دكتور عبد الحليم قنديل يكتب..الشرق الجديد والغرب القديم
هذا الإقبال الفريد على تقديم طلبات الانضمام إلى جماعة “بريكس” ، على نحو ما شهدته قمتها الأخيرة ، يعكس رغبة حارة متزايدة فى التحرر من مظالم النظام الاقتصادى العالمى ، الذى وضعت أسسه وقواعده فى “بريتون وودز” الأمريكية مع نهاية الحرب “العالمية” الثانية ، وتشكيل المؤسسات المالية الحاكمة كالبنك وصندوق النقد الدوليين ، والتحكم فى إدارة عملها من قبل واشنطن وتابعيها فى مجموعة “السبع” الصناعية ، وبما أدى إلى استنزاف عجائبى مريع باسم منح القروض للمحتاجين ، ووصول حجم الديون وفوائدها إلى ثلاثة أمثال الناتج العالمى الإجمالى ، ودعم هيمنة الدولار كعملة احتياط عالمية ، وإن تراجعت نسبتها بين عملات الاحتياط البديلة ، من 71% بنهاية القرن الماضى إلى 58% اليوم ، لكن دوره لا يزال متضخما فى المبادلات التجارية ، وفى السيطرة على 40% من المعاملات عبر نظام “سويفت” البنكى ، إضافة إلى تقويم نصف الدين العالمى بالدولار .
وقد يكون الطريق طويلا ومعقدا للوصول إلى هدف تفكيك هيمنة الدولار ، فقوة الدولار ليست مقترنة بقوة اقتصاد أمريكا ، وهو المثقل بديون فلكية ، تجاوزت 32 تريليون دولار ، كما أن الظروف التى منحت الدولار هيمنته ، قد زالت أصولها الأولى ، التى اعتمدت فى البداية على غطاء ذهب أمريكى ، كان كافيا وقتها لتمكين واشنطن من استبدال الدولار بالذهب ، وبقيمة 35 دولارا مقابل أوقية الذهب ، ومع بداية سبعينيات القرن العشرين ، أعلنت أمريكا عجزها عن تلبية شرط استبدال الدولار بالذهب ، وراحت تفرض هيمنة جديدة للدولار ، لا تقوم على رصيد ذهبى ، ولا على أساس إنتاجى يخصها ، بل بالضغط على دول إنتاج البترول ، وإقرار تسعير تجارة البترول العالمية بالدولار وحده ، ثم بصادرات واشنطن من السلاح ، وهى تشكل 49.2% من إجمالى تجارة السلاح ، ومقومة بالدولار طبعا ، ثم بالهيمنة الرمزية النفسية للدولار ، وجعل “العملة الخضراء” مرادفة للثروة ، وغيابها عنوانا للفقر ، مترافقة مع نشر واشنطن لمئات القواعد العسكرية حول العالم ، وزيادة إنفاقها العسكرى السنوى إلى نحو 900 مليار دولار ، وبما انتهى بمشهد العالم إلى وضع عظيم الشذوذ ، تكتفى فيه أمريكا بطبع أوراق الدولار ، ثم تقترض ـ أو تأخذ ـ منها ما تريد ، وبهدف تغطية عورات اقتصادها المتراجع إنتاجيا ، على نحو ما حذر منه المؤرخ الأمريكى ـ البريطانى الأصل ـ “بول كينيدى” ، ففى كتابه “صعود وسقوط القوى العظمى” قبل ما يزيد على أربعة عقود ، كشف أن أمريكا تعتمد على بلطجة عضلاتها المسلحة ، ولا تكسب بنفسها قوت عيشها اللازم لإدامة هيمنتها كقوة عظمى