آراء حرةعربي ودوليمانشيتات

طبقات الهُويَّة المصرية وصراعات قائمة

كتبت د.أماني فؤاد

وقعَت مصر – منذ نهضتها الحديثة، آخِر القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين – فى مأزق الصراع بين الحداثة والأصالة، بين الأخْذ بالتجديد والتطور القادم من أوروبا – الغرب المستعمِر للأسف فى هذه المرحلة التاريخية – أو التمسك بتراث السلف، وعدم الابتعاد عنه، رغم تاريخية الكثير من موروثاته، وتناقضاتها مع المواكبة لمستجدات العصر، وانقسمت الآراء فى هذه المعضلة، التى ظَلَّت تجلياتها حتى لحظتنا تلك، فنحن دائمًا متطلِّعون للتحديث، لأنه سِمة الإنسان القادر على النقد الذاتى والحضارى، والمتأمِّل فى لحظته التاريخية، ومتوجِّسون دومًا من كل ما يأتى من الخارج، تحت دعوَى الحفاظ على هُوَيتنا الشرقية الإسلامية، رغم أننا أكبر المستهلِكين لمُنتَجه الحضارى.

بعضنا يعرف جيدا الأسباب التى تشدنا إلى الوراء، والخطابات الدينية والسياسية التى لا تجعلنا نفارق مواضعنا، نعرف أن قطيعة هناك يتعين أن تحدث، قطيعة مع كل الموروثات من نصوص وخطابات تنافى العقل البشرى ومنطق الأشياء، لكننا لا نجرؤ على المواجهة فى مداها النهائى، لاستفحال وتضخم بعض القوى والمؤسسات فى المجتمع، تضخمها بتأثيرها على القاعدة العريضة من المجتمع.

فى التجربة اليابانية والصينية، لا يوجد هذا الصراع بين التحديث والتمسك بالتراث، ربما لأنهم حين أخذوا بالحداثة لم تكن أوروبا مستعمِرة لأوطانهم، كما لم يرتبط التراث لديهم بسُلطة المقدَّس الدينى، لذا يتجلَّى التجاور والتعايش المنسجِم بين الموروث من العادات والتقاليد اليابانية والصينية فى الثقافة، التى تخُص المجتمع والأُسرة والفرد وقدْرا من الفنون، والتحديث أيضًا الذى يخص كل مجالات الحياة، والواقع فى الدولة ومؤسساتها، الظاهرة بلا شك تندُّ عن هذا التحديد الفاصل، لكنها ضرورات توضيح الفكرة.

بعضنا يعرف جيدا الأسباب التى تشدنا إلى الوراء، والخطابات الدينية والسياسية التى لا تجعلنا نفارق مواضعنا، نعرف أن قطيعة هناك يتعين أن تحدث، قطيعة مع كل الموروثات من نصوص وخطابات تنافى العقل البشرى ومنطق الأشياء، لكننا لا نجرؤ على المواجهة فى مداها النهائى، لاستفحال وتضخم بعض القوى والمؤسسات فى المجتمع، تضخمها بتأثيرها على القاعدة العريضة من المجتمع.

فى التجربة اليابانية والصينية، لا يوجد هذا الصراع بين التحديث والتمسك بالتراث، ربما لأنهم حين أخذوا بالحداثة لم تكن أوروبا مستعمِرة لأوطانهم، كما لم يرتبط التراث لديهم بسُلطة المقدَّس الدينى، لذا يتجلَّى التجاور والتعايش المنسجِم بين الموروث من العادات والتقاليد اليابانية والصينية فى الثقافة، التى تخُص المجتمع والأُسرة والفرد وقدْرا من الفنون، والتحديث أيضًا الذى يخص كل مجالات الحياة، والواقع فى الدولة ومؤسساتها، الظاهرة بلا شك تندُّ عن هذا التحديد الفاصل، لكنها ضرورات توضيح الفكرة.

ما لم يدرِكْه عموم المصريين أن الحضارة المصرية وِحدة مستقلة ومتصِلة، بجانب الحضارة الإسلامية، فالحضارة المصرية أكثر اتساعًا وامتدادًا، مصر إفريقية آسيوية وفى عمق حضارة البحر الأبيض المتوسط الأوروبية، مصر فرعونية يونانية رومانية فارسية عربية، مصر فرعونية ديموطيقية قبطية عربية، مصر أيقونة متفردة فى التاريخ، لذا فعناصر هُوَيتها متراكمة ومتفاعلة، منصهرة فى العديد من المعطيات الحضارية، ومنعكسة فى صور شتى على المواطن المصرى الذى تلقى الاهتمام وحسن الإعداد.

قد يرى البعض أنه لا خشية على الهُوَية المصرية لتراكُم مكوِّناتها وأصالتها، ولجذورها الضاربة فى أعماق التاريخ، لكننى أدعو لإعادة إنعاش كل مكوِّناتنا الحضارية، والتمسك بعناصرها ومفرداتها كافة، وإحياء مساحتها المضيئة، وهى محاطة بحالة من الفخر للأجيال الجديدة والنَّشْء. كما أدعو للبناء المستمِر عليها، تحت حقيقة حركية الهُوَية والإضافة المستمرة لها.

كان قد ساد خطاب منذ عقود، ومن خلاله تمَّت السيطرة على البسطاء بدعوى أن نصوص الدين – وتفسير السلف لها – يجب أن تجُبَّ كل ما سبقها، تلقيه من خلفها ليصبح همها الأساسى الكتاب والسنة وما نشأ حولهما من علوم، وفى مرحلة لاحقة تعين اتباع بعض الأئمة، وأغلق الاجتهاد، ولذا ترك الأغلبيةُ عقولهم لآخَرين يفكِّرون عنهم ولهم.

وحرصًا على استمرار الهُوَية المصرية الخاصة وتحديثها المستمر، أقترح عددًا من التوصيات القابلة للتنفيذ، لئلا تتغوَّل التحولات السلبية، التى استجدَّت على الشخصية المصرية على هوية المصريين.

– أولا: العمل على فَضِّ الاشتباك التاريخى بين التحديث الحتمى والأصالة، الأصالة التى أعدها تعبيرا عن ذواتنا وقِيَمنا وأصولنا، والتمسك بالمضىء والإنسانى فقط من الموروث، والبناء فوقه، وعَيْش عصرنا بكل علومه وثقافته، والمشارَكة فى صناعة المستقبل.

– السعى الحثيث لإصلاح الخطابات الدينية، وغربلة ما ترفضه العقلانية والفطرة الصحيحة، وإبراز كل ما يحضُّ على التعقل والتعدد والتسامح، والقطيعة مع النصوص الموروثة الملتبسة، التى تجاوزتها اللحظة التاريخية، وتَرْكها فى مساحات التعبُّد.

– فتح المجال للحريات، حرية التعبير عن الأفكار، حرية التجريب العلمى، حرية الإبداع، وبناء حياة سياسية حزبية حقيقية، وتشجيع مبادرات المجتمع المدنى، وتشجيع المبادرات الفردية، وتذليل الصعاب أمامها.

– الرصد الدقيق للتحولات السلبية والإيجابية فى الشخصية المصرية، عن طريق المؤسسات الاجتماعية المتخصصة، مثل مركز البحوث الاجتماعية والجنائية، وأن يتوفر لهذا مجموعة من أفضل الباحثين، ورصْد كل التحولات وأسبابها، ثم العمل على سَدِّ المنافذ والأسباب، التى تجعل تلك التحولات لغير صالح المصريين وشخصيتهم الاعتبارية، وهنا أعنى الجانب الاقتصادى، حيث محاولة زيادة معدلات التنمية والارتفاع بمستوى دخْل الأفراد فى المجتمع المصرى، وترقية الجانب الثقافى والمعرفى، لينطبع على السلوك. وأشرُف بضَمِّ سلسلة من المقالات كتبتُها الشهور الماضية فى جريدة «المصرى اليوم» عن تحولات الشخصية المصرية – كما رأيتها وحللتها – لأوراق هذا الرصد لو تم إعداده.

– الاهتمام بالثقافة والتعليم واللغة العربية، ورفْع الميزانيات المخصَّصة لهذه القطاعات الخدمية، التى تصُب فى مستوى الوعى بالذات الإنسانية، وبمقومات الحياة، ومن ثم تسهم فى بنية الهُوَية، وتنمية الذات البَشرية التى هى أصل كل تقدم وتنمية، والدفع بتنمية الفنون بكل أنواعها وأشكالها، والحرص على القيمة الجمالية والفكرية والعادات والتقاليد الخاصة بها.

– توحيد أشكال التعليم وأنواعه فى مصر، للحفاظ على هُوَية مصرية متَّسِقة، تحمل ذات المعارف والأنشطة واللغات، ذات السلوكيات، تعليم ينمى الانتماء لمصر الوطن.

إن تعدُّد أنواع التعليم فى مصر يُنذِر بنتائج غير إيجابية، فهناك التعليم الدينى الأزهرى، الذى طالما كتبنا- أنا وآخرون- عن ضرورة دَمْجِه فى التعليم الحكومى، ثم هناك التعليم الحكومى، والتعليم الإنترناشيونال، والدولى بأنواعه، مع ملاحظة اختلاف مناهج ولغات كل تعليم عن الآخَر، ويتبادر فى هذا المقام طرح سؤال منطقى، كيف من خلف هذا الشتات فى أنواع التعليم أن نهيئ لشخصية اعتبارية مصرية متسقة الملامح، تعرف التاريخ الوطنى ذاته، وتعبر عن نفسها بلغة ثقافتها، وتستطيع التعبير عن ملامحها الفكرية والوجدانية الممتدة الخاصة؟ هذا مع ملاحظة ما تصنعه هذه الأنواع التعليمية من طبقية فى عملية التعليم، وهو ما ينذر بأخطار من نوع آخر.

ــ الاهتمام بالتاريخ المصرى القديم وتدريسه، حيث تَمَّ التعتيم للأسف طويلًا على هذه المرحلة الممتدة من التاريخ المصرى، وإهمال تاريخِ الأُسر وإنجازاتِ الحضارة المصرية القديمة فى مناهج المراحل التعليمية المتتابعة، هذا الإهمال الذى شمل الإعلام والمشهد الثقافى بصفة عامة، فمنذ بدأ الانقطاع بين المصريين ولغاتهم القديمة، بتعمُّد من الذين تناوبوا احتلال مصر، بدأ الانفصال عن الجذر المعرفى والفنى المضىء لدى المصريين، الانفصال عن العلوم والمعارف التى جعلت مصر فجر البشرية المضىء.

– وضْع التاريخ المصرى بكل مراحله ضمن خريطة إنتاجية للدراما السينمائية والتليفزيونية، هذا عدا صناعة مادة إعلامية، تصلح لمواقع التواصل الاجتماعى، لنَشْر كل جوانبه المضيئة التى تساعد المصرى على أن يفخر بأصوله التليدة، حيث الدراما والصورة هى الأكثر انتشارًا بين الأجيال الجديدة، مع ضرورة تدخُّل الدولة بمؤسساتها لخلْق حالة من التوازن والقيمة فى الأعمال المنتَجة إعلاميًّا، لإعلاء دولة القانون والعدل، والابتعاد عن الابتذال والإسفاف والخفة التى أصبحت سمة غالبة على ما يتم إنتاجه.

ــ يحتاج المصريون بقوة إلى إعادة طرْح أفكار التنوير فى الإعلام، والابتعاد عن السطحى والتافه من مواد تعمل على تغييب العقول المصرية عن قضاياها المصيرية، وإعادة طرْح أفكار أعلام التنوير، لتمتلك الجموع أدوات المعرفة لفهْم وتقييم تجاربهم التاريخية، وهو ما سيدفع بتكوين العقل الناقد، ليزيحوا ما وَقَرَ فى عقولهم التى تم تدجينها بالفعل من خطابات القوى الرجعية.

– الوعى بأن الهُوَية معنى وكيان غير متكلِّس أو ثابت، بل متحرك يقْبَل الإضافة الدائمة لكل ما يدعو لثراء الإنسان على هذا الكوكب.

– معاودة طرح القيم الأساسية التى تشكل التكوين الإنسانى الفعّال لذاته ومجتمعه، مثل قيمة العمل وتحمل المسؤولية، تشارك المسؤوليات والهم العام، لا شخصنة كل القضايا، وبحث كل فرد عن ذاته فقط.

وبالرغم من هذا الصراع الذى يتبدَّى كل حين، وبشكل دينى أو اجتماعى، استطاعت مصر دومًا تمييز هُوَية خاصة بها، وهو ما يوحى بالأمل.

ولعلنا نتساءل: لماذا تُضفى مصر على الأشياء والمناسبات بصماتِها الخاصةَ التى نادرًا ما نجدها فى بلد إسلامى آخَر، فرمضان مناسبة تخصُّ المسلمين كافة، لكنَّ المصريين هم فقط من ميَّزوا له طقوسًا وعاداتٍ خاصةً مميَّزة وجالبة للفن والفرح؟.

أحسب أن الإنسان يهيِّئ طقوسًا للمناسبات عندما يمتلك مخزونه المعرفى وموروثاته الفلكلورية والأسطورية، فنتيجة لموروثه الثقافى – الذى تراكَم عبْر قرون وحضارات متتابعة – تربَّت لديه ذائقة ورؤية خاصة، حيث لا يصنع هذه الطقوس إلا مجتمع لديه ما يجادِله ويبنى عليه، لديه هوية وخصوصية تتفاعل وتتجدد، يجدِّد ماضيه فى الحاضر، الذى ربما بدَا له متجهِّمًا، المصريون جماعة بَشرية لا ترضى بدور المستقبِل فقط لما يأتيها، أو يُفرض عليها، فلديها أصول شجرة المعرفة كما يذكُر: (سيمسون نايوفتس) فى كتابه «مصر أصل الشجرة»، شعب لديه رؤية للوجود، يحتفى بالحياة، كما يملك مقدرة التعبير عنها بكل أنواع الفنون الإبداعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى