عبد الحليم قنديل يكتب.. الضربة المعلقة
على مدى يفوق العشر سنوات إلى اليوم، كانت التوقعات تعلو وتهبط، ويجرى إعداد الخطط المفصلة لحرب ضد إيران بهدف إجهاض برنامجها النووى، ولكن من دون أن تقوم الحرب الشاملة الموعودة ، وإن توالت ما تسمى “المعارك” بين الحروب ، وفى صورة هجمات استنزاف للوجود الإيرانى وجماعاته فى سوريا والعراق ، أو اختراقات أمنية ومخابراتية و”سيبرانية” فى الداخل الإيرانى ، وقتل لعلماء أو قصف لمنشآت ، وكانت طهران ترد بدورها ، وتنتقم على طريقتها برا وبحرا ، وتطور برامجها النووية والصاروخية وطائراتها المسيرة فى الوقت نفسه ، وتستفيد من تغيرات فى البيئة الدولية والإقليمية ، وبصورة جعلت افتراض الهجوم الإسرائيلى أو الأمريكى ـ الإسرائيلى عليها مجرد وعد معلق ، وغير مضمون النتائج ، حتى إن حدث؟
وقد نكون اليوم فى لحظة ترقب ساخنة ، تدعمها تقارير وتسريبات تنشر فى “الميديا” الأمريكية ، وزيارات أمريكية مهمة تتدافع إلى “إسرائيل” ، لن تكون آخرها زيارة وزير الدفاع الأمريكى الجنرال “لويد أوستن”، وقبلها زيارات عمل طويلة للجنرال “مارك ميلى” رئيس أركان الجيوش الأمريكية ، و”جيك سوليفان” مستشار الأمن القومى الأمريكى ، و”ويليام بيرنز” مدير المخابرات المركزية الأمريكية ، والجواب ظاهر من عنوانه ، الذى تؤيده وتؤكده تدريبات ومناورات مشتركة بين القوات الأمريكية والجيش “الإسرائيلى” ، بعد دمج “إسرائيل” من سنوات فى تكوين ما يسمى “القيادة المركزية الأمريكية” ، التى صارت تضم فى نطاق عملها مع “إسرائيل” ، كل الدول العربية فى غرب آسيا إضافة لمصر ، وفى المنطقة أكبر عدد من قوات البنتاجون خارج الأراضى الأمريكية ، وأكبر القواعد الأمريكية العسكرية الثابتة الموزعة من شاطئ البحر المتوسط حتى شواطئ الخليج ، وتجهيزات الأسطولين الأمريكيين الخامس والسادس ، وبرامج المناورات المشتركة الدورية مع دول عربية معروفة ، وهى تركز فى عملها اليومى على مطاردة الخطر الإيرانى ، ومصادرة الأسلحة المرسلة من طهران إلى “الحوثيين” باليمن وغيرها ، وتحت شعارات رائجة من نوع حماية أمن مداخل البحر الأحمر وبحر العرب ، والتصدى لتحركات إيران العسكرية عند “مضيق هرمز” ، وفى بيئة سياسة ، طورها السعى الأمريكى لتمكين “إسرائيل” من إقامة علاقات عميقة متنوعة مع دول عربية على طول خط الجبهة الافتراضى تحت عنوان “اتفاقات إبراهام” ، وقد شملت “السودان” مع دولتى “الإمارات” و”البحرين” ، وبما يمكن “إسرائيل” من إقامة نقاط ارتكاز على حافة الحدود الإيرانية ، إضافة للتعاون اللصيق بالطبع مع القواعد الأمريكية الكبرى فى بلدان الخليج المجاورة ، وتحويل دولة “أذربيجان” فى شمال إيران إلى قاعدة عسكرية إسرائيلية متأهبة للهجوم ، فضلا عن علاقات عمل عسكرى أمريكى قديم جديد مع بعض دول آسيا الوسطى .
ومؤدى الصورة كلها فى العموم وبالتفاصيل ، أن مسرح الحرب على إيران جاهز ، ومن زمن ، ويتم تحديثه وتنشيطه على الدوام ، كما تكثيف الضغط الأمريكى على بلدان عربية خليجية مضافة ، وبهدف توسيع حضور “إسرائيل” فى الجغرافيا الملاصقة لإيران ، على نحو ما تدل عليه اتصالات الرئيس الأمريكى “جوبايدن” الأخيرة مع سلطنة “عمان” ، وبهدف كسر اعتراضها على مرور الطائرات “المدنية” الإسرائيلية فى أجوائها ، تسهيلا لكسب جدوى موافقة “سعودية” سابقة على الأمر نفسه ، وربما استثمارا لصلات “عمان” الخلفية الوثيقة مع طهران ، والمعروف أن الدبلوماسية “العمانية” قامت بأدوار غير منكورة فى جهود التوصل لاتفاق 2015 النووى مع إيران ، قبل أن تلغيه وتنسحب منه واشنطن عام 2018 ، وتعاود تشديد عقوبات الحد الأقصى على طهران ، وهو ما أثبتت الأيام والحوادث فشله فى ردع إيران ، التى طورت وسائل وأساليب مؤثرة فى تخفيف أثر العقوبات من جهة ، وفى الاستفادة من انسحاب واشنطن لتعميق برنامجها النووى ، ومضاعفة نسب تخصيب اليورانيوم ، حتى وصلت رسميا إلى 60% ، بدلا من نسبة 3.67% المنصوص عليها فى الاتفاق النووى المتروك جانبا ، والذى أخفقت مفاوضات إحيائه فى “فيينا” وغيرها ، ثم عمدت القيادة الإيرانية لتجاوز القصة برمتها ، وإجراء تخصيب تجريبى بنسبة تناهز 84% فى منشأة “فوردو” ، وهو ما يقترب من نسبة التسعين بالمئة اللازمة لإنتاج القنابل الذرية ، ولا تخفى إيران قدرتها على التخصيب اللازم ، وزيادة نسبة تخصيب مخزونها من اليورانيوم المخصب ، وقد تجاوزت كمياته ما كان متفقا عليه بثمانية عشر مثلا ، وسبق أن أشار “كمال خرازى” مستشار المرشد “على خامنئى” ، وأعلن اكتمال المقدرة الفنية لإنتاج القنابل الذرية ، وإن قال أن هناك “فتوى” تحظر وتحرم إنتاج السلاح النووي.
وقد لا تكون حكاية “الفتوى” جامعة ولا مانعة ، فقد ألغت طهران من قبل فتاوى دينية لاعتبارات السياسة ، خصوصا مع التقدم المنظور فى إطالة مدى صواريخ إيران الباليستية ، ومع التغيرات المرئية فى توازنات المسرح الدولى ، التى يبرز فيها دور الصين وروسيا بمواجهة طغيان أمريكا والغرب ، وطفرات التعاون العسكرى والنووى بين طهران وموسكو بالذات ، وهى تعين إيران على تطوبر سلاحها ودفاعها الجوى ، بصفقة طائرات “السوخوى ـ 35” ، وبصفقات أخرى ، بينها تزويد إيران بصواريخ “إس ـ 400” فائقة الأثر فى الدفاع الجوى ، وهو ما يضاعف صعوبة انفاذ خطط ضرب منشآت إيران المحصنة جبليا ، وشن حرب مدمرة على إيران ، توافرت تجهيزات مسارحها ، وتكاملت تحالفاتها وأطواقها الجغرافية ، إضافة لتطوع البعض “خليجيا” بتحمل كافة التكاليف المالية المطلوبة ، ربما بدواعى الخوف من ضراوة وكثافة التدخلات الإيرانية ، وهى مرشحة للتضاعف طبعا مع اجتياز إيران للعتبة النووية .
وبافتراض شن الضربة الأمريكية الإسرائيلية المتصورة ، ثم بافتراض نجاحها فى تحقيق هدفها المعلن ، وهو افتراض جدلى تماما ، قد لا يعنى شيئا كثيرا ، فالأهم فى الموضوع النووى ليس المنشآت ولا المفاعلات وأجهزة الطرد المركزى ، وكل ذلك قابل لإعادة البناء إن جرى تدميره ، وتبقى المعرفة النووية الهائلة التى اكتسبتها إيران ، وهى العنصر الحاسم ، ثم أنه لو جرت ضربة من هذا النوع ، فسوف تبدو كمبرر كاف بيد إيران لتسريع إنتاج قنابلها الذرية ، وباعتبارها ضمان حماية وبوليصة تأمين ضرورى للنظام الإيرانى ، الذى سوف تزداد شعبيته ، إن شنت “إسرائيل” وأمريكا ضربتها الموعودة ، وبما يسهل على النظام تجاوز المآزق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، التى أشعلت انتفاضات غضب عارم ضده ، استمرت أحدثها لشهور ، وحظيت بدعم ظاهر أمريكى وغربى و”إسرائيلى” مع أطراف أخرى ، ولم ينجح النظام فى وقفها بغير القمع الواسع النطاق ، واستنفار قواعده الشعبية المذهبية المتعصبة ، ونصب مشانق الإعدام للمعارضين والمتمردين ، وقد لا يكون النظام بحاجة إلى تفاسير مضافة لقمعه ، إن شنت عليه حرب العصف الأمريكى الإسرائيلى ، أضف طبعا ما توافر للنظام الإيرانى من دوائر نفوذ متسعة عبر عقود الهوان العربى ، مدت حدود إيران الاستراتيجية إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر ، ولا أحد عاقل واقعى ، يتصور أن “حزب الله” فى لبنان مثلا ، قد تصمت صواريخه وتسكن طائراته المسيرة المتطورة ، وقد صارت أكبر ترسانات السلاح فى المشرق العربى كله ، إذا هوجمت إيران مصدر الوحى والدعم والتسليح والتصنيع الحربى الذاتى ، وهو أكبر خطر يتحسب له كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وقد لا تجدى فى صده سلاسل صواريخ “باتريوت” الأمريكية المنصوبة فى دولة عربية مجاورة ، ولا قباب إسرائيل الحديدية ، التى ذابت تحصيناتها فى معارك أصغر مع “حماس” و”الجهاد” فى حروب غزة ، ناهيك عن خطورة الرد الإيرانى المباشر على قواعد أمريكا الخليجية ، وإشعال مناطق الخليج والشرق العربى جميعه ، وكلها حسابات بالغة التعقيد ، قد تدفع إلى تأجيل الضربة مع ألعاب المناورة الإيرانية فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية ، وقد تدفع الأطراف العربية المستعدة للمشاركة فى الحملة الإيرانية إلى مراجعة حساباتها ، وقد تحسن لنفسها إن فعلت بغير إبطاء ، واتجهت لمعالجات أخرى ، تفصل اعتباراتها الذاتية عن الخطط الأمريكية الإسرائيلية ، فمن حقها التخوف من الخطر النووى الإيرانى المحتمل ، لكنها تغفل عن الخطر النووى “الإسرائيلى” المتحقق بمئات القنابل ، وما من بديل جدى فى الحالين ، سوى ببناء رادع نووى عربى ، لا تنقصه الأموال ولا الخبرات الفنية ، بل تنقصه ـ فقط ـ جدية القرار والإرادة العربية المشتركة ، فى عالم لا يحترم سوى الأقوياء ، وتأكل الذئاب فيه الحملان ، وتوافر الإرادة السياسية هو الحل الغائب ، الذى يوفر للخائفين العرب مكانا تحت الشمس ، ومقدرة على إدارة حوار الند للند مع طهران وغيرها ، هذا إن خلصت النوايا واستقامت الطرق ، وبالذات مع يقظة الشعب الفلسطينى ، وصحوته لاستعادة حقوقه التاريخية ، ومقاومته التى تنهك كيان الاحتلال الإسرائيلى ، الذى يظل عدو الأمة الأول ، مهما وضعوا على وجهه القبيح من مساحيق التجميل ، وجعله بعض حكام الغفلة صديقا موهوما ، أولى بالرعاية والريادة .
[email protected]