إبداعات أدبية

طه العبد يكتب.. حكاية فلسطينية

 

 

 

 _هذه الحكاية تتردد في معظم ازقة مخيمات اللاجئين في لبنان 

إنها علامة مسجلة للاسر الفلسطينية

النص

فُسْحَةٌ للرُّوح

للمَطَرِ الخَامِلِ

للقَوارِيرِ عَلى شُرفَةِ جَدَّتِي

للأبَارِيقِ الّتي سَقَتْ كُحلَها واليَاسَمِين

فُسحَةٌ للمَوجِ في الرّوحِ

في الأعصَابِ

في التَّواقِيتِ مَا قَبلَ الحَنين

فُسحَةٌ ليَكْتَشِفَ الّذينَ لَم يَكْتَشِفُوا شَيئًا

أُمنِيةً تُوصِلُهم إلى بَرِّ الأمانْ

للنَّهرِ كَي يَجْرِي عَلَى مَهَلٍ ويَغْسِلَ جُثَّتِي

ويَزْرَعَ بَينَ أَصابِعِي طَميَ الزَّمَان

كَانْ

يامَا كَانْ

وجَدَّتِي تَشوِي حَكَايَاها عَنِ الحَقلِ مَزرُوعًا

وعَنْ يَومِ الحِسَابْ

جَدَّتِي لَم تَعْرِفِ الجَزْرَةَ

ولَم تُدرِكْ مَعنَى العَصَا

لكنَّها زَغْرَدَتْ

ولَوَّحَتْ بِمِنْدِيلِها يَومَ خَرْطَشَ وَالدِي أوَّلَ بُنْدُقِيَّة

لمْ تَدْخُل في وَحلِ الحُلولِ ولَمْ تُدَقّقْ في مَعَاييرِ الأمَانْ

ولمْ تُصَفّقْ لخِطْبَةٍ عَصمَاءَ في السِّيَاسَة،

لم تُصَوّتْ لِدَرءِ فِيتُو عَلى نُموّ الأُقحُوانْ

فُسحَةٌ للرُّوح

رَأَتْ جَدَّتِي أرضَها في الجَليل، فقالت:

– كان بَيتِي هُنا

قال أبي: هَذا أَخْمَصُ بُنْدُقِيَّتِي

فَتَنَبّهتْ، الأَخْمَصُ الخَشَبيّ يُشْبِهُ لَيمونَ يَافَا

– أَرَأَيتَ كَيفَ يُثْمرُ البُرتُقالُ في يافا؟

 وزَغْرَدَت،

– هَذا برتُقالٌ لم تُشاهِدْ مِثْلَه

ردَّ أبي:

– أمَّاه، هَذي رُمَّانَةٌ تَزْعَقُ فَوقَ صَدْري،

وذِي جَعْبَةٌ، وتِلكَ قَارُورَةٌ للمَاءِ تَصُدُّ عَنّي عَطَشَ الجِبَال

جَدَّتي السَّاهِمَة، مازَالَتْ تُحَدِّقُ في البُندُقِيَّة

– هذَا عِنَبُ الخَلِيل، وكأنَّما هَذا الزِّنَادُ دَالِيَةٌ فاقْطفْ عنَاقِيدَكَ يا بُنيَّ مِنْها، واعصرْ كَرْمها جيلاً فجيلْ

وَضَحِكْتُ في صَمتي، والصَّمْتُ أبْلَغُ من حَنينْ

وكَأنَّما الصّمتُ مَنشُورٌ يُعَلَّقُ في المخَيَّمْ

 عَلى الجُدرانِ كَي يَلِدَ الأَنينْ

وجَدَّتِي لَمْ تَزَل تَرى في بُندُقِيَّةِ وَالدِي أَرضَها

ما زَالَتْ تَحْمِلُ غَيمَةً فِلَسْطِينِيَّةً في قَلبِها،

وتريدُ منهُ أنْ يُوَسِّدَها الجَبينْ

– يا جَدَّتِي…

– أُسكتْ يا وَلَدْ

– يا جدتي…

– أصْمُتْ يا ولد، وانْظُر إلى أَرْضِنَا عَبرَ هَذا الزنِّادْ، 

هذِهِ أرْضُنا تَمتَدُّ مِن فَوْهَةِ بُندُقِيَّةِ وَالِدِك، 

حتَّى جَاروشَةِ البَيتِ في دَارِ جَدِّك

تَعالَ وانْظُر كَيفَ يَرْسُمُ لي أَبوكَ بلادَنَا عَلى صَفحَةِ خَدّك!

