة ، ليس فقط فى ميادين الاقتصاد ، بل قبله فى ميدان المواجهة العسكرية ، التى يخسرها الغرب فى إطراد ، وتخسرها “واشنطن” المذعورة من النمو المتسارع لاقتصاد الصين ، ومن هيمنة “بكين” على الإنتاج الصناعى والتجارة العالمية ، ومن تقدم روسيا العسكرى الغلاب فى ميدان الحسم الأوكرانى .