قائدة ، وبعد كتاب “كينيدى” ، جاءت الوقائع على الأرض ناطقة بالنذر ، فاقتصاد أمريكا كان يشكل وحده نصف اقتصاد العالم عقب الحرب “العالمية” الثانية ، وتراجعت نسبته اليوم إلى حول العشرين بالمئة ، حتى بحساب الأرقام المجردة المضخمة صوريا ، فيما زاد حجم الاقتصاد الصينى على نظيره الأمريكى من سنوات بحساب القوى الشرائية ، وسيتعدى الاقتصاد الأمريكى خلال خمس سنوات بحساب الأرقام المجردة ، والصين هى حجر الزاوية فى جماعة “بريكس” ، التى تضم إلى الصين أربع اقتصادات أخرى ، هى روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا ، وتمثل معا 31.5 % من إجمالى الناتج العالمى بحساب القوى الشرائية ، فيما لا تمثل أمريكا وبقية مجموعة السبع سوى 30.7% ، أضف إلى ذلك ، أن الناتج الصناعى الصينى وحده ، يفوق الناتج المماثل لأمريكا واليابان وألمانيا مجتمعة ، إضافة لما هو معلوم من هيمنة الصين على التجارة العالمية ، وحيازتها المتزايدة لفوائض ميزانها التجارى التريليونى مع كل مناطق العالم ، وحتى مع أمريكا ذاتها ، وهو ما يفضح مدى “صورية” الادعاء بتفوق اقتصاد أمريكا على كل ما سواه ، فهو اقتصاد “فقاعة” ، فقد تفوق طابعه الإنتاجى من زمن ، وهو “رأسمالية كازينو” و”رأسمالية بورصة ومضاربات” ، تقوم على المبالغات المالية المفرطة فى تقدير قيمة الأصول ، وهو ما كان سببا فى انفجار بنوك أمريكية كبرى فى أزمة 2008 ، وهو ما تكرر قبل شهور ، مع إفلاس بنوك أمريكية جديدة ، تدخلت الحكومة لتغطية عجزها مع عجز الموازنة العامة ، على طريقة اللجوء العبثى الدورى لرفع سقف الديون ، وإلا عجزت الإدارة الأمريكية عن تصريف أعمالها ، فقد حولوا الاقتصاد الأمريكى إلى اقتصاد ديون متضخمة بلا نهاية ، ثم يحدثونك بلا ضجر عن كفاءة النظام الأمريكى ، وعن جدارة استحقاقه بالاحتذاء من الآخرين ، فى الوقت الذى تتداعى فيه دواعى الثقة بأمريكا ، وفى السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح جميعا ، فقد أعيد توزيع موازين القوى فى العقود الأخيرة ، بما يدحض أكاذيب تفوق أمريكا الأبدى ، ودعاوى تفوق الغرب معها ، ومقدرتهم الأسطورية على تجديد وتمديد الهيمنة على مصائر العالم ، فقد زالت سيادة أوروبا الاستعمارية القديمة بعد الحرب “العالمية” الثانية ، ثم كسب الغرب مددا إضافيا بقيادة البديل الأمريكى ، الذى ضم إلى معنى الغرب السياسى والحضارى كيانات أخرى ، تقع إلى الشرق من جغرافيا العالم ، كما أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ، وكان هؤلاء جميعا ، يملكون نحو 70% من اقتصاد العالم قبل أربعين سنة ، وتراجع نصيبهم جميعا بالكاد إلى نحو 27% .
