من منا لم يعرف محمود سعيد الفنان صوتا وصورة
صاحب دور خالد بن الوليد في فيلم الرسالة وادوار كثيرة عبر مسيرة حافلة بالعطاء .أما أنا فعرفته فنانا وإنسانا ومناضلا وطنيا من يافا .. عرفته عن قرب، كان صديقي عملنا معا في عدد كبير من البرامج الوثائقية ، جمعتنا صداقة وطيدة ووثيقة وهموم كثيرة. رحل في ٣٠ ديسمبر ٢٠١٤
فكتبت وقتها في رثائه هذا النص
*مرثية الفارس*
إلى صديقي الفَنّان محمود سعيد
(1)
محمودُ لمْ يرْحَلْ فهذا صَوْتُهُ
جَمَعَ السَّكِينَةَ فِي المَساءِ وغابَا
سيعودُ من وَرَقِ الصَّنَوْبَرِ مُبْدِعًا
سَكَبَ الفُنُونَ على يَديهِ وذابا
إحساسُه الفنّانُ فينا قائِمٌ
زَرَعَ الرّجولَةَ دفترًا وكتابا
خلّوهُ غَافٍ فَارسٌ مترجّلٌ
تعِبَت يداه وأتعَبَ الأهدَابَا
قالُوا استَراحَ فقُلْتُ فِيهِ حُزْنُنا
ما زال يعزِفُ للرّباب ربابا
هذا صديقي لا يريدُ حكايةً
كَتَبَ الحَكايا واستعَاد جوابا
هذا صديقي راقِدٌ في قَبْرِه
منْ للوَحِيدِ يُهَدْهِدُ الأبوابا
(2)
محمُودُ لم يرحَل فهذا قَلْبُه
ما زالَ يطلِقُ للأسى أطيارَه
حَمَل المحَبَّة عَبْرَ يافا تَائِهًا
والفجرُ يزرَعُ في النَّدَى أقمَارَه
من أينَ أبدأُ في رثَاءٍ شجَّني
هذا الّذِي مَلَكُ الرّيادَةِ زارَه
فأصاخَ للفَنّ العظيم وقد بدا
عِندَ العَشِيَّةِ كي يوقّدَ نارَه
حمَلَ البلادَ ولمْ تَزَلْ أعبَاؤُها
مثلَ الرّحيلِ وقد مَلَتْ زنَّارَه
سَكَبَتْ فصولُ الأرض في يَدِه ندَىً
وأتَى الرّبيعُ مُقدّمًا أزهارَه
صَعَدَت إلى جَبَلِ التَّهَجّدِ روحُه
وتَمَدَّدَ الجُثْمانُ يَعْشَقُ غارَه
(3)
يا فَارسَ البَيْداءِ خَيْلُكَ حَمْحَمَتْ
لمّا أراحَتْ سَرْجَهَا ورِكَابَها
هلّا أعَدْتَ إلى الخُيولِ صَهِيلَها
وأرَحْتَ مُهرَةَ رُوحِها وخَبَابَها
هذي طيور القدس جَاءَتْ كُلُّها
حملَتْ إلى جفن الرّدَى أسرَابَها
كَي ترفَعَ النَّعْشَ المُسجّى نحوَها
لتُزِيرَه قُدْسًا يَشُمّ قِبابَها
فاهنأ لأنّ الأرض موعِدُنا الّذي
فيه انتَظَرْنا بالحُضورِ غِيَابها
أَرثي بلادِي حِينَ أَرثي شَامِخًا
منها يُرَصِّعُ للجِبَال هِضَابَها
(4)
يا عَينُ لا تَبكِي عَلى رَجُلٍ أتَى
مِن شَارِعٍ أَلِمٍ يُعمِّدُ حُزنَنَا
في قُدْسِه اجتَمَعَتْ حَرَائِقُ نفسِه
فغدا يُخَفّفُ بابتِسَامٍ هَمَّنَا
والرّوحُ يملؤُها أَسى بتكتُّمٍ
فكأنه سِفْرُ النّدَى وكَأَنَّنا
جِئْنَا لِنَحمِل عَنه جُرحًا نازفًا
سَبَقَ الرّياحَ لكي يُضَمِّدَ جُرحَنا
محمودُ لم يَرْحَل رَأيْتُ ظِلالَه
فِي زَهرَةِ الصّبارِ تَعزِفُ مَيْجَنَا
وَسَمِعْتُ لَحْنَ الرِّيحِ يهتِفُ باسمِه
ولَمَسْتُ في دَارِ الفِدا ما قَدْ بنى
وشَمَمْتُ من أَرْضِ الجَليلِ زهورَه
كانَتْ تَمُدُّ اليَاسَمِينَ إلى هُنا
ما كُلُّ هذا المَوتِ يَأتِي بَغْتَة
فيُمِيتُ قَبْلَ النّفسِ بَهجَةَ قَلْبِنَا
(5)
أنا لا أريدُ رثاءَه فَهُو الّذي
يَرْثِي بنَا زَمَنَ الوَفَاءِ عِتَابَا
غَرَقٌ هو الإبحارُ فارحَلْ يا أَخي
وامْلأْ سفِينَكَ ثَورَةً وعُبابا
حتْمًا ستَلقِى في رَحِيلِكَ عِطْرَ مَنْ
حَضَنُوا السّمَاءَ لِيستَعِيدُوا تُرابا
كمْ مجرِمٍ هذا المَواتُ وسَادِرٍ
سَكَبَ الهُمُومَ وزَيَّنَ الأكوابا
واستَلَّ من ابدَاعِنَا رُوحًا غَدَتْ
شَجَرًا مِنَ الفَنِّ الأَصِيلِ مُهابا
يا موتُ قُل لِي كَيفَ صِرْتَ مُهَنْدِسًا
أَطلَقْتَ سَهْمًا نَحْوَنَا فَأَصَابا