توب ستوري

دكتور محمد علي الطوبجي يكتب .. نقاط مهمة حول ما يدور بالمنطقة

في رأيي انه لكي نفهم بعض ما هو حاصل في منطقتنا على حقيقته، يجب ان يكون ماثلا في اعتبارنا ما يلي. :

 أولا. :

إن استمرار تهديد الحوثيين اليمنيين لسلامة وانتظام حركة الملاحة العالمية في البحر الاحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن ، يوفر الذريعة المطلوبة لاستمرار تحويل حركة الملاحة العالمية من قناة السويس إلى طريق رأس الرجاء الصالح.، وهو ما يعتبره الامريكيون وشركاؤهم الاوروبيون وشركات الملاحة الدولية الكبري في العالم، البديل الوحيد المتاح أمام ناقلات نفطهم وسفن شحنهم التجارية العملاقة، الي ان يتم تهيئة الظروف التي تسمح بتنفيذ مشروعين دوليين كبيرين كبديل دائم لقناة السويس، وهما. : 

 أولا مشروع الممر البري التجاري الذي سوف يربط الهند بالشرق الاوسط واوروبا، وتشارك فيه حتي الآن ثلاث دول خليجية وعربية هي العربية السعودية ودولة الامارات العربية والاردن.، هذا الي جانب الهند واسرائيل.. وتكون هذا المشروع من ممرين رئيسيين هما الممر الشرقي ويربط الهند بدول الخليج العربي.، والممر الشمالي الذي يربط دول الخليج باوروبا عبر الاردن واسراءيل… وتم الاعلان عنه في سبتمبر ٢٠٢٣ خلال اجتماع مجموعة العشرين في نيو دلهي.. وتقود الولايات المتحدة هذا المشروع البري العملاق تدعمها فيه مجموعة دول الاتحاد الاوروبي..

 أما ما. جعل الامريكيين والاوروبيين يتحمسون له، فهو انه فضلا عن انه يربط آسيا باوروبا. ، فانه سوف يتفوق علي مبادرة الحزام والطريق الصينية ويسلبها قوة الدفع فيها، وهو ما يمكن ان يحد كثيرا من نفوذ الصين الاقتصادي والتجاري حول العالم، وبالاخص في منطقة الخليج والشرق الاوسط، وليصبح العمود الفقري الجديد للتجارة الدولية القائمة علي سلاسل التوريد العالمية.. وقد رصدت ادارة الرئيس الامريكي بايدن اربعين مليار دولار كاسهام منها في نفقات تنفيذه خلال السنوات القادمة…..وأما المشروع الثاني الذي يخططون لتنفيذه لاخراج قناة السويس من الصورة.، فهو مشروع قناة بن جوريون الاسرائيلية بطول مائة وستين مبلا وتربط اسرائيل بالبحر الابيض المتوسط بخليج العقبة ومنه بالبحر الاحمر والمحيط الهندي، ولتشكل بذلك حلفة الوصل بين آسيا واوروبا..   ومشروع قناة بن جوريَون هو المشروع الذي تحمس له الامريكيون والاوروبيون بعد حادثة جنوح سفينة الشحن العملاقة ايفر جرين في قناة السويس بانحرافها عن مسارها، وترتب علي جنوحها اغلاق القناة ستة ايام في وجه الملاحة العالمية والتجارة الدولية، وعندها برزت فكرة احياء مشروع قناة بن جوريون كبديل آمن لقناة السويس..

   ومن هنا ،.وبفعل كل تلك المتغيرات الاقليمية والدولية وبعضها لم يكن متوقعا ، فإنه يصبح من مصلحة امريكا واسرائيل بشكل خاص، ان تستمر المشاغبات الحوثية لحركة الملاحة العالمية في البحر الاحمر لبعض الوقت ما دام ان تلك المشاغبات سوف تظل تحت السيطرة ولن تتجاوز حدودا معينة.، وحتي يبدو امام العالم ان التحول عن قناة السويس كاحد اهم شرايين التجارة العالمية، ان لم تكن اهمها اطلاقا.، لم يكن مخططا او متهمدا، وانما حدث بفعل عوامل لا ارادية املتها وفرضتها متغيرات الظروف.. وهذا التطور السلبي بالنسبة لمصر، هو تحول ايجابي في نفس الوقت بالنسبة لامريكا واسرائيل لاسباب مهمة للغاية سوف نوضحها في مقالنا القادم باذن الله… ولولا خطورة الموضوع لما شغلت نفسي بكل هذه التفاصيل التي تكمل بعضها بعضا..