ومع ضم دول أخرى قريبا إلى جماعة “بريكس” ، تتوقع المؤسسات الغربية نفسها ، أن يصل حجم اقتصاد “بريكس بلس” إلى نصف اقتصاد العالم ، وأن يتراجع نصيب الغرب الموسع إلى 20% سنة 2040 ، وهو ما يفصح عن اتجاه مطرد لتغيير صورة العالم جذريا ، وتعديل الموازين على القمة الدولية ، ليس فقط فى مجال الاقتصاد والتكنولوجيا ، بل فى مجالات السياسة والسلاح معها ، وحرب أوكرانيا الجارية فصولها ، ليست منشئة لما يجرى ، بل كاشفة عنه ، كما ورقة نبات “عباد الشمس” فى دورانها الدائب ، وتسرع التحول إلى عالم تعدد الأقطاب بديلا عن القطبية الأمريكية الوحيدة ، التى شهدت عصرها السحرى المصنوع عقب انهيارات موسكو الشيوعية أوائل تسعينيات القرن العشرين ، بعدها صارت أمريكا ، كأنها القوة المرهوبة المرغوبة ، يخافها الآخرون ويرهبون منها ، أو يحلمون بالهجرة إلى أحضانها ، أو بناء “أمريكات” أخرى فى أوطانهم الأصلية ، وعلى مدى نحو ربع قرن ، راحت أمريكا المنتفخة تؤدى رقصتها الأخيرة ، وبدت كأنها الذاهب ليبنى لمجده قصرا ، ومن دون أن تعى ، أنها تندفع لتحفر قبرا ، تدفن فيه أوهام القوة الأمريكية الغلابة دائما ، ومن هنا كانت إخفاقاتها وهزائمها فى العراق وأفغانستان ، وقد ظلت تحطم فى الأخيرة على مدى عشرين سنة ، ثم كانت النهاية قبل سنتين بفرار المذعورين من “كابول” ، ولم تدرك واشنطن ، ولا هى تدرك الآن ، أن السباحة ضد تيار التاريخ مستحيلة النجاح ، فالقوة غبية عمياء بطبعها ، لا تعرف أن قرن هيمنتها المطلقة يطوى أوراقه ، وأن الغرب القديم ـ الجديد ، الذى آلت قيادته إلى واشنطن ، قد دهمه زمن الذبول والتراجع ، فى مقابل صحوة الشرق الجديد الموسع جنوبا ، وقد كان فى أغلبه من عالم المستعمرات الغربية القديمة ، وراحت طلائعه فى “بريكس” و”منظمة شنجهاى” وغيرها ، توسع لأقدامها وآمالها ، وتحقق قفزات تنمية وسلاح وتكنولوجيا متسارعة ، فوق حيازتها لموارد بشرية وطبيعية بلا حدود ، فالخمس دول الحالية فى “بريكس” ، تمثل 42% من سكان العالم كله ، وثلث موارد غذاء العالم كله ، وإضافة دول أخرى إلى “بريكس” ، كمصروالسعودية وإيران والإمارات والأرجنتين وأثيوبيا وغيرها ، يجعلها تحوز أغلب موارد الطاقة والممرات البحرية والتجارية ، مع فرصة التحرر النهائى من الإملاءات الغربية ، وصياغة نظمها فى الاقتصاد والسياسة ، بحسب أولويات شعوبها وثقافاتها الذاتية ، إضافة إلى آفاق تعاون مثمر جديد بغير وصاية ، مع إضافة مؤسسات أخرى إلى “بنك التنمية” الجديد التابع ل “بريكس” ، ومن دون شروط تعسف واستنزاف ، عانت منها دول الشرق والجنوب فى اتفاقات “البنك الدولى” و”صندوق النقد الدولى” وأخواتها ، وبما يقوض تدريجيا أساس الهيمنة الأمريكية والغربية ، ويمضى خطة مدروسة لتفكيك هيمنة الدولار نفسه ، بالتحول إلى العملات الوطنية فى التبادلات التجارية ، وإنشاء نظام بنكى جديد بديل لنظام “سويفت” ، يفرغ العقوبات الأمريكية من جدواها ومضامينها ، وإبداع نظم تبادل تجارى باتفاقات “المقايضات” والتعاملات الرقمية ، وربما من دون التسرع فى اتفاق على عملة احتياط جديدة موحدة ، قد يكون إقرارها المبكر عنصر تفريق ، فى الوقت الذى تسعى فيه جماعة “بريكس” إلى توسع مدروس ، ونظر متدرج فى طلبات انضمام مكتملة لنحو عشرين دولة مهمة ، إضافة لعشرين أخرى تدق الباب ، وفى تدافع لافت ، عكسه حضور عشرات القادة لقمة “بريكس” الخامسة عشرة فى “جوهانسبرج” .