لا تبدو فى الأفق من نهاية قريبة لحرب “غزة” ، رغم وجود كلام من هنا وهناك عن محاولات تجرى لتعويم ما تسمى “صفقة بايدن” ، وتنشيط دور الوسطاء فى مصر وقطر ، وربما البحث عن وقف إطلاق نار موقوت أو مستديم ، إلا أن فرص النجاح لا تبدو متاحة ، ونوايا كيان الاحتلال ظاهرة ، عبر عنها بوضوح “بنيامين نتنياهو” رئيس وزراء العدو ، ففى أول حوار صحفى أجراه بالعبرية منذ تسعة شهور هى عمر الحرب إلى الآن ، قال “نتنياهو” للقناة 14 “الإسرائيلية” الموالية لحكومته ، أن الحرب لن تتوقف فى “غزة” ، إلا إذا جرى تفكيك حركة “حماس” وأخواتها ، وأن قصارى ما يمكن أن يقبله ، هو المرحلة الأولى فقط من الصفقة المعروضة ، وأن يعيد بعض الأسرى المحتجزين لدى “حماس” مقابل أسرى فلسطينيين ووقف نار موقوت لستة أسابيع ، يعود بعدها لاستئناف القتال ، حتى لو تغيرت طبيعة القتال ، وانتهت ما أسماها مرحلة القتال المكثف ، والانتقال إلى شن هجمات موضعية وعمليات اغتيال لقادة وكوادر المقاومة الفلسطينية .
وطبيعى ، أنه ليس بوسع الوسطاء العرب ، أن يفعلوا شيئا إزاء انسداد سبل التفاوض ، فهم يعولون على الموقف الأمريكى ، الذى يبدو حائرا مرتبكا مترددا ، بل وراضيا بالخضوع لمشيئة “نتنياهو” ، الذى يجهز لإلقاء خطابه أمام الاجتماع المشترك لمجلسى الكونجرس الأمريكى أواخر يوليو المقبل ، بينما تضيق فرص المناورة على الرئيس الأمريكى “جو بايدن” فى عام “البطة العرجاء” ، وقد تصور “بايدن” أن وصف صفقته بالمقترح “الإسرائيلى” ، قد يسهل مهمته فى إقناع “نتنياهو” بقبولها ، والموافقة على اقتراح الثلاث مراحل المنتهية بوقف الحرب وانسحاب الاحتلال بالكامل من “غزة” ، ودأب “بايدن” ومعاونوه على شن الحملات ضد حركة “حماس” ، وإدعاء أنها العقبة الوحيدة فى طريق الصفقة ، التى تحولت إلى قرار صدر عن مجلس الأمن الدولى ، أبدت “حماس” إيجابية ومرونة فائقة تجاهه ، وأعلنت موافقتها الصريحة على مبادئ ومراحل الصفقة المطروحة ، وإن طالبت بتعديلات فى التفاصيل ، تطلب ضمانات لإلزام “إسرائيل” بوقف إطلاق نار وانسحاب كامل ، وإعادة كل النازحين الفلسطينيين بغير قيد ولا شرط ، وهو ما يتوافق مع النصوص الظاهرة للصفقة وقرار مجلس الأمن ، وفى حين كررت “حماس” إعلان موقفها الإيجابى ، إلا أن “إسرائيل” لم تعلن أبدا عن موافقة مماثلة ، وتركت للأمريكيين حق إعلان موقفها بالوكالة ، رغم إعلان “نتنياهو” من البداية ، أن ثمة فجوات بين موقفه وصفقة “بايدن” المعلنة فى خطاب 31 مايو الماضى ، وأنه لن يتنازل أبدا عن هدف “النصر المطلق” ” ، وهو ما عادت الحكومة “الإسرائيلية” رسميا لتأكيده عقب صدور قرار مجلس الأمن المعنى ، وقالت المندوبية “الإسرائيلية” فى الأمم المتحدة ، أن “إسرائيل” لن توقف الحرب حتى تفكيك “حماس” ، وهو ما دعا الأخيرة إلى مطالبة الإدارة الأمريكية بالضغط على “إسرائيل” لإعلان موافقتها المبدئية المزعومة ، خصوصا بعد أن أعلن “جيك سوليفان” مستشار الأمن القومى الأمريكى ، أن التعديلات التى طلبتها “حماس” طفيفة ، ويمكن التفاوض حولها ، وبالذات فى ثغرة إعادة التفاوض خلال المرحلة الأولى ، واشتراط موافقة “إسرائيل” على الانتقال للمرحلة الثانية ، التى يفترض أن يجرى خلالها إخلاء سبيل المحتجزين العسكريين “الإسرائيليين” وبدء وقف إطلاق النار الدائم وانسحاب قوات الاحتلال بالكامل ، وهو ما استمرت إدارة “بايدن” فى غض الطرف عنه ، ومواصلة فرية اتهام “حماس” بأنها تعيق تنفيذ الصفقة ، وهو ما عاد لتكراره بصلافة الجنرال “لويد أوستن” وزير “البنتاجون” قبل أيام ، حين تحدث فى الجزء العلنى من لقائه فى واشنطن مع وزير الحرب “الإسرائيلى” “يوآف جالانت” ، وبدا “أوستن” عاقلا منطقيا بقوله ، أنه لا توجد حرب بلا نهاية ، لكنه ألقى باللائمة على “حماس” التى تعيق صفقة النهاية على حد زعمه ، ولم ينطق بحرف عن التعنت “الإسرائيلى” ، ولا عن موقف “نتنياهو” الصريح برفض المرحلتين الثانية والثالثة من الصفقة ، وعودته إلى التأكيد على ذات الموقف بعد حديثه القاطع إلى “القناة 14” ، وإن راوغ فى حديث لاحق أمام “الكنيست الإسرائيلى” ، وتظاهر بقبوله الصفقة مع مواصلة القتال ضد “حماس” ، ومن دون أن يشرح لأحد كيفية التوفيق بين انهاء”حماس” والتفاوض معها فى الوقت ذاته (!) ، وهكذا بدا “نتنياهو” مستعليا حتى على موقف الإدارة الأمريكية الرسمى المعلن ، ومن دون أن يجرؤ مسئول أمريكى على انتقاد مراوغات “نتنياهو” ، بل واصلت الإدارة الأمريكية خضوعها لابتزاز “نتنياهو” ، الذى شن هجوما مباشرا على إدارة “بايدن” ، واتهمها بتقليص صفقات السلاح الأمريكى الذاهبة إلى “إسرائيل” ، وتخفيض عدد شحنات السلاح من 240 صفقة فى الشهور الأربعة الأولى لحرب الإبادة ، وإنزالها إلى 120 صفقة فى الأربعة شهور التالية ، وهو ما اعتبرته الإدارة الأمريكية تحريضا مهينا لها ، ورغبة ضمنية من “نتنياهو” فى قطع الطريق على “بايدن” فى انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة ، ودعما مباشرا لحظوظ “دونالد ترامب” الذى يفضله “نتنياهو” ، الذى ضرب عصافير كثيرة بحجر واحد فى واشنطن ، بدفع إدارة “بايدن” المذعورة من نفوذ اللوبى الصهيونى ، إلى التسليم وتنفيذ كل مطالب “نتنياهو” من السلاح الأمريكى ، الذى يتعجله لإكمال حرب الإبادة فى “غزة” ، وتجنيد القوات الأمريكية نفسها للدفاع عن “إسرائيل” حال اشتعال الحرب فى الشمال مع “حزب الله” ، وهو ما لن يجد “بايدن” بديلا عن التجاوب معه ، وإن توالت غمغمات أركان إدارته عن التخوف من مخاطر حرب واسعة شاملة على “إسرائيل” ذاتها ، فقد جعل “نتنياهو” من السباق الانتخابى بين “بايدن” و”ترامب” سباقا من نوع آخر ، ورهانا متبادلا على أيهما يدعم ويخدم “إسرائيل” أكثر ؟ ، ويزيد فى مزاد توريد السلاح لكيان الاحتلال والانغماس المباشر للقوات الأمريكية فى حروب “نتنياهو” التى لا تنتهى .
والمعنى فى الجملة ، أنه لا أفق ظاهر لتنشيط أدوار الوسطاء ، وأن وقائع الميدان الحربى هى التى تفرض كلمتها ، وما من جديد يذكر فى دعم واشنطن لجيش الاحتلال ، وقد كانت ولا تزال القوات الأمريكية شريكا مباشرا فى حروب “إسرائيل” الجارية ، ومن دون أن ينجح كيان الاحتلال فى حسم الحرب بالسلاح والقتال المباشر ، ولا نجحت القوات والأساطيل الأمريكية والبريطانية ، التى خسرت معاركها ضد قوات جماعة “الحوثى” فى اليمن ، وعجزت عن إعادة فتح البحر الأحمر للملاحة الدولية ، خصوصا للسفن الذاهبة إلى كيان الاحتلال ، تماما كما عجزت الأطراف نفسها مجتمعة عن نصرة “إسرائيل” فى “غزة” ، رغم التجنيد الكامل للقدرات الأمريكية والبريطانية والغربية الاستخباراتية والعسكرية ، فلم تنجح حملة “الأرمادا” الغربية فى تحقيق هدف واحد لحرب الإبادة ، اللهم إلا فى تنفيذ آلاف المجازر الوحشية بحق الفلسطينيين المدنيين الأبرياء ، ومن دون النجاح بتحقيق هدف طرد الفلسطينيين إلى خارج وطنهم التاريخى المقدس ، بينما كان الفشل الذريع المريع عنوانا متصلا فى كل معارك القتال وجها لوجه مع حركات المقاومة الفلسطينية ، رغم اجتياح جيش الاحتلال “الإسرائيلى” لكل قطاع “غزة” ، ورغم امتداد الاجتياح البرى الموعود لكل “رفح” وجوارها فى الجنوب ، وكان “نتنياهو” يعتبره الخطوة الأخيرة للقضاء على “حماس” وأخواتها ، فإذ بما حدث ويحدث هو العكس تماما ، وإذ بقوات “حماس” وأخواتها تعود للتضاعف وللانتشار فى كل شبر “غزى” من الجنوب إلى الشمال ، من “بيت لاهيا” فى أقصى الشمال إلى “مخيم الشابورة” فى أقصى الجنوب ، وتنفذ عمليات قتال عبقرى مذهل ، وتستدرج قوات الاحتلال إلى كمائن مركبة قاتلة ، تضاعف خسائر العدو البشرية العسكرية ، وتكشف فيها المقاومة عن أسلحة قتال جديدة آخرها صاروخ “السهم الأحمر” ، فوق ذكاء استخدام شبكات الأنفاق تحت الأرض ، كذا ركام المبانى فوق الأرض ، وإعادة إطلاق الصواريخ باتجاه مستعمرات غلاف “غزة” و”عسقلان” وحتى “تل أبيب” ، وتدفع العدو إلى يأس ذاهل متفاقم ، فلا هو قادر على استعادة أسراه بالقوة المسلحة ، ولا على تكرار عملية “النصيرات” اليتيمة ، التى تمت بقتال مشترك من الأمريكيين و”الإسرائيليين” ، وبدور مشبوه لما يسمى الرصيف الأمريكى العائم ، ولم تسفر إلا عن إطلاق سراح أربعة محتجزين ، فيما ظل الباقون ، وعددهم يفوق المئة والعشرين محتجزا فى قبضة “حماس” وأخواتها ، ولا يعرف أحد إلى أين ذهبت بهم ؟ ، ربما إلى “المريخ” ، كما تسخر الصحافة “الإسرائيلية” من جيشها المهزوم ، أو إلى نفق “يحيى السنوار” تحت بحر “غزة” (!) ، ومن السخرية إلى القول الجاد العاصف بأحلام “الإسرائيليين” ، صاروا جميعا يسلمون ـ باستثناء “نتنياهو” ـ باستحالة القضاء على “حماس” ، رغم محاولات “نتنياهو” استبدال الوهم بالوهم ، ورفع شعارات القضاء على “حزب الله” بعد العجز المريع عن تفكيك “حماس” ، ومواصلة إشعال الحروب حتى القضاء على “نتنياهو” نفسه .