ثانيا

 

  إن عملية طوفان الاقصي التي اطلقتها حماس في السلبع من اكتوبر الماضي وفرت لاسرائيل الذريعة التي تحتاجها امام العالم لتدمير غزة تدميرا شاملا بحرب الابادة الجماعية والتطهير العرقي التي تشنها اسرائيل عليها لتهجير سكانها قسريا او باي وسيلة ضغط نفسي اخري كالتجويع والحصار وقطع كل وسائل وشرايين الحياة الطبيعية عنهم لتتحول غزة بعدها الي مدينة غير قابلة للحياة.. وهو ما يعتبر منطلبا مهما للاسرائيليين ولداعميهم الامريكيين لكي يتمكنوا من شق قناة بن جوريون الجديدة في غزة، ولن يكون ذلك ممكنا الا باخلاء غزة من سكانها واحتلال موانئها احتلالا كاملا ودائما..وبدون اخلاء غزة وتفريغها تماما من شعبها، فان تنفيذ المشروع البحري البديل لقناة السويس لن يكون ممكنا.، وسوف يتعثر ويتاخر، بل وقد لا يجد طريق الي التنفيذ الي مدي غير معلوم… وهذا هو ما يفسر السبب وراء الشراسة المتناهية التي تتعامل بها اسرائيل مع اهل غزة لترويعهم ولارغامهم علي النزوح منها الي خارجها.. كما يفسر من ناحية اخري تصميم ادارة الرئيس الامريكي بايدن علي تمكين الاسرائيليين بمساعداته العسكرية والمالية الهائلة لهم علي مواصلة الحرب والتصويت في مجلس الامن الدولي ضد وقفها، قاصدة من ذلك ازالة اية معوقات يمكن ان تعرقل تنفيذ هذا المشروع الذي بات ينتظر التنفيذ والذي لا بد ان يكون للولايات المتحدة دور اساسي فيه من كافة النواحي الفنية والمالية..والذي من المتوقع ان يستغرق تنفيذه ثلاث سنوات تصبح بعده قناة بن جوريون الاسرائيلية الجديدة جاهزة للاستخدام كممر مائي دولي..  واذا كان رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو قد خرج علي الاسرائيليين اثر الاعلان عن مشروع الممر البري الهندي الشرق اوسطي الجديد في سبتمبر من العام الماضي خلال قمة العشرين في نيودلهي، ليبشرهم بما سوف يجنونه من ورائه من ثمار اقتصادية هائلة لم يكونوا يحلمون بها وان هذا الممر سيكون بداية مرحلة جديدة في تاريخ دولة اسرائيل وفاصلا بين عهدين.، فلنا ان نتصور ما يمكن ان ينعكس به مشروع قناة بن جوريون اقتصاديا عليهم.. فهو المشروع البحري العملاق الذي سيكون لاسرائيل اليد الطولي في ادارته وفي تحصيل الجانب الاكبر من عائدات المرور في هذه القناة التي تبدأ من اراضي غزة والتي سوف تربط اسرائيل كما ذكرنا بالبحر الابيض المتوسط وبخليج العقبة والبحر الاحمر والمحيط الهندي لتشكل بذلك حلقة الوصل بين آسيا واوروبا.، وهو ما سوف يعني بالنسبة للاسرائيليين طفرة اقتصادية هائلة بكل المعايير تفوق بكثير ما يمكن ان يحققه لهم مشروع الممر البري الجديد.. ولهذا تبقي غزة بوضعها الحالي العقبة الوحيدة التي ما تزال تقف في طريق اسرائيل نحو تحقيق هذا الهدف الاستراتبجي الكبير والذي سوف يكون له بالتاكيد ما بعده من النتائج المهمة في حياة الشرق الاوسط والعالم وايضا بالنسبة لحركة التجارة الدولية والملاحة العالمية بعيدا عن تهديد الحوثيين وغيرهم لها. .فضلا عن انه سوف يعزز ويدعم دور ومكانة اسرائيل كلاعب سياسي. مهم علي المستويين الاقليمي والدولي ككما سوف يجعل منها رقما كبيرا في حسابات المصالح الدولية…او هذا كله مجتمعا هو ما تقوم عليه رهاناتهم للمستقبل…وهي رهانات قد تتحقق او لا تتحقق تبعا لمتغيرات الظروف والاحوال هنا وهناك…. 

 

ثالثا

إن مصر هي اكثر دول الشرق الاوسط المستهدفة بالتداعيات المدمرة لكل تلك المشاريع الاقليمية والدولية التي يجري التخطيط لها بعيدا عنها، بالنسبة لقناة السويس كاحد اهم شرايين التجارة الدولية والملاحة العالمية..وهي القناة التي تنفرد كصر بملكيتها وادارتها وبحصولها علي كل عوائد المرور فيها وهو ما يجعلها احد اهم مواردها من العملة الصعبة، وهو ما لا يريدون له ان يستمر، وذلك بتحويل طرق التجارة الدولية منها الي الممرين البديلين الجديدين..  ومحاولة تجريد قناة السويس من اهميتها التي حافظت عليها عقودا طويلة ولم تكن موضع نزاع او خلاف، لا بد وان يؤثر سلبا وبدرجة كبيرة علي مستقبل خطط ومشاريع مصر التنموية والتي ياتي من بينها واهمها اقامة منطقة اقتصادية حرة عملاقة علي الضفة الشرقية للقناة وهي المنطقة التي تراهن مصر عليها كاحد اهم المناطق الاقتصادية الواعدة فيها.. ومع تحول حركة الملاحة العالمية عن قناة السويس، فسوف تتراجع اهمية هذه المنطقة الاقتصادية ولن تعود تستقبل ما كان متوقعا لها من اقبال المستثمرين الدوليين عليها.أما لماذا مصر هي المستهدفة اكثر من غيرها بهذه الخطط الامريكية والاسرائيلية اساسا.، فإن السبب هو في رأيي ما تتمتع به من ثقل سياسي وعسكري وديموجرافي كبير، وكذلك لدورها كلاعب اقليمي رئيسي.،وهو الدور الذي يسعون الي احتوائه وتحجيمه والحيلولة دون تمدده وانطلاقه الي مديات ابعد واكبر.. وان الطريق الي احتوائها هو باضعافها اقتصاديا باستنزاف مواردها الانتاجية والطبيعية في ظل ازمات اقتصادية خانقة وظغوط زيادات سكانية جامحة،. وهو ما يتصورون انه قد يسهم في خلخلة استقرارها ووضعها في مواجهة تحديات قد تعجز عن التغلب عليها..

 

      واذا كان من المفروض ان تنفيذ هذه المشاريع البديلة لقناة السويس سوف يستغرق عدة سنوات قبل ان يعطي ثماره ويحدث كل هذا. الذي يتوقعونه ويخططون علي اساسه في اعلي دوائر اتخاذ القرار في. امريكا واسرائيل، فانه يصبح لزاما علي مصر ان تستعد هي الاخري بالسيناريوهات المضادة الذكية والمدروسة بعناية للتخفيف بها من وقع هذا كله عليها.. ولا يزال امامها الوقت الذي يسمح لها بذلك..والمهم هو ان تتعامل مع تلك التهديدات والتحديات بالدرجة القصوي من الجدية والاهتمام حتي لا تفاجأ بما لم يكن واردا في الحسبان او يضعها تحت رحمة الظروف.. وتبقي لنا بضع ملاحظات اخيرة حتي تكتمل دائرة الحوار الذي بدأناه، وقد تكون هذه الملاحظات الاخيرة هي اهم ما في الامر كله…

 

رابعا واخيرا 

اعتقد ان ما يفعله الامريكيون والاسرائيليون هو تنفيذ لخطط مشتركة توافقوا عليها في تاريخ اسبق بفترة طويلة من التهديدات الحوثية الاخيرة لحركة الملاحة العالمية في البحر الاحمر.، والهدف هو احداث تغييرات جيوسياسية جذرية وعميقة في الشرق الاوسط، باعادة تشكيل مراكز القوة الاقتصادية والسياسية فيه بما يساعد علي ادماج اسرائيل في هذه المنطقة من العالم كشريك كامل وكلاعب رئيسي من خلال استحداث منظومة جديدة من المصالح الاقتصادية الحيوية المشتركة مع بعض دول الخليج العربية بشكل خاص.، وهو ما لا بد وان يجعل من اسرائيل مع الوقت قوة اقليمية حاضرة وفاعلة ومؤثرة في كل ما يجري في الشرق الاوسط من احداث وعلاقات وتفاعلات في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والامنية والاستراتيجية… وهو الهدف الذي تردده الادارة الامريكية الحالية باستمرار علي لسان الرئيس الامريكي بايدن ووزير خارجيته انتوني بلينكن.. عندما يتحدثون عن ضرورة ادماج اسرائيل مع جيرانها بانماط جديدة من العلاقات، وضمن منظومة مختلفة من المصالح والسياسات والاهداف والاولويات.. وهم يقصدون بذلك تحول اسرائيل بفعل هذه. التحولات الجيوسياسية الجديدة من الهامش والاطراف الي المركز وليكون.لها مكانها المتميز داخل.اهم مواقع اتخاذ القرار في الشرق الاوسط .ولعل اكثر ما يشجع الادارة الامريكية علي التحرك بقوة في هذا الاتجاه،هو وجود القبول والتجاوب الواضح مع توجهاتها المعلنة لدي الاطراف الخليجية التي يركز الطرفان الامريكي والاسرائيلي عليها، وهي تحديدا السعودية والامارات وقطر وسلطنة عمان، وخارج هذه الدائرة الخليجية المباشرة تاتي الاردن بحكم موقعها في قلب الصراع العربي الاسرائيلي وبحكم سجل علاقاتها الحافل مع كل من واشنطون وتل ابيب..وهو ما يجعل من الصعب بالنسبة لهم تجاهلها او تهميشها في خططهم ومشاريعهم، كما انها من بين الدول المشاركة في مشروع الممر البري الجديد مع الهند ومجموعة الشركاء الاقليميين والدوليين الآخرين..وهي بذلك شريك موثوق فيه ويمكن الاعتماد عليه.. لا بخفي أن مثل هذه التحولات الجيوسياسية العميقة في اوضاع المنطقة سوف تؤدي تدريجيا الي تراجع الاهتمام بالنزاع الفلسطيني الاسرائيلي كقضية محورية من قضايا السياسة في الشرق الاوسط، كما سوف يتراجع ترتيبها علي سلم الاولويات العربية بتاثير النمو المطرد للمصالح العربية الاسرائيلية وبالتالي للشراكات الاقتصادية والامنية التي سوف تتولد عنها، وهو ما يعني ان الافاق المستقبلية لتلك العلاقات قد تنفتح وتتطور الي مدي ابعد مما. نتصوره.. وقد يساعد علي ذلك التوصل الي تسوية سياسية مقبولة للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي كحل الدولتين..وقد صدرت تلميحات سعودية عديدة خلال الفترة الماضية علي لسان وزير الخارجية السعودي تؤكد هذا المعني.. وبعده سوف ينطلق قطار التطبيع بين المملكة واسرائيل.. ومنه الي بدءهما سويا مع غيرهما تدشين مشروع الممر البري الشرق اوسطي الذي سلفت الاشارة اليه، ولتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط..ومرة اخري، فإن القضية الحقيقية في كل ما يجري ليست. في ما يفعله الحوثيون اليمنيون في البحر الاحمر، ولا في ما توجههم به ايران ليدعموها به في الصراع الدائر بينها وبين الغرب واسرائيل ، ولكن المشكلة هي في الاستراتيجيات والخطط والسيناريوهات التي تحاول بها امريكا واسرائيل بالتوافق مع بعض شركائهما الاقليميين المقربين منهما الدفع بهذه المنطقة المضطربة وغير المستقرة من العالم في مسارات اخري غير المسارات الراهنة، مسارات يجدون فيها مصالحهم وامنهم ومستقبلهم.. والزمن وحده هو الذي سوف يحكم علي ما اذا كانوا يتحركون الآن في المسار الصحيح ام في المسار الخاطئ…..وان كان رأيي في ذلك هو انهم قد اختاروا المسار الخاطئ تماما وفي اسوأ ظروف مر بها الشرق الاوسط في تاريخه علي يد دولة الارهاب العنصري الاولي في العالم، واقصد اسرائيل.. ولن ازيد..وقد كتبنا عنه ما فيه الكفاية منذ اليوم الاول لحرب اسرائيل علي غزة…

دكتور/محمد علي الطوبجي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى