دكتور محمد علي الطوبجي يكتب.. الصينيون الأكثر تعقلا وحذرا في تحركاتهم بالساحة الدولية
ما يزال الصينيون هم الاكثر تعقلا وحذرا من بين اللاعبين الدوليين الكبار الذين يتحركون علي الساحة الدولية الآن… فهم يحسبون خطواتهم وتحركاتهم بدقة متناهية ، ويتحفظون في تصريحاتهم الرسمية حتي لا يسئ الآخرون فهمها ويبنون ردود افعالهم تجاهها من منطلق تفسيرهم الخاطئ لها ولأن سياستهم الخارجية هي خط دفاعهم الاول عن شبكة مصالحهم الدولية الواسعة ، فانهم حريصون علي ادارتها بافضل الكوادر الدبلوماسية المتاحة لهم.. ومن ذلك اقدامهم علي تغيير وزير خارجيتهم تشين جانج الذي كان لفترة طويلة قبلها سفيرا للصين في واشنطون ولم يمكث في منصبه الجديد اكثر من سبعة شهور لم يكن فيها اداؤه في مستوي ما كان متوقعا منه ، انزوي بعدها عن الاضواء مما اثار التساؤلات في الغرب حول مصيره كمسئول سياسي كبير ، الي ان جاءوا بسلفه وانج يي الذي يطلقون عليه لقب كبير الدبلوماسية الصينية ، ليحل مكانه كوزير للخارجية.. وهو دبلوماسي محنك ومحترف ويتمتع بخبرة سياسية دولية هائلة يشهد بها العالم له.. واعتقد انهم سارعوا في بكين باعادته الي موقعه كي يتحرك بدبلوماسية الصين الدولية بمهارة واقتدار وسط كل هذه العواصف والانواء.. فالعلاقات الصينية الامريكية مشحونة بتوترات كثيرة وبخاصة حول قضايا التجارة والتكنولوجيا والاتصالات وغيرها كثير ، وهناك ايضا ازمة تايوان الساخنة بحساسياتها وتعقيداتها المتناهية والتي تفرض علي الصين توخي اقصي درجات الحذر وضبط النفس في ادارتها لها حتي لا تنزلق الي صدام مسلح لا تريده ولن يكون في صالحها وهي واعية تماما بمخاطره وتبعاته، . ولاقتناعها بان تايوان سوف ترجع يوما اليها بدون حرب ، وهناك التصعيد الامريكي المستمر لسباق التسلح في بحر الصين الجنوبي وفي منطقة المحيطين الهندي والهادي والذي تضاعفت اخطاره مع منظومة التحالفات الجديدة التي اقامتها امريكا هناك لحصار واحتواء القوة العسكرية للصين ، وهناك ايضا التوتر العنيف الذي يخيم علي شبه الجزيرة الكورية وعلي علاقات بيونج يانج حليف بكين مع كل من كوريا الجنوبية واليابان ، الخ. كما ان الحرب الاوكرانية وحاجة شريكها الروسي الي دعمها له تفرض عليها الا تدعمه ابعد من حد معين حتي لا توقع نفسها تحت طائلة العقوبات. الامريكية والاوروبية لها.. وهكذا تجد الدبلوماسية الصينية. نفسها امام دوامة مخيفة من التحديات الدولية، وعليها ان تعرف لنفسها كيف يمكنها الرد عليها بشكل يجمع بين المرونة والحزم والقدرة علي الردع ..وهو ما برعت فيه ووفر عليها حروبا اقليمية ودولية كان يمكن ان تنجر اليها..وبدا هذا واضحا تماما في تعاملها مع ازمة تايوان الاخيرة…حيث ابقت علي الابواب مفتوحة امام العمل الدبلوماسي ليقوم بدوره فيها وهو ما نجح فيه وامكن به تجنب صدام المواجهة والحرب.. وهو نجاح يحسب للدبلوماسية الصينية اكثر منه بالنسبة للدبلوماسية الامريكية. وفي ذلك تختلف القيادة الصينية عن القيادة الروسية ، فالقيادة الروسية تعتمد اسلوب التحدي والمواجهة مع الغرب ، وهي تنطلق في حساباتها وقراراتها من اقتناعها بان روسيا مستهدفة وان الغرب يتآمر عليها لاختراقها واستنزافها وتفكيكها علي غرار ما فعله مع الاتحاد السوفيتي وتمكن به من تدميره كقطب دولي كبير، وانها بحربها في اوكرانيا تدافع عن وجودها المهدد من الناتو الذي يحاصرها من كل اتجاه .. وان الغرب لن يهدأ له بال حتي يوقع بها هزيمة استراتيجية كاملة وهذا هو الهاجس الذي يؤرق القيادة الروسية لما يحمله بالنسبة لها من دلالات امنية وسيلسية بل ووجودية بالغة الخطورة.. ولهذا فانه يصبح لزاما علي روسيا ان تواصل تسلحها وتفوقها حتيي يمكنها الرد علي القوة بالقوة واحباط كل ما يخطط له الغرب ضدها وان تفرض نفسها كقطب دولي كبير في نظام دولي جديد تنكسر فيه الهيمنة الامريكية وتتعدد فيه الاقطاب.. وهذا هو ما دابت القيادة الروسية علي ترديده واعتبرت انها نجحت فيه بحربها علي اوكرانيا باسلحتها التي تفوقت بها علي اسلحة حلف الناتو كما جاء علي لسان وزيز الدفاع الروسي الجنرال سيرجي شويجو امام مؤتمر موسكو للامن الدولي اليوم…وجاء وزير الخارجية سيرجي لافروف من بعده ليعيد باتهاماته للغرب في خطابه الذي القاه امام الموتمر اجواء الحرب الباردة القديمة باستخدامه لنفس المفردات والاوصاف التي كانت قد توارت واختفت.. أما القيادة الصينية فانها تتبع نهجا دبلوماسيا مختلفا بعيدا عن تصعيد الصراعات والازمات الاقليمية. والدولية.. منهج دبلوماسي يقوم علي محاولة التوسع في بناء ومد الجسور في كل اتجاه ، والتهدئة وخفض التوترات وادارة الازمات بحكمة وعقلانية علي قدر ما تتيحه وتساعد علي الظروف… وهي لذلك، وخلافا لما تفعله روسيا ،تتجنب اتهام الغرب بمعاداتها والتآمر عليها حتي لا تثيره ضدها.. وكل ما تفعله هو مطالبتها له بالتخلي عن عقلية الحرب الباردة القديمة في ادارته لعلاقاته معها ومع غيرها.. وهي تري في التعاون السلمي وفي التفاهم الدولي المشترك الطريق الامثل للحفاظ علي مصالح كل الاطراف في اجواء دولية خالية من العنف والتهديد والابتزاز.. واتصور ان هذه العقلانية الصينية جنبت العالم الكثير مما كان يمكن ان يجلب علي المجتمع الدولي من الكوارث والويلات اضعاف ما تسببت الحرب الاوكرانية فيه…هذه مدرسة في الدبلوماسية الدولية جديرة بان يتعلم الجميع منها في الغرب وفي روسيا علي السواء…
دكتور/محمد علي الطوبجي