دكتور محمد توفيق ممدوح الرفاعي يكتب..وصية اليوم المهول
بالأمس اخذنتي سنة من النوم بعد أن لازمني الأرق عدة أيام بسبب وعكة صحية ألمت بي وفيما أنا نائم تراءى لي ثلة من الأشخاص النورانيين تبين لي فيما بعد أنهم من الملائكة قد أحاطوا بسريري وأنا متمدد عليه يتقدمهم ملك عظيم الهيئة وقف أمامي ثم توجه بحديثه إلي قائلا : اسمع ياعبد الله نحن ملائكة الموت جئنا نقبض روحك وقد حان أجلك ووجبت مغادرتك الحياة الدنيا بعد ان استنفذت كل سنوات عمرك فالآن سترحل إلى العالم الآخر، فسألته باكيا أن يمهلني يوما أو بعض يوم قبل أن يتم مهمته ويقبض روحي ليرسلني إلى العالم الآخر علني استدرك ما فاتني من عمل صالح عسى أجزى عليه يوم الحساب وأودع أهلي وأبلغهم وصيتي ليعملوا بها من بعدي فقال هذا من المحال فالقدر محتوم لا يتقدم ولا يتاخر فانطق بالشهادتين قبل ان نقبض روحك ثم استطرد قائلا اسمع يا عبد الله هل لي ان اعرف ماذا كنت ستوصي من بعدك فقلت له ياسيدي انت تعرف ما حل بنا منذ اعوام ومازلنا نعاني من الفقر والمرض والحرمان ومن ابسط مسلتلزمات الحياة فاصبحنا احياء اموات ومرت علينا سنوات عانينا فيها من الإرهاب والقتل والتدمير والتشريد وكنت فيما سبق أن منعت اولادي من الهجرة ومغادرة الوطن حبا به رغم كل المحن وما حل ويحل بنا ولكنني اكتشفت مؤخرا بأنني كنت على خطأ فظلمت نفسي وظلمتهم مضيعا عليهم سنين حياتهم وفرص تحقيق احلامهم وامالهم والعيش الكريم ولذلك إن لبيت لي طلبي وامهلتني اكون ممتنا لك لأنني ساوصيهم بأن يهاجروا ويبحثوا عن مكان يعيشون فيه حياة كريمة ليس فيه جوع ولا حرمان، علهم يسامحونني ويغفرون لي ما اسلفت بحقهم وعسى ان يغفر لي ربي ظلمي لهم أيضا فقاطعني قائلا كفا ياهذا فقد اوجعت قلبي نظرت اليه فإذا ومرافقيه يبكون حرقة علينا ثم تابع قائلا انا لم أعهد التألم على احد ولم أبك قط على احد قبضت روحه ايا كان وأنا وكل من في السماء يعلمون ماتعانون وانكم الميتون الأحياء وجميع من في السماء يتألم لألمكم ولكن سبق القول عليك من الله ثم أشار بيده نحوي فإذا بروحي تغادر جسدي وترفرف فوقه تحيط بها كوكبة من الملائكة واصبحت جثة بلا حراك ولكنني استطيع أن أرى ما يدور حولي فقد رأيت روحي وهي تحوم فوق جسدي وبعد فترة من الوقت لا أدري كم مر على موتي ومن المؤكد يوم واحد كما جرت العادة على دفن الموتى شاهدت جمعا غفيرا يتقدمهم ابنائي وهم يحملون جثماني ليواروه الثرى وبعد فرغوا من ذلك عادوا ادراجهم، وحدث أيضا بعد ذلك وبعد مدة لا أدري ايضا كمْ مضى من الايام او السنين وأنا ميت رأيت نفسي وقد ردت روحي جسدي، ورأيت نفسي في مكان رهيب سرمدي بلا حدود غريب المعالم لم أعهده من قبل فالوقت ليس هو نهار او ليل فلا شمس فيه ولا قمر ولا نجوم وسط جمع غفير من البشر لايمكن حصرهم او عدهم كنا صامتين مذهولين متسمرين في اماكننا وقد انتابنا الفزع الرهيب من هول الموقف وقد احاطت بنا الملائكة من كل جانب حتى ان البعض يحلق فوقنا وكانوا في حركة دؤبة بلا كلل وبعد برهة اقتربت ثلة منهم وقاموا بتنظيمنا صفوفا وارتالا دون ان ينبثوا ببنة شفة، أعقبتها ثلة اخرى حيث اعلمتنا بأن الآن هو يو القيامة والحساب الوقت فعلينا أن نتهيأ لذلك ثم إصطحبونا واحدا إثر واحد وكان من يذهب معهم لايعود الينا ودام الوضع هكذا حتى وصل إلي الدور فقاموا بحملي وارتفعوا بي الى ان وصلنا الى مكان أكثر رهبة فسيح بلاحدود ايضا وانزلوني أمام ثلة اخرى من الملائكة عظيمة الشأن ذات هيبة ووقار تحمل قراطيس وسجلات مما زادني خوفا وهلعا حتى ان قدماي لم تعد تقويان على حملي نظروا الي مليا ثم سألني كبيرهم هل أنت فلان إبن فلانة فاجبت بصوت أجش يكاد يسمع بنعم وعلى الفور أخرج أحدهم صحيفة اعمالي وأعطاها لكبيرهم وما ان فتحها حتى أجهش ومرافقيه بالبكاء ثم تمالك نفسه وتوقف عن البكاء وباشر بتلاوة صحيفة أعمالي علي وكأنني أقوم بها بوقتها وأشاهد كافة أحداث حياتي كما فعلتها وأعيها كاملة وعند كل حالة أو حادثة أو كلمة كان يسألني هل تنكر ذلك فأجيب كلا ثم توقف قليلا وعاد يجهش بالبكاء هو ومرافقيه ثم قال لي أنت مواطن سوري أليس كذلك فقلت له باكيا شاكيا نعم يا سيدي فقال لي إن كل الذنوب التي ارتكبتها قد غفرها الله لك لأنها لأتعادل ما قاسيت وما عانيت أنت وأمثالك من أبناء وطنك في السنين الأخيرة التي مرت بكم من حياتكم فقد ذقتم الويل من الإرهاب ونالكم من الشقاء والحرمان ما نالكم وكانت حياتكم أشبه بالموت وقد حرمتم كل أسباب الحياة والعيش الكريم وتعرضتم للقتل والتدمير والإرهاب لقد عانيتم الحر الشديد في الصيف بلا كهرباء والبرد القارص في الشتاء بلا تدفئة وكان طعامكم لقيمات لاتسد الرمق وفرض عليكم شياطين البشر الحصار الخارجي الجائر واستغل ذلك أولئك الفاسدين والتجار الجشعين الذين ليس في قلوبهم رحمة ولا شفقة والمفسدون الذين نشروا الفساد في كل مكان وتغاضى عنهم بعض المسؤولين المنتفعين فلا وقود عندكم ولا كهرباء ولا دواء فقلت والحسرة تعتصرني نعم ياسيدي هذا ما فعله السفهاء فينا، فقال لي لماذا لم تهاجر وتبحث عن مكان اخر افضل تعيش فيه كما فعل البعض منكم فقلت له انه حب الوطن يا سيدي فقال حب الوطن واجب ولكن هذا شانك انت وما شأنك بعائلتك فقد ارتكبت بحقهم جريمة كبرى، اذا كنت انت لاتريد أن تغادر وطنك وتهاجر فلماذا منعتهم من الهجرة وتركتهم يعيشون حالة الضنك والحرمان هذه إن مافعلته في حياتك من خير لا يعادل تصرفك هذا، كان عليك ان لا تمنعهم من ذلك وكان عليك ان تشجعهم في البحث عن مكان يستطيعون ان يحيوا حياة كريمة مثلهم مثل بقية خلق الله، فقاطعته قائلا والله كنت قد ندمت ولمت نفسي على ذلك وأنا ارى نظرات العتاب في عيونهم، وقد كنت عزمت على أن ابوح لهم بندمي وأترك لهم حرية إتخاذ قرار السفر ولن أقف في طريقهم ابدا، وكنت قد عزمت أن أوصي بذلك لولا ان وافاني الأجل وقبضت روحي قبل ان اوصي لهم بوصيتي الأخيرة وكان من جملة ما سأوصي به ان يهاجروا الى أي مكان آخر فقاطعني قائلا بما انك من سورية احب بقاع الارض الى الله سوف نرفع صحيفة اعمالك مشفوعة لانك سوري وتحب وطنك وعانيتم الكثير الكثير وان الله لن يضيع لكم معاناتكم والشقاء الذي انتم فيه والجوع والحرمان وسيتولاكم برحمته وكل ماعانيتموه سيكون شفيعا لكم، اما اولئك المفسدون الفاسدون والتجار الجشعون والأشرار والمتسلطون فلهم جحيم النار فيها يكتون، ثم سحبوني من من يدي الإثنتين وإتجهوا بي الى مكان آخر أكثر اتساعا فيه حفرة عظيمة عميقة تخرج منها السنة لهب سوداء وحمراء تذيب الحجر الصوان ويصدر عنها فحيح كفحيح الأفاعي نظرت فيها والرعب يقطع احشائي فرأيت فيها الأشرار والإرهابيين والفاسدين والمجرمين والقتلة ومحتكري قوت الناس كيف يعذبون ويكتوون بالنار ويجلدون بالسياط وفيما انا اقف عليها مذعور والعرق يتصبب من رأسي حتى قدمي صحوت من نومي فزع لأجد نفسي في فراشي وانا غارق في بحر من العرق ولا أدري إن كان تعرقي وشعوري بالحر أهو من هول ما رأيت في الحلم أو من شدة الحر الذي احرق الأخضر واليابس وجفف حتى المياء في الأنهار في هذا الجو الصيفي الحار جدا الذي حرمنا فيه من نعمة الكهرباء نهائيا فلا وسيلة تكييف أو مروحة تخفف وطأة وشدة الحر حيث جرت العادة في كل من موسمي الصيف والشتاء وفي ذروة الحر أو البرد نحرم من الكهرباء كليا رغم ما نعانيه من تقنين جار فيما بينهما إضافة إلى التلاعب في طريقة التقنين بسبب المحسوبيات فقد كان التقنين يصل إلى مدنا بالكهرباء مدة ساعة مقابل ست ساعات انقطاع، تنفست الصعداء وحمدت الله لأنني ما زلت على قيد الحياة رغم كل ما نعانيه من مآس وظلم وقهر وكلي أمل بأنه سينتقم وسيعاقب كل من ساهم ويساهم في إذلالنا واركاعنا وقهرنا من السفهاء والفاسدين والجشعين، ثم ناديت على زوجتي حيث بلغتها وصيتي ثم توجهت إلى الله مخاطبا إياه : اللهم إني قد أوصيت وبلغت اللهم فاشهد ثم نطقت بالشهادتين خشية أن أموت على حين غرة مغادرا الحياة الدنيا دون أن أوصى بوصيتي الأخيرة.