تعالوا نتفق على كلمة سواء تؤلف بيننا نبني بها اوطاننا ونجعل منها رسالة محبة وسلام
قال تعالى في محكم التنزيل ( أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ * تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ )
الكلمة هي أصل الوجود وبها بدأ التكوين وهي ضمير الإنسان ومنطلقه وهي نبراس الحضارات، فلنجعل منها رسالة محبة وسلام إلى العالم أجمع ، فهي أصل الوجود وبها خرج الفعل وتحقق الأمر بالمشيئة، وهي أصل الإنسان ووجوده وبها تميز عن بقية المخلوقات والكائنات، فكانت محور العقل والتفكير للإنسان فانطلق علم اللسانيات وتكونت أبجدية اللغات المميزة للشعوب، فكانت لغة الخطاب والحوار والمعرفة، ومنها أطلقت أسماء المسميات من المحسوسات والملموسات والأفكار والكونيات .
فالكلمة هي النور المشع الذي ينير ظلام الكون والفرقان بين العلم والجهل، وهي مفتاح الأقوال والأفعال والمسميات وبداية المعرفة العامة، ووسيلة التعبير عن الأحاسيس والمشاعر والأفكار والأخلاق والقيم والمعاني والأضداد، ومنها تكونت موسوعة ضمت كل ميادين العلم والمعلومات المكتسبة والمكتشفة في مختلف في مجالات المعرفة والأخلاق والفنون وهي الدالة على كل ما يراد منها فكريا وعمليا.
ولذلك كانت هي البداية في النشوء والخلق بالمشيئة الإلهية بإيجاز الخطاب بالأمر فقال كن فكان كل شيء كما أراد، وكان الخطاب هو النور الكاشف للظلمة وبددها ، وبها كان الخطاب بمحكم التنزيل في الهداية للبشر اجمع بعد أن تمت مشيئة خلقه للثقلين ، وفيها ابتدأ الخلق والخطاب بدلالة الكتب المحكمة المنزلة التي خاطب فيها الثقلان منطوقة ومكتوبة محكمة التوجيه، فأمر بالخطاب الأول وأوجبه بطلب العلم بها وتحقيق المعرفة للوصول إلى كمال كلية العلوم بمعرفة الذات الإلهية، ثم أتت المشيئة الثانية بالأمر على طلب العلم الدنيوي بها فأمر بها وله الأمر الواجب التنفيذ فأوجب علينا اتباعها للوصول إلى البحث والتقصي والمعرفي لإعمار الكون وجعلها رسالة واجبة دائمة ما دام الكون، فجاءت خطابا على نسق إيحائي وإعلامي جلي.
ومن جميل الخطاب الإلهي بالكلمة إن الله سطر التوراة بيده وأطلق عليها اسم العلم أي علم الله فكانت الميثاق بين الله والبشر بأن جعل للكلمة القيمة الجوهرية ومكانتها المعرفية لإيصال كلية العلوم، فأوجزها في سفر التكوين وهو السفر الأول في التوراة حيث قال (في البدء كان النور) فالدلالة هنا واضحة أن الكلمة هي التي تشع بالنور وتعتبر بداية كل البدايات.
ومن الجميل والتأكيد أيضا على أن الكلمة هي الأولى وهي بداية الأشياء وبداية كل البدايات ك قال ما في أول أية من آيات الإنجيل وبها افتتح النهج الإلهي بالخطاب فقال معلنا (في البدء كانت كلمة) فهل أجمل منها دلالة على أن كافة كلية العلوم المعرفية والبدايات في الخلق كانت هي الكلمة فجعل لها قدسية خاصة.
ومن الأجمل والأشمل والأعم والذي شمل كل ماسبق فعمم بالطلب بالأمر الإلهي بأن جعلها هي المطلب الأول للوصول إلى بقية الأصوليات عندما جاء هذا الخطاب في أول تنزيل إلهي بالقرآن موجها الخطاب للرسول الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام بكلمة (اقرأ) ثم فسر له لماذا عليه أن يقرأ في بقية السورة الكريمة حيث قال ( إقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم البذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم ) ، فكانت موجهة للرسول ومنه إلى العالم أجمع وحسبما ورد في كل الكتب السماوية المنزلة بالبكلمة وهذا يدل على المعنى الموجه وهي الكلمة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن خلاله إلى العالم أجمع حيث يعلمنا بخلق اللوح والقلم والتي يحثنا على طلب العلم والمعرفة بكل العلوم وليست مقتصرة فقط على معرفة ذات الله تعالى بل أيضا العلم المعرفي الدنيوي، ثم أتى السرد الإلهي ليعلمنا بأنه تمت المشيئة والخطاب بالكلمة فها هو هنا يخبرنا بخطابه الموجه إلى الملائكة في القرآن الكريم ومن خلالهم لنا حيث قال معلنا مشيئته على الرغم من أن هذا الخطاب هم من باب الإعلام بالشيء فقد تم بالكلمة وكان جوابهم بالكلمة (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)، وفي درس آخر يعطينا مثلا قويا عن قيمة الكلمة ومكانتها يعلمنا كيف علم آدم بالكلمة كما ورد في الآية الكريمة (فتلقىٰ آدم من ربه كلمات فتاب عليه) فهذا درس إلهي يوحي لنا فيه كيف علم آدم بالكلمة ما ينفعه فكان الله هو المعلم الأول للإنسان ليتعلم الإنسان ويعلم ما ينفعه، وفي نص آخر أيضا في القرآن الكريم يعطينا مثلا مهما عن قيمة الكلمة بنص صريح على القيمة التي بنيت عليها الكلمة ومكانتها حيث قال (وكلم الله موسى تكليما).
كل تلك الأمثلة التي مررنا عليها هي أمثلة قيمة لأن تكون الكلمة سواسية بين البشر فالله تعالى بجلالته وعظمته خاطب الملائكة والإنسان بالكلمة على حد سواء حتى وإن كانت من خلف حجاب فألا نجعل نحن منها رسالة محبة وسلام بيننا.
فإذا هي البداية المعرفية والميثاق وجعلها بداية الحياة وأرادها نورا وسلاما، ونحن لانعدم الأمثلة في كل النواميس وحتى الوضعية على سمو الكلمة ونورانيتها وقدسيتها فهذا سقراط يقول لنا (العلم هو ما تعرف والفلسفة هي ما لا تعرف) وها معناه أن العلم لا يتم إلا بالكلمة، وهل من أجمل ما قاله هذان الحكيمان (إن القلوب مزارع فازرع فيها الكلمة الطيبة فإن لم تأكل من ثمرها تتمتع بخضارها)، (الرجال الحكماء يتكلمون لأنهم يملكون شيئا لقوله، أما الحمقى فيتكلمون لأن عليهم قول شيء وحسب).
ولكن الإنسان وللأسف وعلى مر التاريخ جعلوا من الكلمة التي أرادها الله كلمة نور حق جعلها كلمة باطل وسوء وشرور فأشعلوا فيها حروبا وأوقدوا نيران الفتن هدفا للقتل والدمار وجعلوا السلم والسلام الذي وجدا قبل الحرب خلف ظهورهم، أرادها الله وكافة النواميس دعوة لخير الإنسان الذي وجد قبل الشر لكن البعض أوجدوا الشر وجعلوه غاية لهم.
فالكلمة هي مفتاح كل عمل وفعل، خلق الله الكون وجميع الخلائق بكلمة فلنعمل على إعادتها إلى رونقها ونورها لتكون رسالة محبة وسلام، فهي مسؤولية الإنسان الكاملة وهو المؤتمن عليها ومحور سلامته وحضارته لأنها القول والعهد والميثاق والقانون والميزان فهي أصل الوجود وبها بدأ التكوين، فالله جعلها لنا مفتاح المعرفة والحكمة والناموس والأخلاق والأضداد التي توصل إلى كليات العلوم المعرفية ولذلك أقرها الله في بدء الخلق فخلق الإنسان وميزه بالعقل المفكر والمدبر فاستنار به حينما بدأ بالكلمة في المعرفة والعلوم وأمره بعمارة الأرض والبحث والاستدلال وجعل السلام بينه وبين الإنسان كلمة عهد وميثاق، فكانت الكلمة هي بداية الأشياء واصلها وبها يحاسب الخلق على أعمالهم لأنها بداية العمل فبالكلمة نستطيع أن نبني أجيال مستنيرة العقول متمسكة بأصول الأخلاق الحميدة النبيلة والمعرفة العلمية، طموحة لبناء مستقبل أفضل لحضارة سامية سلاحها العلم والمنطق والأخلاق والوجدان، وبها نستطيع أن ندمر أجيالا بأن نذرع بذور الجهل في نفوسهم وعقولهم، ونجعل من الانحطاط والشر هدفا لهم بتدمير كل القيم الأخلاقية السامية لديهم وحثهم على ابتكار أبشع أدوات الشر وأساليب الحرب والدمار، وطمس أحلامهم التي فطروا عليها . فبالكلمة أيضا نبني الحضارات وبالكلمة نهدم أركان تلك الحضارات، وهي عهد الشرف الذي نقطعه مع أنفسنا في التعامل ومع الآخرين وبها أيضا نستطيع أن نشعل نار الفتنة ونفتعل الحروب وننشر الرذيلة، وهي مواثيق العقود والعهود بين الدول في الاحترام المتبادل فنجمع ونفرق بها، بكلمة نجعل السلام يسود العالم ويعم الأمن والاستقرار أرجاءه، وبها نستطيع أن نعلن حربا مدمرة تهز أركان العالم وتقضي على مظاهر الحياة، وبهذا نخلص أن ما بين حياة الإنسان وخلاصه وما بين موته ودماره هي كلمة، فهل جعلنا من هذه الكلمة عهدا وميثاقا أم حولناها لغايات رخيصة مدمرة، فهل نظرنا ما قدمنا وما أسلفنا وهل بنينا بها حضارة ورفعة وهل أسسنا لأجيالنا القادمة ما نفخر وما يفخرون به، وهل زرعنا بها المحبة والسلام والأمان بيننا…، فيا ويلنا لو استمرت تلك الكلمة التي جعلنا منها مفتاحا للشر والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن، فلنعود إلى الفطرة التي أراد الله من الكلمة كالشجرة المباركة دائمة الخضرة والثمر ولا نجعلها كشجرة السوء تستظل بها شرار الناس كما قال في محكم التنزيل ( أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ * تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ * ) أو كقطعة زجاج رخيصة ملونة براقة تغري الناظر إليها، فلتكن هذه الكلمة شرف الإنسان وقيمه الأخلاقية والوجدانية الصادقة الخيرة نسعى بها إلى حضارة خالدة وعلم وضاء. وهذه دعوة إلى أن نجعل من الكلمة رسالة محبة وسلام ننشرها بين الناس كافة.
الدكتور محمد توفيق ممدوح الرفاعي
