دكتور غادة ناجي طنطاوي تكتب..وشوشونة والعجوز حربية
عندما كنت صغيرة، كنت أشاهد مغامرات بسمة وعبده. كانت أحلامي لا تتعدى حصولي على كيس حلوى من أمي، أو زيارة لمدينة الملاهي مع أبي، لكن خيالي كان خيال كاتبة مذ كنت طفلة..!!
تمنيت كثيرًا أن أكون مع بسمة وعبده في قريتهم، فقد كنت أهوى بيوت الشجر الصغيرة، أواني المنزل الخشبية ومنظر سقوط الثلج على الأشجار. وكانت هناك شخصية العجوز حربية، عجوزٌ سكنت الجبال بعيدًا عن الغابة، عزلتها الوحدة عن سكان القرية، وأفقدها كبر السن جميع المهارات الإجتماعية، فغدت شخصًا متوحدًا، يهابه الجميع ويتحاشى الكلام معه. والبعض أعتقد أنها ساحرة، وأن كل من ينظر إلى عينيها يطارده شبح الخوف ليسلب عقله..!!
وفي أحد الأيام تاهت وشوشونة -أخت عبده الصغيرة- في الغابة، فأنقذتها العجوز حربية وأخذتها إلى بيتها. كان اقتراب تلك الطفلة منها، سببًا في سقوط قناع الشر الذي ارتدته حربية لفترةٍ طويلة، وتبين أنها قد تكون عجوزًا دميمة المنظر بقلب رحيم، لن يشعر به إلا من كان يملك قلب طفل كوشوشونة.
هكذا هم بعض الناس في حياتنا..!! أخذت منهم الوحدة بعضًا من إنسانيتهم، لإنعدام صلتهم بالآخرين، وأجبرتهم ظروفهم على العزلة، ليخيم عليهم شعورٌ أن لا أحد من المحيطين بهم قد يفهم احتياجاتهم، الأمر الذي يؤدي غالبًا إلى الفشل في بناء علاقة وطيدة مع الآخرين كما يتمنوا..!!
قد يبدوا قساة القلب، عديمي الرحمة، وقد يصعب التعامل معهم. يقول عالم الأعصاب الاجتماعي (جون كاسيوبو)؛ “إن الوحدة ما هي إلا وسيلةً للتكيف، تنمو مع الإنسان لتدفعه إلى الحفاظ على علاقاته بالآخرين”. ولكن ماذا لو غدى ذاك الشعور هو كل ما تصبو إليه في مرحلة عمرك الملكية..؟؟
قاربت على نصف العقد الرابع من عمري، خسرت الكثير وتعلمت أكثر..!! ولربما كانت خساراتي سببًا فيما أنا عليه الآن، الصديقة الوفية في حياة أحدكم..!! الإبنة البارة بوالداي..!! الأخت المفضلة والأم الرائعة في عين ابنتي..!!
في كثيرٍ من الأحيان البعد عن اللوحة يعطيك منظورًا أكبر لترى جمالها الحقيقي، وقد تحتاج عزلةً مع النفس تعيدك لمسارك الصحيح، وتعطيك فرصةً أخرى لتقيم احتياجاتك الحقيقية بشكلٍ سليم. عندما نضجت، أصبحت أستمتع أكثر بمنظر الغروب، بات صوت أمواج البحر ملاذًا لراحتي النفسية، وشعوري بتساقط الثلج على شعري يمنحني النشوة القصوى، لم يعد قلبي يتأثر بفقدان البعض، وانتهى مخزون العتب والملامة لديه على كل من أساء إلي..!!
قرر عقلي أن لا يخوض جدالات تافهة قد تجرني لمعاركٍ عقيمة تفقدني هيبتي. سلمت بأن ليس للجميع قلوب ملائكية، وأن هناك شياطيين بشرية أجبرت الشيطان على الاستقالة، وتعلمت أن أقنع بما وهبني الله إياه وميزني به عن غيري، عوضًا عن الغرق في النحيب على النواقص..!! لم أعد أهتم إلا بصلاح نفسي، ولم تعد الأمور الصغيرة تزعجني حتى وإن فاتني موعد القطار أو تأخرت الطائرة..!! ومع الله فقط وجدت راحتي.
نضجت وتيقنت بأن قرية بسمة وعبدو كانت قرية للأقزام، وأن بيوت الشجر لا توجد إلا في الحكايات، وأنه في أوقات كثيرة لا ضير من أن تعيش بوجه العجوز حربية ولكن بقلبٍ وشوشوني..!!