كَيفَ يَزرَعُ شَوكَةَ الصَّبَّارِ في دَربِ اليَهودْ!

وكَيفَ يَسرِي في ظَلامِ اللّيلِ خَفَّاقَ البُنُودْ!

لم أفهَمْ وقتها شَيئًا،،

كنْتُ طِفلاً سَيّئًا جِدًّا، أَعبَثُ بالطَّحِينِ ومُونَةِ البَيتْ،

كنتُ طِفلاً، يَمشِي المِشْيَةَ العَسْكَريَّةَ خَلفَ اليَافِعِينْ

ويُرَدِّدُ مِثلَهم: ((فَلَسْطِينْ فَلَسْطِينْ ضَيَّاعُوكِ البَيَّاعِينْ))

لمْ أًفهم أنَّ في الأحزانِ أَحزَانًا

وأنَّ أيلُولَ الأسْوَدَ، كَتَلِّ الزَّعْتَرِ، كَصَبرا وشَاتِيلا

وقبيةَ أو كَكَفْرِ قَاسِمْ

كأَرغِفَةِ الجِياعِ في بَطنِ الملاجِئ

لم أَفهَم وَقتَها أنّني ابنُ لاجِئ،

مِثلُه لاجئ

ولَمْ أُدرِك أنَّ أحلامِي ستَكْبُر مِثْلَمَا أكبر 

بين المرَاثِي والمنَافِي والمَرَافِئ

ولم أُحِسَّ بوالدي،

حينَ قَبَّلَني وسَارَ خَلفَ أقرَانِه بِمِشْيَتِي العَسْكَريّة.

وضَحِكْت، والدي يَمشِي مِثلَمَا أَمشِي،

من عَلَّمَه؟!! يُقَلِّدُني، كَمَا قَلَّدْتُ اليَافِعِينْ

وجَدَّتِي تُزَغْرِدُ

والدِي في الغَبارِ البَعيدْ

سأُعَلّمُه الزَّحفَ تَحتَ السّلكِ كَمَا فَعَلْتُ أنا 

وكَيفَ يَختَبِئُ خَلفَ مِتراسٍ على بَابِ المخَيَّمْ

سأقُولُ له عِندَما يَرْجِعْ:

– قَلّدْني مَا دُمتَ تُحِبُّ لُعبَةَ الحَربِ مِثلي

وانتَظَرْتُ مَجيئَه زَمنًا طَويلا

وجَدَّتِي تَقول:

– رحَلَ الحَبيب، سَنَرجِعُ يَوما .. خَبَّرَني العَندَلِيبْ

وأنا أُحَدّقُ في صُورَتِه على الجِدَار

كانَ يكبُرُ كلَّ دَقِيقَةٍ عَامًا وعَاما وعاما

وجَدَّتي كَذلك

وجَدِّي يَنحَنِي ظَهرُه كُلَّما صَوَّبَ عَينَيهِ نَحو الجَنوب،

خُشوعًا واحتِرَامَا

ووالدي مُنذ آخِر قبلَةٍ غَابَ عَني تَمامًا تماما

غاب سُجودًا وقِياما

لم أعلّمْه التَّمَترُسَ،

أو الزّحْفَ تَحتَ السّلكِ

لم أُعَلّمْهُ الحِراسَةَ في اللّيلِ

لم أعلِّمْهُ الصُّمودَ في بَيروتَ عَامَ الاجتِياحْ

ولم يَعْرفْ، أنّ أطفَالَ (الأربي جي) هُم نَحنُ

والرّفاقُ في المدَارس

لم أَرَه مُنذُ غَاب غبَارا وغَمَامَا

 

منذُ أن عرّش في قَلبي الخُزامَى

منذُ آخِر قُبلَةٍ ،، إلى أنْ عَاد بعدَ عِشرينَ عَاما وعاما

في صَفقَةٍ لتَبادُل الأسْرى والرّفاة

كان مَسجيًا، نائِمَا في نَعشِه ،، بَردًا وَسَلامَا

شُموخًا عابقا .. 

وعِظامَا

طه العبد

من مجموعة 

*جميز الأسى على أعناقنا*

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى